الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، له الحمدُ كله، أوله وآخره، وظاهره وباطنه، وله المحامدُ كُلها، وله كُل مجدٍ وثناء، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله على حينِ فترةٍ من الرسل، وانقطاعٍ من الهدايات، وانطماسٍ من السبل، وعمايةٍ من الخلق حتى إنَّ الله نظر إلى أهلِ الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهلِ الكتاب.
بعثَ الله محمد بن عبدِ الله ﷺعلى هذه الحال من حالِ الناسِ في الجهلِ بالله، والجهل بالطريق الموصل إليه، فدعا إلى أحسنِ طريق، وإلى أقومِ سبيل، وبيَّنَ ما لله من الصفات، وما له من الكمالات، وبيَّنَ الرب الذي خلق هذا الكون، والرب الذي دلَّ الناسَ إلى كلِ خير، ويسر لهم كل بِرٍّ، وأمدَّهم بكل نعمة، فتركَ الناسَ على محجةٍ بيضاء، طريق واضح لا لبس فيه ولا اشتباه، لا يزيغ عنه إلا هالك، فحقه أن نؤمنَ به ﷺ، وأن نحبه، وأن تكون محبته في الخلقِ أعلى المحاب، فهو أحبُّ إلينا من أنفسنا، ومن أولادنا، ومن والِدينا، ومن كل شيء ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كما أن مِن حقه أن يُصلى عليه إذا ذُكرَ بأبي هو وأمي، فصلوا عليه وسلموا تسليماً، اللهم صلي على محمد، وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيم، وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، أمّا بعد:
فالسلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته...
أهلاً وسهلاً أيها الأخوة والأخوات... في هذه الحلقةِ الأولى من برنامجكم: «فادعوه بها»، ذلك البرنامج الذي تنظمه وزارة الشؤون الإسلامية في المملكة العربية السعودية، وهو في عددها الرابع ضمنَ منظومةٍ من البرامج، تَقصد وتهدف إلى تعريف الناسِ بالله ـ عز وجل ـ وبالطريق الموصل إليه، على هدي الكتاب، ووفقَ سنة خير الأنام ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وفي هذه الحلقة، وفي هذه المحطةِ الأولى من برنامجنا «فادعوه بها» نحتاج إلى أن نعرف، ما هي منزلة العلم بالله عز وجل؟
العلم بالله هو مهمة الرسل التي كلَّفهم الله ـ تعالى ـ ببيانها، وإيضاحها، وتجليتها؛ بل جميع الرسل من نوح ـ عليه السلام ـ إلى آخرهم، وخاتمهم محمد بن عبدِ الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كلهم جاؤوا بالله معرفين، وإليه داعين، وكلهم جاؤوا يعرفون الخلق بالله، الذي له الكمالات، ويبيِّنون ما له من الصفات، ويبيِّنون ما له من الأسماء، ويبيِّنون ما له من الأفعال، ويبيِّنون ما له من الآيات الدالة على عظمته، والدالة على أنه لا إله غيره، وأنه لا يستحقُ العبادةَ سواه.
ولذلكَ كلُّ من أرسلهم الله ـ تعالى ـ من رسله الكرام يدعون إلى هذه الكلمة، التي هي خلاصة العلم بالله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء: 25] هذه هي الخلاصة التي تنتج من تلك المقدمة، وهي العلم بالله عز وجل.
فالرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ جاؤوا جميعاً يُعرِّفون بالله، ويبيِّنون ما له من الكمالات، ويدعون الخلق إلى التعرف على الله من خلالِ ما بثَّه في السموات والأرض من الآيات الدالة على عظمته: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق} [فصلت: 53].
ومن عرفَ الله ـ جل وعلا ـ فازَ بأعظمِ منحة يفوز بها الناس، وإنَّ أعظمَ منحة يفوز بها الإنسانُ في الدنيا وفي الآخرة أن يحبه الله جل في علاه.
أيها الأخُ الكريم، وأيتها الأخت الكريمة، أيها المشاهدون والمشاهدات، لنقف عند هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث عائشة، في قصةِ رجلٍ، بعثه النبي ﷺفي سرية، كان قائداً لهم، ويصلي بهم، فكان إذا صلى صلاةً بأصحابه، ختمَ قراءته في كل ركعة، بقراءة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} يختم قراءته بقراءةِ سورة الإخلاص، فمثلاً يقرأ الفاتحة، ثم يقرأ ما شاء الله ـ عز وجل ـ من القراءة من السور، ثم يقول بعد ذلك: بسم الله الرحمنِ الرحيم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}.
فلمَّا عاد الصحابةُ إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ سألَ الصحابةُ رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن فعل هذا الرجل؛ لأنه لم يعهدوه في فعل النبي ﷺ، ولم يكن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يفعل ذلك، فسألوه عن هذا الذي فعله صاحبهم، وأميرهم الذي كان يصلي بهم، فقال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «سلوه -أي: اسألوا هذا الرجل-لمَ يصنع ذلك؟! مَن الذي حمله على هذا الفعل؟! ما الذي جعله يختمُ قراءته بقراءة سورة الإخلاص؟!»
فذهب أصحابه إليه وسألوه، فقال ـ رضي الله عنه ـ: «إنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها».
الله أكبر! إنها صفة الرحمن، وصفة الرحمنِ هي بيان ما له من الكمالات، وصفة الرحمن هي العلم بالله، وإدراك صفات الله ـ عز وجل ـ وأسمائه يتحقق بها لكل أحدٍ العلم بالله ـ جل في علاه ـ فلمَّا قال ذلك ذهبوا إلى النبي ﷺيخبرونه عن جواب صاحبهم أنه قالَ في سببِ ختمه القراءة، بـ{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قال يقولُ: «إنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها»، فقال النبي ﷺمخبراً ومعلقاً على هذا السبب الذي جعل هذا الرجل يختم كل قراءة، بـ{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قال أخبروه: «أنَّ الله يحبه»صحيح البخاري (7375)، وصحيح مسلم (813).
