بسم الله الرَّحمن الرَّحيم:
عن أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص مالك بن أُهيب رضي الله عنه قال : ((جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني عام حجة الوداع من وجعٍ اشتدَّ بي، فقلت: يا رسول الله، إنِّي قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثُني إلا ابنةٌ لي، أفأتصدَّق بثلثَي مالي؟ قال: لا . قلت : فالشَّطر؟. قال : لا . قلت: فالثُّلث؟ قال: الثُّلث والثُّلث كثير، أو كبير، إنَّك إن تذر ورثتك أغنياء، خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفَّفون النَّاس)) صحيح البخاري (1295)، صحيح مسلم (1628).
المقدمة:
كان الرّسول صلى الله عليه وسلم، يهتمّ بأمر أصحابه، ويحرص على تتبُّع أحوالهم، وهو ما يمكّنه من نصحهم وتبصيرهم في شتّى أمور دينهم ودنياهم، فمن ذلك أنه كان من عادته صلَّى الله عليه وسلَّم، أن يعود المرضى من أصحابه ويزورهم، وفي هذا الحديث يروي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عن زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم، له حال مرضه بمكّة عام حجة الوداع، وما نصحه به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو في تلك الحال، ونصح به الأمّة كلّها صلى الله عليه وسلم.
معنى الحديث:
*قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، عام حجَّة الوداع، من وجعٍ اشتدَّ بي)):
فيه إخبار من سعد بن أبي وقاص، عن نفسه رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، قد عاده عام حجة الوداع في مكة، من مرض شديدٍ نزل به، حتّى أشفى على الموت، أي خشي منه كما تقول بعض روايات الحديث مسند أحمد (3/109)(1524)، سنن ابن ماجة (2708)، ونصّه في ابن ماجة ((مرضت عام الفتح حتى أشفيت على الموت)).
*قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((فقلت: يا رسول الله، إنِّي قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثُني إلا ابنةٌ لي، أفأتصدَّق بثلثَي مالي؟ قال: لا)):
أي إنّ سعداً رضي الله عنه، بسبب ما كان يشعر به من شدّة المرض والوجع، وخشيته من أن يؤدِّي به ذلك إلى الموت، ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه رجلٌ صاحب مال، أي غنيٌّ، وترثه من صلبه ابنة واحدة، فالمال يكفيها ويفيض عنها، فهل يتصدّق بثلثي ماله؟ فكان جواب الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الموافقة على ذلك.
*قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((قلت : فالشَّطر؟ قال: لا. قلت: فالثُّلث؟ قال: الثُّلث، والثُّلث كثير أو كبير)):
أي: فلما لم يوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم، على تصدُّق سعدٍ بثلثي ماله، حسب سعدٌ أن الرّسول صلى الله عليه وسلم، قد استكثر هذا المقدار، فتنازل سعد إلى الشطر، أي أن يتصدّق بنصف ماله، فلم يوافق الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، فتنازل سعد إلى الثلث، وعندئذٍ وافق الرسول صلى الله عليه وسلم على تصدُّق سعدٍ بثلث ماله، مبيّناً له أنّ هذا المقدار كثير أو كبير، وذلك على سبيل المدح، كما ذهب إليه كثير من العلماء، لكنهم اختلفوا فيما إذا كان التصدق بالثلث هو الأفضل والمندوب إليه، أم أنّ الأفضل ما دونه، أمّا عامّة الصحابة فقد فهموا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ الثلث كثير، فينبغي الغضُّ منه والنقص عنه إلى ما دونه، ولذلك قال ابن عباس كما في البخاري: ((لَوْ غَضَّ النَّاسُ إِلَى الرُّبْعِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ أَوْ كَبِيرٌ)) صحيح البخاري (2743) ، وقد استحبَّ أبو بكر رضي الله عنه أن تكون الوصية بالخمس، وذهب جماعة إلى أنّ الوصية تكون بالعشر، وبعضهم إلى السدس.
