{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة: 2-4] أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، له الحمد كله، أوله وآخره، وظاهره وباطنه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، ربُّ العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثره، واتبَعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فمرحباً وأهلاً وسهلاً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
إنَّ العلم بالله ـ عزَّ وجل ـ ومعرفة الله ـ سبحانه وبحمده ـ أصل كل خيرٍ في الدنيا والآخرة، ما في شيء مما يحبه الناس في دنياهم، ويرجونه في أُخْرَاهم إلا طريق تحصيله العلم بالله، يقول الله ـ جلَّ وعلا ـ لرسوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك}[محمد: 19].
يأمره ـ جلَّ في علاه ـ أن يعلم هذه الحقيقة، والتي هي ثمرة مقدمات كثيرة، منها وأصلها هو العلم بالله عزَّ وجل.
لذلك أيها الأخوة والأخوات، العلم بالله ـ عزَّ وجل ـ يُنتج ثمار بديعه، قلبيَّة وعمليَّة؛ لكن في الأصل ثماره قلبيَّة، وإذا صلح القلب تبعه البدن صلاحاً، واستقامةً، كما قال النبي ﷺفيما رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله»صحيح البخاري (52)، وصحيح مسلم (1599)
النفوس تتشوف إلى هذه المضغة الخطيرة، والتي تبلغ في التأثير أنها إذا صلحت صلح جميع الجسد، وإذا فسدت فسد جميع الجسد، ما هي يا رسول الله؟ «ألا وهي القلب».
بيَّنها ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بياناً واضحاً جليّاً، فقال: «ألا وهي القلب»، وإنما يَصْلُح القلب إذا عرف الله، وإذا عَلِمَ الله، وإذا أحبَّ الله، وإذا عظَّمَ الله، وإذا جلَّ الله، وإذا امتلأ تعظيماً لله ـ عزَّ وجل ـ عند ذلك يَنْعم القلب، وعند ذلك يَسْعَد القلب، وكل من أرادَ سعادة قلبه، وطمأنينة فؤاده، وانشراح نفسه فليُقْبِل على معرفة ربِّه؛ فإنَّ العلم بالله ومعرفته يُدرك بها الإنسان سعادةً لا يدركها بغيره؛ لذلك يقول الله ـ جلَّ في علاه ـ: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد: 28].
إنّ الطمأنينة ثمرة ليست فقط لقولك: سبحان الله، والحمد لله؛ إنّها ثمرة العلم بالله الذي حمل لسانك على ذكره وتمجيده، وحمده والثناء عليه، سبحانه وبحمده.
أيها الأخوة والأخوات، كما قال ابن المبارك ـ رحمه الله ـ: «أكثر الناس يَخْرُجون من الدنيا ولا يذقون أطيبَ ما فيها، قالوا: ما أطيب ما فيها؟ قال: معرفة الله عزَّ وجل».
معرفة الله هو العلم به ـ سبحانه وبحمده ـ تُثْمِر ثمار طيبة، ثمار حسنة، يدرك بها الإنسان السعادة، يكون من أولئك الذين قال الله ـ تعالى ـ فيهم: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}[هود: 108].
إنه نعيم يدركه في الدنيا قبل الآخرة؛ ولذلك يقول بعض الأئمة وأهل العلم: إنَّ في الدنيا جنَّةً، مَن لم يدخلها لا يدخل جنَّةَ الآخرة.
أتعلمون ما هي جنَّةُ الدنيا؟ إنَّ جنَّةَ الدنيا هي العلم بالله، إنَّ جَنَّةَ الدنيا هي معرفة الله ـ جلَّ في علاه ـ فمن عرف الله سَعِد، ومن عرف الله ابتهج، ومن عرف الله ـ سبحانه وبحمده ـ أدركَ كل خير، وكلُ شقاءٍ في الدنيا، وكل ضيقٍ في الدنيا إنما هو ناتجٌ عن الجهل بالله ـ عزَّ وجل ـ ولذلك يقول الله ـ عزَّ وجل ـ في كتابه في آية واضحة صريحة: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}[الأنعام: 125].