الله أكبر! الله أكبر! ما أعظم المنن والمنح! التي يفيضُ الله ـ تعالى ـ بها على عبادة إذا عرفوا ما له من الكمالات.
إنَّ العلم بالله جَنَّة، يدرك بها الإنسان سعادة الدنيا وفوز الآخرة؛ ولذلك أيها الأخوة والأخوات بقدرِ ما يكون معكَ من العلم بالله بقدرِ ما تفوزُ برضاه، وبقدرِ ما تدركُ من محبة الله لك، وبقدرِ ما تدركُ من عونه، فإنَّ الله إذا أحبك انفتحت لك أبواب التوفيق، وأدركت غاية الفلاح والنجاح.
ألا تذكرونَ ما جاء في صحيح البخاري، من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ الذي قال فيه النبي ﷺفيما يرويه عن ربه في الحديث القدسي الإلهي، يقول الله ـ عز وجل ـ: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقربُ إلي بالنوافل حتى أحبه»صحيح البخاري (6502).
الله أكبر! يتقرب بالواجبات، ثم يأتي بعد ذلك بأنواع من القروبات والطاعات، وألوان مما يحبه الله ـ تعالى ـ من الصالحات، ومن التطوعات والمستحبات، حتى يبلغ الدرجة العليا، وحتى يحبه الله، فماذا يجني من محبة الله؟
قلت: تنفتح له أبواب التوفيق، ويدرك كل فلاح وسعادة، يقول النبي ﷺفيما يرويه عن ربه: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصرُ به، ويده التي يبطشُ بها، ورجله التي يمشي بها»صحيح البخاري (6502).
هذه معية خاصة، هذا تسديد في السمع، وتسديد في القول، وتسديد في البصر، وتسديد في الحركة، والانتقال، سواءً كان ذلك باليدِ أو القدم، ثم بعد ذلك: «ولئن استنصرني لأنصرنَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه».
إنها منحة عظمى أن يدرك العبد هذه المنزلة، منزلة أن يحبكَ الله ـ عز وجل ـ ولهذا كان من كلام السلف ـ رحمهم الله ـ كما نُقل عن ابن المبارك: «أهل الدنيا خرجوا من الدنيا قبل أن يطعمُ أطيبَ ما فيها، فقيل لعبد الله بن المبارك –وهو من أئمة السلف الصالحين– وما أطيبُ ما فيها؟ قال: المعرفة بالله عز وجل».
نعم، والله إنه ليس ثمَّةَ أعظم وأسعد وأقرب إلى إدراك الانشراحِ والبهجة، والسرورِ والراحة، وكلَ معاني الفلاح؛ ليس هناك أقرب مما يدركه أولئكَ الذين أحبهم الله ـ عز وجل ـ ومحبة الله ليست منزلة مختوم بها على أناس لا يدركون ذلك غيرهم؛ بل هي نتيجة لمقدمات، هي ثمرة لأسباب، فمن سلكَ سبيل إدراك محبة الله أدركها، من علمَ بالله وعرفه نالَ محبته، وفازَ بالفضائل المترتبه على العلمِ به جلَّ في علاه.
سؤال قبل أن نختم هذه الحلقة: ما معنى العلم بالله؟ وكيف نعلم ما لله ـ عز وجل ـ من كمالات؟ وما العلم بالله؟ وما معنى المعرفة بالله، والعلم به؟
المعرفة بالله والعلم به هو: أن تعرف ما أخبر الله ـ تعالى ـ به عن نفسه في كتابه، لما تقرأ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم}[البقرة: 255] أنت تعرف أنه إله، لا إله سواه، أنه حي، أنه قيُّوم.
لما تقرأ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ}[الحشر: 22-23] إلى آخر ما ذكر الله ـ تعالى ـ من أسمائه، تعرف الله عز وجل.
إذاً العلم بالله هو العلم بذاته، وما له من الأسماء الحسنى، وما له من الصفات العلا، ولنعلم أنَّ الله ـ تعالى ـ فتحَ لنا من أبواب معرفته في كتابه، وفي سنة رسوله ﷺما يدركُ به الإنسان العلم بالله على الوجه الذي يطيقه، ليس هذا يعني أن كل ما في الكتاب هو كل ما لله من كمالات، فأسماء الله لا حصرَ لها، كما قال النبي ﷺفي الدعاء: «وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علمِ الغيبِ عندك»مسند الإمام أحمد (3712).
يعني: هناك أسماء الله ـ عز وجل ـ لم يخبر بها، واستأثر بها في علمِ الغيب عنده، ولم يُعلم بها العباد؛ لأنهم لا يدركونها، ولا يحيطون بها علماً، ولا تطيقُ عقولهم إدراكها، كذلك ما أخبر الله ـ تعالى ـ بها عن نفسه من أسمائه وصفاته نثبته على الوجه الذي يليق به، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وبهذا يتحقق العلم بالله.
إذاً طريقُ العلم بالله في الأصل، كيف ما معنى العلم بالله عز وجل؟
معنى العلم بالله: أن تعرف أسماء الله وصفاته، وما له من كمال الأفعال، وجميل الآيات ـ سبحانه وبحمده ـ بذلك يتحقق لك العلم بالله.
اللهم إنَّا نسألك العلم بك يا حي يا قيُّوم على الوجه الذي ترضى به عنَّا، اللهم اجعلنا من أعلم عبادك بك، وأتقاهم لك، وأخشاهم لك، وأقومهم بحقك يا حي يا قيُّوم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: 23].
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم «فادعوه بها»، استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته.