إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين لا إله إلا له الرحمن الرحيم, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خِيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى كما أمركم بذلك فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، تقوى الله تعالى هي القيام بأمره امتثالاً لما طلبه من عباده، واجتنابًا لما نهاهم عنه؛ رغبةً فيما عنده وخوفًا من عقابه، فمن امتثل أمر الله فعلاً في المطلوبات وتركًا في المنهيات رغبةً فيما عند الله عز وجل، خوفًا ورغبةً، خوفًا وطمعًا فيما عنده ـ جل في علاه ـ فإنه قد حقق التقوى، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأوليائك الصالحين.
أيها المؤمنون, إن الإنسان في هذه الحياة لا يعيش منفردًا، جَبَلَ الله تعالى بني آدم على أن يكون لهم أصحاب وعلى أن يعيشوا في وسطٍ لا يستغنون عنه، فمصالح الناس إنما تقوم بتحقيق هذه الخلطة التي من خلالها يجري بينهم من المعاملات ويكون بينهم من المصالح ما تقوم به دنياهم، فلو أن الإنسان انعزل في جبلٍ ليس معه أحد لتعطل كثير من أمر دينه ومن أمر دنياه، ولذلك كانت الخلطة أمرًا طبيعيًا في معاش الناس وحياتهم، بها تقوم مصالحهم، فطر الله طبائعهم وأخلاقهم على طلب الأصحاب ومرافقة الأقران، ولا تستقيم الحياة إلا بذلك، ولما كان الأصحاب على أنواعٍ وأشكال كان المؤمن مطلوبًا أن يطلب في الصحبة خيرها وأن يتوقى شرها، «فالمرء على دين خليله» كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.أخرجه أحمد ح(8028)بإسناد جيد.
والدين هنا يشمل صلة الإنسان بالله وصلة الإنسان بالخلق، يشمل العبادة والأخلاق، «المرءُ على دينِ خليلِه» أي على دين محبه، على دين محبوبه الذي يصاحبه ويقارنه، فإن كان ذا استقامةٍ في خُلقه وصلاحًا في دينه انعكس ذلك عليه، وإن كان على صفةٍ أخرى تأثر به ولا بد.
إن صحبة الأخيار يدرك أثرها كل بني آدم ولا يغيب أثرها عن الناس؛ فإن آثارها مشهودة، ولذلك توافرت الكلمات في بيان أثر الصحبة وضرورة الانتقاء في الأصحاب، فهذا أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ يقول: "لصاحبٌ صالحٌ خيرٌ من الوحدة، والوحدة خيرٌ من صاحب السوء"أخرجه: ابن حبان في روضة العقلاء ص(101)، وجاء عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال:
فَلا تَصحَب أَخا الجَهلِ ... وَإِياكَ وَإِياهُ
فَكَم مِن جاهِلٍ أَردى ... حَليماً حِينَ آَخاهُ
يُقاسُ المَرءُ بِالمَرءِ ... إذا ما المَرءُ ماشاهُ الآداب الشرعية لابن مفلح(3/ 564) .
فإذا صاحب الإنسان شخصًا كان مؤثرًا عليه ولا بد، قال مالك بن دينار: "إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خيرٌ من أن تأكل الحلوى مع الأشرار"أخرجه: ابن حبان في روضة العقلاء ص(100)،
أيها المؤمنون, إن الصحبة لا يقتصر تأثيرها على زمنٍ من الأزمان، ولا على محلٍ من المحال، بل تأثيرها يصاحب للإنسان في كل أطباق عمره وفي كل مراحله، لذلك ينبغي أن يحرص على الصحبة الطيبة وأن يتوقى صحبة السوء صغيرًا كان أو كبيرًا، لا شك أن الكبير قد يكون عنده من الحصيلة والقدرة ما يتوقى به أصحاب السوء، ولكن الصحبة لا بد أن تؤثر.
ويكفي في بيان خطورة الصحبة الرديئة وجميل آثار الصحبة الطيبة ما ذكره الله تعالى في توجيهه لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال وهو الممدود بالوحي من السماء، الله يقول لرسوله ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:28].
هكذا يأمر الله تعالى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحبس نفسه على صحبة الأخيار ولو كان ما كان من نقصٍ في حالهم ونقصٍ في مصاحبتهم من حيث أمور الدنيا؛ لكنه يحذره مع ذلك من صحبة الأشرار ولو كانوا يحققون ما يحققون من متاعٍ ومكاسب.
إن الصحبة مؤثرة غاية التأثير على الصغير والكبير وعلى الصحبة الممتدة المستمرة والصحبة المؤقتة العارضة، جاء في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ» الجليس الصالح كحامل المسك إذا مررت بصاحب مسك فإنك تجد منه ريحًا طيبة ولو كان ذلك لثواني، وإذا مررت بصاحب سوء وجدت منه ريحًا كريهةً خبيثة ولو كان ذلك لثواني، فتأثير الصحبة لا يقتصر على الصحبة الممتدة الطويلة، بل يكون على كل معاشرة وعلى كل مصاحبة قليلة أو كثيرة، طويلة أو قصيرة، وهذا مثلٌ واضح في تأثير الصاحب مهما كان.
«مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ» ولو في مجلس واحد ولو في صالة انتظار تركب طائرة، ولو في انتظار دور، «مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً» البخاري(2101), ومسلم(2628)فلا تخلو من خير في مصاحبتك للأخيار على أي وجهٍ كان، فأنت لن تعدم من جليس صالح خيرًا، فاستكثروا من صحبة الأخيار، واستقلوا أيها المؤمنون من صحبة الأشرار؛ فإن المرء مع من أحب.
وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرجلٍ سأله فقال له: الرَّجُلُ يُحِبُّ القَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ؟ ـ يعني ولم يكن عنده من العلم والعمل الصادر منه ما يكون به في مصاف من يحب ـ فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»البخاري(6169), ومسلم(2640).
فإذا كانت محبة الأخيار، محبة الصالحين تبلغ بك أن تلحق مرتبتهم ولو قَصر عملك عنهم فكيف بمصاحبتهم ومجالستهم، إذا كنت في قومٍ فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي.
أيها المؤمنون, إن صحبة الأخيار جميلة الآثار، حسنة العواقب فاجتهدوا في أن تنتخبوا ممن ترون وممن تلاقون وممن تعاشرون أطيبهم وأخيرهم، واعلموا أن الخيِّر من الأصحاب هو من يقربك إلى الله عز وجل، هو من ينفعك في دينك أو في دنياك، وأما الرديء من الأصحاب والأشرار من الصحبة فهم الذين يزينون لك الباطل ويفسدون دينك ودنياك.
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، خذ بنواصينا إلى ما تحب وترضى، أعنا على طاعتك واصرف عنا معصيتك، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده حق حمده, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى وصاحبوا خيار الخلق؛ يوصلونكم إلى جميل العواقب وحسن النهايات، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، اجعلنا من عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأوليائك الصالحين يا رب العالمين.
إليكم هذه القصة جاء في صحيح الإمام مسلم عن الْمُسَيِّبِ ـ رضي الله عنه ـ قال:" لما حضرت أبا طالب الوفاة"، أبو طالب هو عم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي دافع عنه وناصره وذب عنه، وتحمل المشاق في حمايته، حضرته الوفاة، فجاءه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له مقالةً تذكره بالله وتحثه على العودة إلى الرشد ومقتضى الفطرة وإلى أن يُسلم بقلبه وقالبه، جاءه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية وهما على الشرك والكفر فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «أيْ عَمِّ، قُلْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لكَ بهَا عِنْدَ اللَّهِ» كلمة تكون حجة لي في استنقاذك من النار عند الله عز وجل، فقال أبوجهل وصاحبه قالا له: "أترغب عن ملة عبد المطلب"، فلم يزل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعرض عليه ويكرر عليه الدعوة إلى هذه الكلمة وهما يعاودان في تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما قال: "هو على ملة عبد المطلب".البخاري(3884), ومسلم(24).
أي مات على الكفر والشرك وأبى أن يقول لا إله إلا الله، هذا نموذج ومثال ظاهر لأثر الصحبة الرديئة، حضور أبي جهل وعبد الله بن أبي أمية هذا المشهد عطل على أبي طالب الفلاح والنجاح، منعه من أن يقول لا إله إلا الله، قال العباس بن عبد المطلب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:" يا رسول الله هذا عمك" يريد أبا طالب "كان يغضب لك ويحوطك" أي كان يدافع عنك ويصونك ويحميك من المشركين " هل نفَعْتَ أبا طالبٍ بشيءٍ " ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «هو في ضَحْضَاحٍ مِن نَارٍ» أي في نار يبلغ إلى كعبيه، الضحضاح هو القدر الذي يبلغ إلى حد الكعبين، «هو في ضَحضاحٍ ولولا أنا» أي ولولا شفاعتي، «لكان في الدَّرْكِ الأسفَلِ منَ النارِ»البخاري(3883), ومسلم(209).
الشاهد أيها الأخوة أن الصحبة الرديئة سوءٌ وشؤمٌ على الإنسان في دنياه وفي أخراه، فهذا أبو طالب منعه من لا إله إلا الله هذان الرجلان كان يذكرانه بملة أبيه ويعيبان عليه أن يترك ما كان عليه من كفر إتباعًا لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغم ما كان عليه من نصرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقوة العقل ورجاحة الفكر وسلامة النصرة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والبعد والمعاداة لمن عادى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكنه لم يؤمن.
أنزل الله عز وجل قوله: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص:56] البخاري(3884), ومسلم(24). ، فاحذر صاحب السوء ولو كان شريفًا في قومه، ولو كان غنيًا في ماله، ولو كان وجيهًا في أسرته، ولو كان ما كان؛ فصحبة السوء شرٌ محقق، وتذكر قصة هذا الرجل الذي حال بينه وبين لا إله إلا الله أصحاب السوءالبخاري(3884), ومسلم(24)، ﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا (28)﴾ [الفرقان:27-28]، وهذا الكلام موجهٌ لنا جميعًا صغارًا وكبارًا، شبابًا وشيبًا، ذكورًا وإناثًا؛ فإن الصحبة تؤثر على الجميع، وليس هناك حصانة لأحد ولا ضمان ألا يتأثر الإنسان بمن حوله؛ فالفتن خطافة والقلوب ضعيفة، والموفق من سدده الله، ومن ثبته على الحق والهدى.
أيها المؤمنون, إن الصحبة اليوم لا تقتصر على صاحبٍ مُرافق تخرج معه وتأتي، أصحابكم الذين تحادثونهم عبر وسائل الاتصال أصحاب يؤثرون عليكم، أصحابكم الذين تَطَّلِعُونَ على صفحاتهم في شبكات التواصل الاجتماعي، أصحاب لكم يؤثرون على أفكاركم وعلى عقائدكم وعلى سلوككم، أصحابكم الذين تشاهدونهم عبر وسائل الإعلام المرئي أو تسمعونهم عبر وسائل الإعلام السمعي، كل أولئك أصحاب، فانتخبوا من الأصحاب أطيبهم، وإياكم والتساهل، وإياكم وعدم المبالاة، فإن من أهمل نفسه فلا يلومن إلا نفسه.
اللهم أعنا على طاعتك، واصرف عنا معصيتك، وفقنا إلى البر والتقوى، يسر لنا الصالح من عبادك، واجعل لنا في قلوب أوليائك ودًا وحبًا يا رب العالمين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في العراق، اللهم انصرهم في سوريا، اللهم انصرهم في اليمن، اللهم انصرهم في سائر البلدان يا رب العالمين، اللهم أحسن العاقبة لأوليائك، ألف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم.
اللهم من سعى بين المسلمين بفُرقة أو شر أو فساد فعليك به فإنه لا يعجزك، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم من بغى واستطال على عبادك وآذى أوليائك اللهم فكف يده بقوتك وسلط عليه جندًا من جندك يا رب العالمين، اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا هذه بسوء أو شر فأشغله بنفسه، اللهم اجمع كلمتنا على الحق والهدى، ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واكفنا شر كل ذي شر أنت آخذٌ بناصيته، اللهم وفق ولاة أمورنا إلى ما تحب وترضى، خذ بنواصيهم إلى البر والتقوى، سددهم في أقوالهم وأعمالهم وآرائهم وهيئ لهم رشدًا وبطانةً صالحةً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.