بسم الله الرَّحمن الرَّحيم:
عن أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص مالك بن أُهيب رضي الله عنه، قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((وإنَّك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت بها، حتى ما تجعله في فيّ امرأتك، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: فقلت يا رسول الله، أُخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تُخلف حتى ينتفع بك أقوامٌ ويضر بك آخرون. اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم؛ لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن مات بمكة)).
المقدمة:
هذا الحديث تتمّة لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، الّذي يحكي فيه عن معاودة الرسول صلى الله عليه وسلم له، في مرضه بمكة عام حجة الوداع، حيث سأل الرسول صلى الله عليه وسلم، عمّا إذا كان يجوز له أن يتصدّق بثلثي ماله، والحال أنه ذو مالٍ، ولا يرثه إلا ابنة واحدة، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم، بجواز ذلك فيما لا يتجاوز الثلث، أو فيما هو دون الثلث بحسب اختلاف العلماء في معنى قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الثُّلث والثُّلث كثير))، ومن ثم نتابع وصيّة الرسول صلى الله عليه وسلم لسعدٍ.
معنى الحديث:
*قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((وإنَّك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أُجِرت بها)):
أي أنَّ كل نفقة يخرجها الإنسان من ماله، سواء كانت نفقةً واجبةً عليه، كنفقة الأهل والأولاد والوالدين ومن تجب نفقتُهم عموماً، أو كانت نفقةً ينفقها على وجه التّطوّع والتَّقرُّب إلى الله عز وجلّ، كإطعام المسكين وإكرام الضَّيف، وما إلى ذلك من أوجه النَّفقات الأخرى التي يُنفقها الإنسان سواء على نفسه أو على أهله أو على أجانب منه، ليس من نفقة ينفقها الإنسان، مبتغياً بها وجه الله عزّ وجلّ، قاصداً بها مرضاته، ومحتسباً بها الأجر عنده جلّ وعلا، إلا وآتاه الله من الأجر بحسب ما نواه وابتغى به الأجر من مولاه.
*قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((حتى ما تجعله في فيِّ امرأتك)):
تابع لما قبله، فكلُّ نفقةٍ ولو يسيرةً، ينفقها الإنسان، مبتغياً بها وجه الله عزّ وجلّ، يُثيبه الله عليها بحسب نيّته، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى نوع من النفقات التي يمارسها الناس تلقائياً، في هذه الحياة، دون أن يفكروا في كثير من الأحوال بالأجر المترتِّب عليها، ويذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، مثالاً لها: ((ما تضع في فيّ امرأتك)) أي في فم امرأتك، كما في بعض الروايات، وذلك سواءٌ وضعته مباشرة، على سبيل التلطف والإحسان، أو اشتريته فقدّمته لها فأكلت منه، فهذه النفقة التلقائية اليسيرة، يؤجر عليها الزوج رغم كون نفقة الزوج على امرأته واجبةً، باتّفاق العلماء، بل هي أوجبُ من نفقة الولد والوالد؛ لأنَّ من مقوّمات عقد الزوجيَّة إنفاقَ الرجل على امرأته، بيد أنّ وجوب هذه النفقة لا يُلغي ما هو مقرّر لصاحبها من الأجر، إذا فعلها مبتغياً بها وجه الله عز وجلّ.
ومن أمثلة ذلك كذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي ذر: ((في بُضع أحدكم صدقة)) أي في جماع الرجل امرأته، فقالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: ((أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) صحيح مسلم (1006) فمن نوى الاستعفاف بهذا الفعل المباح، الذي هو من مشتهيات النُّفوس ورغباتها، فإنه يؤجر على ذلك، ولذلك قال معاذ رضي الله عنه: (فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي) صحيح البخاري (4345).
*قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: ((يا رسول الله، أُخلَّف بعد أصحابي؟)):
أي: هل أتخلف في مكة وأموت فيها ويذهب أصحابي المهاجرون إلى المدينة، فقد كان الصحابة يكرهون أن يموتوا في المكان الذي هاجروا منه، لأنّ الهجرة منه كانت لله ورسوله، فإذا عادوا إليه مرّةً أخرى، كان حالهم كحال العائد في صدقته.
