السؤال: ما هو حكم التورق؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد،
ما سئل عنه من التورق المصرفي، هو من الأسئلة التي يكثر تردادها لأنه طريق ووسيلة يستعملها كثير ممن يحتاجون إلى النقود، إلى سيوله لمشاريعهم، أو لقضاء حوائجهم، يسلكون مسلك التورق لإدراك ما يأملون من نقود، إذا التورق هو وسيلة من وسائل التمويل.
ولذلك تسمية بعض الناس لهذه الصورة، وهى أنك تذهب إلى مصرف، أو إلى تاجر يملك سلعة معينة، وتقوم بشراء السلعة منه، ثم تقوم ببيعها، فتشتريها منه بالتقسيط أو بالأجل، ثم تقوم ببيعها لطرف ثالث بثمن حال، هذه الصورة التي شاعت، وانتشرت في كثير من معاملات الناس اليوم، يسميها بعض الناس قرض، أو اقتراض.
وهى في الحقيقة لا صله لها بالقرض، ولا صله لها بالاقتراض، إنما هي عقدٌ مستقل يتم فيه البيع بأجل، ثم البيع بثمنٍ حاضر، هذا الفرق بين الصورتين، وإن كان مقصود المتعامل الذي تم شراءه ثم قام بالبيع هو النقود، لكن العملية لا صله لها بالقرض، ولذلك تسميتها اقتراض، تسميتها قرض هذا بناءً على سوء فهم، أو بناءً على أن كثيرًا من الناس لا يفرق بين هذه الصورة، وبين ما يتم إنزال مبلغ مالي، مقابل دفع زيارة في نهاية المدة، عند إرجاع هذا المبلغ إلى صاحب القرض.
على كل حال هذا هو نمط من أنماط التورق، ونمط من أنماط التمويل، ما حكمه؟.
العلماء لهم في التورق قولان:
منهم من يرى أن التورق هو نوعٌ من الربا، ذلك أن الحقيقة إن هذه العملية، أخذ السلعة بثمن مؤجل، والقيام ببيعها بثمن حاضر أنزل من ثمنها الذي اشتراها به، هو في الحقيقة حيلة على الربا، ولذلك جاء عن عمر بن عبد العزيز أنه وصف هذه المعاملة بأنها "أُخيت الربا"، يعنى أخت الربا على وجه التصغير، يعنى ربا مصغر، ذاك أن المقصود من هذا العقد هو توفير السيولة، والعقود ينظر فيها إلى مقاصدها وغايتها، على هذا القول بالتالي هذا نمط من أنمطت الخداع، الذي يجعل هذه المعاملة محرمة، هذا ما ذهب إليه جماعه من أهل العلم.
وقال آخرون: بل التورق معاملة لا شبه فيها، وهى مندرجة في الأصل الذي تجري عليه البيعات والمعاملات في قول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} سورة: البقرة، الآية (275) وفى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} سورة: النساء، الآية (29) وبالتالي هنا التراضي قد حصل، وليس هناك محظور شرعي في هذه المعاملة، كونها توفر السيولة، أو أن مقصود المشترى هو الحصول على النقود، هذا لا يوثر في التحريم؛ لان هذا مخرج، وليس حيله على المحرم، وفرق بين المخارج وبين الحيل، وبهذا القول قال جمهور العلماء، وعليه فإنه يجوز هذا النمط من الأنماط في عملية التمويل.
لكن الذي تمارسه البنوك والمصارف هو نوع من التمويل المنظم في غالب صورة، وهو أن يقوم المصرف ببيع سلعه معينة، ثم يقوم العميل بتوكيل البنك، أو توكيل الجهة التي تملك هذه السلعة بالبيع، وهنا تصبح العملية ورقية، تشبه الربا؛ لأنه في الحقيقة العميل ليس له هم، ولا فكر، ولا معرفة، إلا بالقدر الذي نزل في حسابه من الدراهم التي هي مقصودة، وبالتالي هذا التورق هو في الحقيقة نوعٌ من الربا، والحيلة عليه، ولذلك ذهب عامه علماء العصر، إلى تحريم التورق المنظم، لما يتضمنه من حيله وخداع على الربا.
أما إذا كان العميل يقبض السلعة قبضًا حقيقيًا، أو قبضًا حكميًا، ثم يقوم ببيعها على طرف ثالث، دون صله للبائع الأول بعملية البيع الثاني، فهذا جمهور العلماء على جوازه، ولا حرج فيه إن شاء الله تعالى.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تقيد جواز هذه الصورة بالحاجة، وأن لا يجد من يقرضه من غير ربا، ولكن هذا القيد فيما يظهر لي والله أعلم، أنه لا حاجه إليه، ذاك أن الأصل في هذه المعاملة أنها مباحة، ويجرى على هذا الأصل إلا أن يقوم الدليل على هذا المنع.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صورًة قريبًة من هذا في تحقيق غاية العميل في تحصيل سلعه لا يجوز فيها الربا بمخرج، في التمر لما جيء إليه بتمرٍ جيد، فقال: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟»، قَالَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ. صحيح البخاري: باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، حديث رقم (2201) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أوه أوه، عين الربا عين الربا» صحيح البخاري: باب إذا باع الوكيل شيئا فاسدا، فبيعه مردود، حديث رقم (2312)
«بِعْ الجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ » صحيح البخاري: باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، حديث رقم (2201) أي بيع جمع التمر الرديء بالدراهم، «ثم ابتع بالدراهم جنيبا» صحيح البخاري: باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، حديث رقم (2201) فهذا مخرج من المخارج التي وجهه إليها النبي صلى الله عليه وسلم، تؤدى في النهاية إلى أنه اشترى التمر الجيد، بعد أن باع التمر الرديء بالنقد، لكن هذا مخرج، وليس حيلًة، إذا هذا هو التورق الذي يحل، والذي يحرم.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.