إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلن تجدَ له ولياً مرشداً، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخِيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى، ودين الحقِّ، بين يدي الساعةِ بشيراً ونذيراً، داعياً إليه بإذنه، وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فحياكم الله، وأهلاً وسهلاً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة، من برنامجكم «فادعوه بها».
عرفنا أنَّ العلم بالله غاية الوجود؛ فإنه لا يتحقق للإنسان سعادة في الدنيا، ولا فوزٌ في الآخرة إلا إذا كان بالله عالم؛ فلذلك أول ما يُسأل الإنسان عنه في قبره: «من ربك؟»
فلا بدَّ أن يكون عالماً به؛ حتى يحسن الجواب، وإلا فإنه سيكون مِن أولئك الذين يقولون: «لا أدري» فيقال لهم: «لا دريتَ ولا تليت»صحيح البخاري (1338)، نعوذ بالله مِن هذه الحال.
العلم بالله سعادة الدنيا، وفوز الآخرة، العلم بالله هو مقصود دعوة الرسل، كلهم جاؤوا بالله معرِّفين، وإليه داعين، العلم بالله هو الذي يُعرفُ به حقه، فمن عرف الله أقام حقه، أتدرون ما حقُّ الله عزَّ وجل؟
حق الله أن يعبدَ وحده لا شريك له، الله ـ جلَّ في علاه ـ يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون}[الذاريات: 56]، قال ابن عباس في تفسير الآية: إلَّا ليوحدون.
فطريق تحقيق العبودية التي من أجلها خلق الله هذا الكون: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[الملك: 1-2]، لن يتحقق لك حسنُ العمل إلا إذا علمت ما لله ـ عزَّ وجل ـ من كمالات، إذا كنت بالله عالماً وبه عارفاً تحقق لك فوز الدنيا، وتحقق لك نجاة الآخرة، تحقق لك المقصود الذي من أجله خُلقت.
وعلى قدرِ علم الإنسان بالله ينتجُ عنه تحقيق العبودية له، هذا شيء مرتبط، فمن كان بالله عالماً لم يكن إلا له عابداً، إلا أن تنطمس البصيرة، ويجهل، وتعمى القلوب؛ فعند ذلك تُسد السبل: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم}[الصف: 5].
أيها الأخوة والأخوات، أيها المشاهدون والمشاهدات، جاء النبي ﷺ إلى المشركين، جاء إلى أمة جاهلية، ما يعرفون إلا أصنام يعبدونها من دون الله، ويسجدون لها، وينذرون ويذبحون، ويدعونها من دون الله، ويتقربون لها بأنواع القروبات، وهي لا تضر ولا تنفع، أحجار وأوثان؛ بل بلغ بهم السُخف والجهل أنَّ أحدهم كان يصنع إلهه من التمر، فإذا جاع أكله، جاء إلى هؤلاء، وهذا ليس شيئاً مضى وانتهى، تلفَّتوا وانظروا حولكم يمنةً ويسرة تجدون الذين يعبدون الأصنام، ويعبدون غير الله ـ عزَّ وجل ـ وهم أكثر الناس، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}[الأنعام: 116]،{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُون}[يوسف: 105-106] إنها آيات ودلائل تدل على الله ـ عزَّ وجل ـ ولذلك العلم به من خلال ما جاءت به الرسل، يُثمرُ تحقيق العبودية له.
انتبه وانتبهي، لا يمكن أن تتحقق العبودية لله وأنت تجهله، لا يمكن أن تحب شيئاً وأنت تجهله، لا يمكن أن تُعظم شيئاً وأنت تجهله، لا يمكن أن تخاف شيئاً وأنت تجهله، لا يمكن أن تتوكل على أحد وتعتمد عليه وأنت تجهله؛ فلذلك كل ثمار السعادة ناتجة عن العلم بالله.
ولهذا قال المشركون لما جاء النبي ﷺيدعوهم إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، بعد أن أمره الله ـ تعالى ـ بقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[الحجر: 94] دعاهم إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له ـ سبحان الله ـ كيف يعبدونه وحده، وهم قوم امتلأت قلوبهم بالتعلَّق بالأوثان، لكنَّها نقلة، نقلت البشرية من ظلمات وجهالات إلى أنوار وسعادات، أتدرون كم كان في الكعبة من صنم؟
كان في الكعبة قريباً من ثلاثمائة صنم، تعبد كُلها من دون الله، وهذه في بيت الله، في أعظم بقعة عظَّمها الله وحرمها في الأرض، عُبدَ غير الله فيها، فجاء النبي ﷺيدعو قومه، أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، أتاهم يقول لهم: «قولوا: لا إله إلا الله» فقال قومه: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ} - هذه التي نعبدُها – {إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص: 5] هذا شيء غريب، وشيء غير مستوعب، كيف نترك هذه الآلهة الكثيرة، ونعبد إلهاً واحداً؟!
لكنَّه بيَّن لهم: أنَّ الذي دعاهم إليه ليس كغيره؛ ولذلك جاؤوا، قالوا له: انسب لنا ربك؟ -يعني: بيِّن لنا صفته، بيِّن لنا نسبه– هذه آلهة نعرفها: اللات، والعزى، وهبل، ومناة، وما إلى ذلك مما كان يعبدوه المشركون، كانوا يتفاخرون بها، ويعبدونها من دون الله؛ لكن أنت هذا الإله الذي تأمرنا بأن نعبدَه واحداً لا شريك له، نعبدُه دون غيره، ما هي صفاته؟ وما هو نسبه؟
فأوحى الله إلى رسوله، كما في الترمذي من حديث أُبي بن كعب: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} أحد في أسمائه لا شريك له، أحد في ذاته لا نِدَّ له، أحد في صفاته لا مثيل له، أحد في أفعاله فلا يشرَكه أحدٌ في خلقه وايجاده وتكوينه، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس: 82] سبحانه وبحمده.
{اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص: 2-4] فكانت هذه بيان وإيضاح للإله اّذي أمرهم بعبادته، إنه إلهٌ منفرد بكل الكمالات، إلهٌ ليس له أصلٌ تفرعَ عنه {لَمْ يَلِدْ}، ولا تفرع عنه شيء {وَلَمْ يُولَدْ}، فلم يكن له ولدٌ ـ جلَّ في علاه ـ سبحانه وبحمده.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص: 1-2] الذي تصمد إليه الخلائق، وتتوجه إليه القلوب، وكل الخلق في سماواته وفي أرضه، وفي بره وبحره، لا تُقضى حوائجهم إلا مِن قِبله، فيضعون حوائجهم، وينزلونها بالله، لا إله إلا هو ـ سبحانه ـ لا مانعَ لما أعطى، ولا معطي لما منع، سبحانه وبحمده.
إذاً بين النبي ﷺربَّه للمشركين، وبيَّنه بصفاته، وهذا هو الذي يحصلُ به العلم بالله، والتعرف عليه.
فالعلم بالله، والتعرف عليه إنما يكون بالعلمِ بصفاته، وبأسمائه، وبما له من الكمالات، سبحانه وبحمده.
أيها الأخوة والأخوات، إنَّ تحقيقَ العلم بالله ـ عزَّ وجل ـ يثمر محبة الله ـ جلَّ في علاه ـ فمن علِمَ الله أحبه، لا يمكن لقلبٍ يتعرف على الله أنه المألوه، الذي تألهه القلوب محبة، وتعظيماَ، تعرف {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*مَالِكِ يَوْمِ الدِّين}[الفاتحة: 3-4]، {رَبِّ الْعَالَمِين} الذي منه كل عطاءٍ ونعمةٍ، وإحسانٍ وجودٍ وفضل، تعرف الله العظيم المجيد الحميد، تعرف الله الذي هو قاهر فوق عباده، الذي هو عليمٌ قدير، الذي هو عليمٌ خبير، الذي هو عزيز حكيم، ما في قلب يَدرك هذه المعاني، ويعرف هذه الصفات؛ إلا ولا بدَّ ضرورةً أن يجد في قلبه محبةً لهذا الرب، لا بدَّ أن يجد محبةً لهذا الرب، فيمتلئ قلبه محبةً لله.
فالعلم بالله يُثمرُ حبه؛ ولذلك أقول لكل من أرادَ محبة الله: اقرأ صفات الله، اقرأ أسماء الله، اقرأ أفعال الله؛ فستجد أنك تحبه ولا بدَّ.
ثم إنَّ من ثمار العلم به ـ جلَّ في علاه ـ بعد محبته، من ثمار العلم به: تعظيمه، فالقلوب التي تعرف ما له من البهاء والكمال والجلال والعظمة؛ لا بدَّ أن تُعظِّم هذا الرب، لا بدَّ أن تَقدُرَه حق قدره، لا بدَّ أن تُجلَّه ـ سبحانه وبحمده ـ وبهذا يتحقق للإنسان كمال العبودية.
فالعبودية تقوم على ركنين: على المحبة، والتعظيم.
وعبادة الرحمن غاية حبه....... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر....... ما دار حتى قامت القطبان
العبادة تدور على محبة الله وتعظيمه، فبقدر ما في قلبكَ، وبقدر ما في قلبكِ من محبة الله، وتعظيمة؛ بقدر ما تحقق من العبودية لله.
مِن ثمار العلم بالله: أن يخشاه الإنسان، فبقدر العلم بالله تكون الخشية؛ ولذلك يقول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: 28].
أتدرون من هم العلماء؟ ليسو هم أولئك الذين يقولون كلاماً طويلاُ عريضاً في بيان أشياء، ونقل مرويات فقط؛ بل إنه خشية الله، العلم في القلب؛ ولذلك يقول الله ـ تعالى ـ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر: 28].
ابن مسعود أخذ من هذا فقال: ليس العلم بكثرة الرواية - ليس العلم بكثرة الكلام، وتشقيق المسائل والتفصيل – إنما العلم الخشية.
الإمام أحمد كان يذكر عنده علماء كُثر، وكان يثني كثيراً على رجل اسمه: معروف الكرخي، وهو رجل عابد، فيه خير وصلاح، وكان قليل العلم، فلمَّا ذكره وأثنى عليه مرة من المرات، قال له أحد الحاضرين: يا أبا عبدِ الله؟ لكنَّ معروفاً قصير العلم – يعني: قليل العلم، ما عنده علم كثير - قال: معروف حَصَّلَ ما من أجله يُطلب العلم.
من أجلِ ماذا يُطلب العلم؟ من أجل تحقيق الخشية لله؛ ولهذا قرن النبي ﷺبين العلم والخشية، فقال: «وإنِّي لأخشاكم لله، وأعلمكم به»صحيح البخاري (5063)، وفي رواية: «وإنِّي لأعلمكم بالله، وأتقاكم له»مسند الإمام أحمد (24319).
فالعلم قرين الخشية، فبقدرِ علمك بالله تخافه وتخشاه، وترهبه وتُجله؛ فلذلك إذا أردت هذه المعاني الجميلة الجليلة، الأعمال القلبية الكبيرة؛ فاحرص على العلم بالله، فإنه تُدرك بذلك كلَ كمالٍ قلبي وعملي.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة، من برنامجكم «فادعوه بها»، السلام عليكم ورحمةُ الله وبركاته.