وكان سعد رضي الله عنه، يظنّ أنّ ذلك مرض الموت، وأنه سيلقى مصيره في مكة التي هاجر منها.
وقال بعض أهل العلم أن سعداً رضي الله عنه قصد بقوله: ((أأُخلف بعد أصحابي)) أي: هل أبقى حياً بعدهم، والأول أقرب!
*قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنك لن تخلَّف فتعملَ عملاً تبتغي به وجه الله، إلا ازددت به درجة ورفعة)):
أي: إنَّك لن تبقى في مكة وتعمل فيها عملاً صالحاً، تبتغي به وجه الله عز وجلّ، إلا كان هذا خيراً لك، فلن يضرَّك شيئاً، ولن يُنقص من أجرك أن تموت في مكّة التي هاجرت منها لله ورسوله، بل تزداد بها درجةً ورفعةً في جنات عدن.
فلا ينبغي للمرء ما دام حيّاً أن يُقعده المرض عن العمل الصالح، فإن عجز عنه ببدنه، فلينوه بقلبه، فإنّه مدركٌ ما يؤمّل.
*قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ولعلك أن تُخلَّف حتى ينتفع بك أقوامٌ ويضر بك آخرون)):
قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: ((ولعلَّك أن تُخلّف)) أي: أن لا تموت بسبب هذه العلّة، فتبقى وتعمّر طويلاً، وهي بشرى من النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قد تحققت فعلاً لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، حيث عاش بعد هذه البشرى النّبويّة، نيّفاً وأربعين عاماً، وخلّف سبعة عشر ذكراً واثنتي عشرة بنتاً، بعد أن لم تكن عنده إلا بنت واحدة، كما انتفع به المسلمون نفعاً عظيماً، وتحقق على يده خير كثير، فأسلم على يده أمم من الناس، وكذلك تحقق بيده على الكفار ضرر كبير، فدحر الله به أمماً من أهل الكفر في معركة القادسية، وفي غيرها من الغزوات والمعارك، وهو بعد من الصَّحابة العشرة المبشرين بالجنة.
*قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((اللهمَّ أمضِ لأصحابي هجرتهم ولا تردَّهم على أعقابهم)): دعاءٌ منه صلى الله عليه وسلم، بأن يُمضي هجرة أصحابه، ولا يردّهم على أعقابهم كافرين، وذلك يتحقَّق بثباتهم على الإيمان، وهجرهم السيئات، أما عودتهم إلى مكة فقد يعودوا إليها دعاةً إلى الخير، وذلك بعد أن فُتحت مكة وأعلن رسول الله صل الله عليه وسلم أنه: ((لا هجرةَ بعد الفتح، ولكن جهاد ونيَّة، وإذا استُنفرتم فانفروا)) صحيح البخاري (2783) وصحيح مسلم (1353).
*قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أن مات بمكة)): سعد بن خولة من الصحابة المهاجرين أهل بدر، سافر إلى مكة، وتوفي بها سنة سبع، وقيل عام حجّة الوداع، فلذا ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورثى له، أي توجع له، لأنهم كانوا لا يحبّون أن يموت المهاجر في المكان الذي هاجر منه.
من فوائد الحديث:
-أنّ العامل ينال الجزاء مضاعفاً، على العمل الواجب، إذا أخلص فيه القصد لله تعالى.
-أنّ كل عمل مباحٍ، حتى إذا كان ممّا يُشتهى، إذا استُحضرت فيه النية الصالحة، جمع الله تعالى فيه للعبد بين أجري الدنيا والآخرة.
-أنه لا مانع عند عيادة المريض، من تناول بعض المسائل العلمية، وتوجيهه ونصحه، إذا لم يكن في ذلك إثقالٌ عليه وإرهاق لنفسه.
-أنه ينبغي للإنسان ما دام قلبه نابضاً بالحياة، أن يسعى ويجتهد في العمل الصَّالح، فلا يمنعه المرض وخشية الموت، وما يعرض له من العوارض، وما ينزل به من المصائب، من العمل الصالح.
-وفي الحديث بيان شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، حيث دعا الله لهم بأن يتمّ هجرتهم، ثم تذكر صحابياً نزل به ما كان يكرهه الصحابة من الموت بالمكان الذي هاجر منه، فرثى له وتوجّع منه.