والذي يظهر أن ما اختاره الصديق، له وجه من النظر كبير، فالوصية بالخمس أفضلُ ما يكون، وهي المستحبَّة، أمَّا إذا أوصى بما زاد على ذلك، فإنَّه مردود عليه.
*قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنَّك إن تذر ورثتَك أغنياء، خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكفَّفون النَّاس)):
يخاطب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص، ويذكّرُه بأنّ سعيه من أجل أن يكون ورثته من بعده أغنياء، ومستغنين عن الناس، خيرٌ من عدم المبالاة بذلك، مما قد يؤدي بهم إلى الفقر والعيلة، وطلب المساعدة والعون من النّاس، بل قد يصيرون شحّاذين يتكفّفون الناس.
وهذا الأمر يغفل عنه كثير من الأغنياء وأصحاب الأموال، إذا أصابهم المرض، أو بلغوا من الكبر عِتيّاً، وخشوا على أنفسهم الهلاك، وظنُّوا أنهم مودّعون للدنيا ومفارقون لها، وملاقون ربّهم، وصار المال في نفوسهم لا قيمة له، فيلجؤون إلى التّصدّق منه بمقدارٍ كبير، بل على المرء عند الصدقة وإخراج المال، أن ينظر إلى حال من يعولهم فإنَّ خير النَّفقة وخير الصَّدقة ما كان لذوي القربى ومن يعولهم الإنسان، ولذلك جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ((ابدأ بنفسك ومن تعول)) أي فاكف حاجة نفسك أولاً، ثم انظر إلى من تعول فاكفهم حاجتهم، هذا أولى من أن تمنح مالك إلى الأباعد.
من فوائد الحديث :
- مشروعية عيادة المريض ولو كان المرض شديداً ما دام أن المريض يفرح ويستأنس بالزيارة وينبسط لها.
- وأنَّ المرض لا يمنع المسلم من التعلم، وطلب معرفة حكم الشرع، في سائر الأحوال التي تعرض له أو تمرّ به، ولا يركن فيها إلى بادي الرّأي.
- وأن علوَّ مقام الرجل لا يمنعه من عيادة المرضى، فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أعلى النَّاس مقاماً، وهو أرفعهم جاهاً قد عاد سعداً رضي الله عنه.
- وأنَّ العيادة تشرع حتى في حال السّفر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مسافراً عندما عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
- أن إخبار الإنسان بألمه أو وجعه أو ما نزل به من مصابٍ، ليس من الشكاية الممنوعة أو المحرَّمة ؛ لأن ذلك إذا كان على وجه طلب الفتيا أو كان لمصلحةٍ، فإنه بيان للحال حتى يأتي الجواب وتنقضي الحاجة على الوجه الذي وُصف، فشكاية الإنسان المرض أو المصيبة ليس جزعاً في كل صوره، فإذا كان له موجب أو داعٍ فلا حرج فيه، وقد يكون واجباً، لكن إذا كانت الشِّكاية على وجه التسخط والجزع، فإن ذلك هو الذي نهى عنه الشارع وهو الذي ينافي الصبر.
- ومنها إخبار الناس بماله إذا دعت إلى ذلك حاجة، فإنه قال: ((يا رسول الله إني ذو مال)).
- وفيه أنه ينبغي على المستفتي أن يبين سؤاله بما تكتمل به الصورة للمسؤول، على نحو ما كان عليه سؤال سعدٍ رضي الله عنه، للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
- وفيه أنَّ الغنيَّ إذا كان له ورثة، فلا يجوز له أن يوصي بأكثر من الثُّلث، على قول عامة العلماء، وحُكي الإجماع فيه، أما إذا لم يكن له ورثةٌ فكذلك لا يجوز له أن يوصي بأكثر من الثلث عند عامّة العلماء، وذهب الإمام أبو حنيفة وجماعة من أهل العلم إلى جواز الوصية بما زاد عن الثُّلث إذا كان ليس له وارث.
- وفي الحديث ندب إلى أن يفكر الإنسان في حال أهله، وأن يسعى جهده إلى كفايتهم، حتى بعد موته.