نعم، مَن يُرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ما هو الإسلام؟ إنَّ الإسلامَ هو تعريفٌ بالله، وهو علمٌ به، وعلمٌ بالطريقِ الموصل إليه، فمن أراد الله له التوفيق والسعادة، من أراد الله له الخير والبر؛ وفقه إلى العلم به ـ جلَّ في علاه سبحانه وبحمده ـ عند ذلك يسعد، ولو كان في أشقى ما يكون من أحوال الدنيا، فقراً وضيقاً، وكدراً من حيث الأسباب المادية، إلا أنَّ ما في صدره جَنَّة، وما في صدره روضة، وما في صدره طمأنينة، فيكونُ هذا كافياً له عن كلِ مُتَعِ الدنيا؛ لأنه وصل إلى غايتها؛ ولهذا لما دخل عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ على سيد ولدِ آدم، نبينا محمد ﷺوقد اضطجع على فراشٍ مُرَمَّل، أثرَ بعضُ ما فيه في جنبِ رسول الله ﷺ، نظر عمر في حُجْرة سيد ولدِ آدم، وإذا الموجود فيها شيء زهيد، بكى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لقلّةِ ما عند النبي ﷺعلى عظيمِ مكانته، وعظيمِ جاهه، وقارن ذلك بما أعطاه الله تعالى لقيصر وكسرى من كنوز الدنيا ونعيمها، فقال: يا رسول الله هذا أنت رسول الله، وصفوته من خلقه، وهذه حالُك، وأؤلئك على ما هم عليه، فقال له النبي ﷺ: «ألا ترضى يا ابن الخطاب أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟»صحيح البخاري (4913)
إنَّ النبي ﷺفاز بشيءٍ أغناه عن كل تلك المُتع، وأغناه عن كل ذلك النعيم المادي، الذي يتنعم به البدن، ولا يَسْكُن به القلب؛ إنه عَرَف الله ـ جلَّ في علاه ـ أتعلمون أيها الأخوة والأخوات، أنَّ النبي ﷺكان يمر الشهر والشهران والثلاثة لا يوقد في بيته نار؟
الآن اسأل أفقر الناس ممن يعيش في كثير من البلدان، يوقد النار في الشهر مرات، سيد ولد آدم محمد بن عبدِ الله ﷺتمر عليه ثلاثة أَهِلَّه لا يوقد في بيته نار.
إذاً طعامه هو مما يسر الله من تمرٍ وماء، كما قالت عائشةُ الصدِّيقة بنتُ الصدِّيق: «كان طعامه الأسودان: التمر، والماء»صحيح البخاري (2567)، وصحيح مسلم (2972).
إنه تنعَّم بشيءٍ أعظم من متاع الجسد، وإنه نعيم القلب بمعرفة الله، والعلم به، والأُنْس به ـ جلَّ في علاه ـ ولهذا العلم به يُثمر الطمأنينة، ويُثمر السكينة، ويُثمر اليقين بوعد الله، وأضرب لذلك مثلاً، كلنا نعرفه ونقرأه في كتاب الله، موسى ـ عليه السلام ـ خرجَ فارَّاً كما أمره الله ـ تعالى ـ ببني إسرائيل من بطش فرعون، فتبعه فرعون بجنوده، وجاء بقضه وقضيضة لهؤلاءِ الذين قال عنهم: {إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء: 54-55] فماذا كان؟!
مشى موسى ـ عليه السلام ـ حيثُ أمره الله، وتوجه، فحال بينه وبين العبور إلى غايته والجهة الأخرى ماء -البحر- فقال أصحاب موسى: {إِنَّا لَمُدْرَكُون}[الشعراء: 61] يا موسى أين؟! أمامك البحر وفرعون وراءك.
إذاً نحن في المقاييس المادية {لَمُدْرَكُون}، ماذا قال موسى ـ عليه السلام ـ العالم بالله، والموقِن بوعده والمصدق لقوله؟ قال: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين}[الشعراء: 62].
هذا القول هو ثمرة، ثمرة ماذا؟ قول موسى بيقينه بأنه سينجو، ويخرج من هذا المأزق، ما الذي أقرَّه في قلبه؟
أقرَّه في قلبه أنَّ الله وعده وأمره والله لا يخلف الميعاد، {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي}[طه: 42]، وكما في الآية الأخرى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه: 46]استشعر معيَّة الله.
كذلك النبي ﷺلما أمره الله ـ عزَّ وجل ـ بالهجرة، وخرج هو وصاحبه، وأووا إلى الغار، وأحدق بهمُ المشركون، جاؤوا إلى الغارِ الذي فيه النبي ﷺوصاحبه أبو بكر، حتى قال أبو بكر: «لو أنَّ أحدهم نظر إلى نعلِه لرآنا»، وقد قلِقَ رضي الله عنه غاية القلق أن يُدرك النبي ﷺ، وأن يفوز به أعداؤه، فقال له النبي ﷺمسكِناً، قال: «ما بالكَ باثنين الله ثالثهما»صحيح البخاري (3653)، وصحيح مسلم (2381).
إنه الله الذي نجَّا النبي ﷺمن هذا المأزق، والذي ترجم عنه النبي ﷺبقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة: 40].
نعم مَعَنَا بوعده، ومَعَنَا بحفظه، ومَعَنَا برعايته، ومَعَنَا بتأييده، ومَعَنَا بنصره، هذا ثمرة العلم به.
إذاً العلم بالله يثمر كل فضيلة، ويثمر كل بِرٍّ، ويثمر كل خير؛ لهذا يا أخوة، ويا أخوات، إذا أردتم سعادة قلوبكم فانهلوا من العلم بالله قدر طاقتكم؛ فإنه يُثمر محبته وتعظِمة، وخشيتَه والتوكل عليه، وصدق الإقبال عليه وصدق العبودية يُثمر اليقين، والثقة بوعده يُثمر الاطمئنان، ويُثمر الانشراح والبهجة؛ ولذلك لا ألذَّ، ولا أبهج، ولا أسرَّ، ولا أنعم للقلوب من معرفة الله والعلم به.
اللهم إنَّا نسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عملٍ يقربنا إلى حبك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) استودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.