بسم الله الرحمن الرحيم
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استُنفرتم فانفروا)) صحيح البخاري (2783) وصحيح مسلم (1353).
مقدمة:
كانت مكّة هي عاصمة الكفر في جزيرة العرب، وكان أهل مكة أعظمَ المكذِّبين بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأقوى المحاربين للدّعوة الإسلامية، فلما يسَّرَ الله لنبيّه صلى الله عليه وسلم، فتحَ مكَّة في العام الثَّامن من الهجرة، دخل الإسلام إلى مرحلةٍ جديدة، هي المرحلة التي يجيء في سياقها هذا الحديث الشّريف.
معنى الحديث:
*قول النَّبيّ صلى الله عليه وسلَّم: ((لا هجرةَ بعد الفتح))، أي أنّ الهجرة من مكّة أو غيرها إلى المدينة، لم تعُد واجبةً كما كانت، لأنَّ موجب الهجرة قد انتهى، وسببها قد انتفى، فقد كانت مكّة دارَ كفر، لا يستطيع من بقي فيها أن يُظهر دينه، ولا أن يُبدي إيمانه، فكان بقاء المسلم فيها، خطراً على دينه وإيمانه، فلذا كان قد شُرع للمؤمنين أن يهاجروا من مكة وما سواها إلى المدينة، فراراً بدينهم ونُصرةً للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما فُتحت مكة، انتفى موجب الهجرة.
*وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((ولكن جهادٌ ونيّة))، بعد أن بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم انقطاعَ هذا الباب من أبواب الخير، وهو الهجرة من مكة إلى المدينة، وجّه المسلمين إلى أبواب أخرى من أبواب البرّ، ذكر منها باباً خاصّاً هو باب الجهاد، أي قتال الكفار، من أجل إعلاء كلمة الله. ثمّ ذكر باباً عامّاً، وهو باب النّيّة، والمقصود بها كلُّ عملٍ صالح يحتاج إلى نُقلةٍ إذا ابتغى به المرء رضوان الله، فالنية هي كلُّ انتقال من مكانٍ إلى آخر، طاعةً لله عزّ وجلّ، كحال من يخرج من بيته، مهاجراً لطلب العلم في بلد غير بلده، ومَن سافر لصلة رحمٍ، أو لإغاثة ملهوفٍ، أو لمرافقة مريضٍ، فكلّ واحدٍ من هؤلاء يُعتبر مهاجراً، وله من الأجر بقدر ما قام في قلبه من نيَّة الصِّدق والإخلاص.
فليس المقصودُ بنفي الهجرةِ بعد فتحِ مكَّة، أنَّ الهجرةَ بجميع صورها قد انقطعت، ذلك لأنّ الهجرة عبادةٌ تبدأ بالنَّفس، بأن ينتقل القلبُ من معصية الله تعالى إلى طاعته، وينتقل المسلمُ من السُّوء إلى الخير، ومن دار الشَّرِّ إلى دار الخير، ولذلك جاء في الصَّحيح من حديث عبد الله بن عمرو، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((المُسلمُ من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمُهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) صحيح البخاري (9) وصحيح مسلم (40) ، وعلى هذا يكون كلُّ من هجر ما نهى اللهُ عنه من المحرمات مهاجِراً، وإن كان في بلده، بين أهله، ما دام أنه مهاجر إلى الله تعالى ورسوله بقلبه وبعمله.
وضابط الهجرة الواجبة على المسلم، يتعلّق بكلّ أرضٍ لا يستطيع أن يُظهر فيها شعائر دينه، فيجب عليه في هذه الحال -إن استطاع- ألا يبقى في هذا المكان، ويخرج إلى أرض الله الواسعة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)} سورة النساء: الآيات (97 - 99).
أما إذا كان المسلم يستطيعُ إظهار شعائر دينه، وكان في بقائه مصلحة للإسلام والمسلمين، فعندئذٍ يكون بقاؤه مستحباً، كالذي يعيش بين المشركين، من أجل دعوتهم إلى الإسلام، ومن أجل دعوة الجالية المسلمة في غير بلاد الإسلام، ونشر العلم الشرعيّ بينهم، وما إلى ذلك.
*وقول النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((وإذا استُنفِرتم فانفروا))، أي: إذا طلب منكم إمام المسلمين النَّفيرَ: وهو مغادرةُ المكان إلى مكان آخر، والخروجَ للقتال في سبيل الله، إمَّا لقوَّةٍ فيكم، أو لخبرة، أو لميزة، أو لحاجة، فيتعيَّن عليكم الخروج، ففي هذه الحالة، يكون الجهادُ واجباً عينيّاً، وهو في الأصل فرض كفاية.
وإضافةً إلى هذه الحالة، يكون الجهاد واجباً عينيّاً فيما يلي:
إذا كان حاضراً في ساحة القتال، فلا يجوز له الانصراف.
إذا دهم بلاد المسلمين عدوٌّ.
لأنّ الجهاد في هاتين الحالتين، يكون جهاد دفعٍ لا جهاد طلب.
إذا احتاج إليه المسلمون في القتال والمدافعة.
من فوائد الحديث:
-أنّ فتح مكّة كان نُقلةً كبيرةً للإسلام، من حال الضعف إلى حال القوة.
-بفتح مكة انقطع بابٌ من أبواب الخير، وهو باب الهجرة منها إلى المدينة، ثم انفتحت في مقابل ذلك أبوابٌ عديدة.
-الجهاد في سبيل الله من أكبر أبواب الخير، وهو فرض كفاية، لكنّه يصير واجباً في أحوالٍ معيّنة.
-باب النّية، من أوسع أبواب الخير، التي فُتحت بعد إغلاق باب الهجرة من مكة إلى المدينة، فكلُّ حركةٍ ونُقلة من مكانٍ إلى آخر، من أجل القيام بأيّ عملٍ من أعمال البرّ، يؤجر عليها المؤمن، إذا كان يبتغي بها وجه الله عز وجلّ، ويؤجر عليها بقدر ما قام في قلبه من الصدق والإخلاص.