بسم اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم:
عن أبي عبد الله، جابر بن عبد الله الأنصاريِّ رضي الله عنهما، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: ((إنَّ بالمدينة لرجالاً ما سِرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم، حبسهم المرض))، وفي رواية: ((إلا شاركوكم في الأجر)) صحيح مسلم (1911).
وعن أنس رضي الله عنه قال: ((رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ أقواماً خلفنا بالمدينة، ما سلكنا شِعباً ولا وادياً إلا وهم معنا، حبسهم العذر)) صحيح البخاري (2839).
مقدّمة:
السَّير إلى الله جل في علاه، هو في الحقيقة سير القلوب، فإذا تخلف البدنُ لعارض أو مانعٍ، فإنّ الإنسان يبلغ بقلبه ما يبلغ ببدنه ونيته، كما قال ابن القيم رحمه الله :
قطع المسافة بالقلوب إليك لا بالسير فوق مقاعد الركبان
والحديثان الشريفان اللّذان بين يدينا، يوضحان هذا المعنى.
معنى الحديثين:
*قول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: ((كنَّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة))، وهذه الغزاة يوضِّحها قولُ أنس رضي الله عنه في الحديث الآخر: ((رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم))، إذن فقد كان الصَّحابة رضي الله عنهم، مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، حال رجوعهم من غزوة تبوك، التي كانت من أشدِّ الغزوات التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المسمّاة بغزوة ذات العسرة، لما لقي فيها المسلمون من شدّةٍ ومشقّة، فقد اشتدّ فيه الحرُّ، وقلَّ فيها السّلاحُ والظهرُ، وبعُدت فيها الشُّقَّة، وذلك في مقابل عِظم العدوّ، فإنَّ العدوَّ الذي قابلوه هم الإمبراطوريّة الرومانيّة أكبرُ دولة في ذلك الزمن.
لقد تخلّف عن جيش المسلمين في تلك الغزوة، بسبب ما فيها من عُسرٍ جماعةُ المنافقين، ولكن تخلّف عنها كذلك جماعة من المؤمنين الصَّادقين، لم يجدوا ما يتجهّزون به للخروج، فاضطُرّوا إلى البقاء في المدينة، وهم الذين قال فيهم الله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} سورة التوبة: الآيتان (92، 93).
*قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، في حديث جابر: ((إنَّ بالمدينة لرجالاً))، ويُقابله قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث أنس: ((إنَّ أقواماً خلفنا بالمدينة))، يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم، أولئك المؤمنون الّذين تخلّفوا عنه، فلم يخرجوا معه إلى تبوك، وبقوا خلفه في المدينة، لأنّهم لم يجدوا ما يُنفقون، تذكّرهم الرسول صلى الله عليه وسلم، في طريق العودة من هذه الغزوة.
*قول النبيّ صلى الله عليه وسلم في شأن هؤلاء الرّجال: ((ما سِرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم))، وفي روايةٍ: ((إلا شاركوكم في الأجر)) في حديث جابر، وفي حديث أنس: ((ما سلكنا شِعباً ولا وادياً، إلا وهم معنا)) أي أنهم وإن لم يستطيعوا أن يخرجوا بأبدانهم، ولكنهم بسبب ما في قلوبهم من عظيم الرَّغبة في الخروج مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كانوا معكم بقلوبهم، واستحقّوا بذلك أن ينالوا من الأجر والثواب عند الله عز وجلّ مثل ما نلتم.
* قول النبيّ صلى الله عليه وسلم، في تبرير ما استحقّوا به هذا الثوابَ رغم عدم خروجهم، أنهم: ((حبسهم المرض)) في حديث جابر، وفي حديث أنس: ((حبسهم العذر))، فهذا هو الّذي حال بينهم وبين الخروج، ومنعهم من تحقيق رغبتهم في الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاستحقّ هؤلاء من الثَّواب الجزيل، رغم قعودهم، ما لم يستطع أن يناله الّذين خرجوا، وفي قلوبهم شيءٌ من الشّك والرَّيب وفساد النّيّة.
وهذا المعنى يقرّره حديث أبي كبشة الأنماري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((مثلُ هذه الأمة مثلُ أربعة نفر:
- رجلٍ آتاه الله مالاً وعلماً، فهو يعمل به في ماله، فينفقه في حقه.
- ورجلٍ آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو كان لي مثلُ ما لهذا، عملت فيه مثلَ الذي يعمل.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء!
- ورجلٍ آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقه.
- ورجلٍ لم يؤته الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو كان لي مالٌ مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل.
قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: فهما في الوزر سواء)) مسند أحمد (29/552) رقم (18024)، سنن ابن ماجة (4228)، صحيح التَّرغيب والتَّرهيب (16) وقال الألباني: صحيح لغيره..
ويقرّره كذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل، قال: قال:
((إنَّ الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك:
- فمن همّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة!
- ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همَّ بها فعملها، كتبها الله له سيئة واحدة)) صحيح البخاري (6491)، وصحيح مسلم (130).
من فوائد الحديثين:
-أنّ كلَّ من همّ وقصد، إلى عمل صالح، جازماً عازماً عليه، ثم حيل بينه وبينه، أي لم يتمكن من إتيان العمل الصالح الذي أراده، لمانع إما مرض وإما عجز وإما سفر وإما غير ذلك من العوارض، فإنَّ الله تعالى بلَّغه أجرَ العامل سواء بسواء.
_ أنَّ العاملَ لا يستحق الأجر بعمله، إنما هو فضلُ الله عز وجل على عباده، فهو المتفضل عليهم بالعمل، وهو المتفضل عليهم بالأجر!
- أن النية قدرها عظيم، إذ يبلغ بها المؤمنُ من الفضل والعطاء من الله عز وجل، ما لا يخطر بالبال، فإنّ مجرد الهمّ بعمل الحسنة، يُكتب للمؤمن حسنةً كاملة، أما العزم والقصد الجازم على العمل الصالح فإنّه يبلِّغك أجر العمل الصالح كاملاً.
- ينبغي للمؤمن أن يحرص على عمارة قلبه بالنوايا الصالحة، وقد جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سأل الله الشهادةَ بصدقٍ، بلَّغه اللهُ منازلَ الشهداء، ولو مات على فراشه)) صحيح مسلم (1909).