إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادةً أرجو بها النجاة من النار، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، بعثه الله بالهدى ودين الحقِّ بين يدي الساعة قبل القيامة بشيراً ونذيراً، يُبشِّر المؤمنين وينذرُهم، ويُبشِّر الناسَ وينذرُهم، وداعياً إليه بإذنه، وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحباً وأهلاً وسهلاً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
إنَّ العلم بالله ـ تعالى ـ أعظم المطالب، أعظم ما يُطلب من الخلق أن يعرفوا الله، أن يعلموا مَن الله الذي يعبدون؟ ومَن الرَّب الذي يقصدون؟ ومَن الرَّب الذي خلقهم؟ ومَن الرَّب الذي رزقهم؟ ومَن الرَّب الذي أمرهم ونهاهم؟ ومَن الرَّب الذي وعدهم جَنَّةً عرضها السموات والأرض؟ ومَن الرَّب الذي له الكمالات؟
هذا أعظم مطلوب من الخلق؛ ولذلك كانت دعوة الرسل دائرة على التعريف بالله.
والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في أولِ ما جاءه الوحي جاءه تعريفٌ بربه الذي يعبد: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ»، اقرأ، «ما أنا بقارئ» – يعني: لا أُحسن القراءة – اقرأ، «ما أنا بقارئ» – يعني: لستُ ممن يحسن القراءة – {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق}[العلق: 1] تعريف بالله، {بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق: 1-5].
أشرف المعلومات وأعظمها هو العلم بالله، وأهمُ علمٍ في الدنيا هو العلم بالله؛ لأنه مناط السعادة؛ ولأنه مناط النجاة؛ ولأنَّ به تتحقق الغاية من الوجود.
ومعلوم أيها الأخوة والأخوات، أنَّ الله أرحم الراحمين، فلما كانَ أعظم المطالب وأعلاها هو العلم به ـ سبحانه وبحمده ـ فإنَّ الله لم يجعل العلم به في طريقٍ واحد؛ بل نوَّع الطرق التي يصلُ الناسُ من خلالها إلى العلم به، وهذا من رحمة الله.
فكل علمٍ يحتاجه الناس، وكل شيءٍ يضطرُ إليه الناس لا تقوم مصالحهم إلا به، فإنَّ الله لا يجعل له طريقاً واحداً للوصول إليه؛ بل ينوِّع الطرق الموصلة إليه؛ رحمةً بعباده، فهو أرحم الراحمين ـ جلَّ في علاه ـ فمن رحمته أن نوَّع الطرق التي يصلُ العبادُ منها إلى العلم به، وإذا تأملت وجدت أنَّ العلم به قد جعل له طرقاً كثيرة، جمعها ابن القيم في بيتين لطيفين، يقول:
سافرتُ في طلب الإله فدلني الـ......هادي عليه ومحكمُ القرآنِ
مع فطرة الرحمن جل جلاله......وصريح عقلي فاعقلي ببيانِ
هذان البيتان المختصران أجملت اختصرت جمعت الطرق التي من خلالها يدرك الإنسان العلم بالله ـ عزَّ وجل ـ إنه ليس طريقاً واحداً.
ينبغي أن يُعرف أنَّ العلم بالله ـ جلَّ في علاه ـ له طرقٌ كثيرة ومتنوعة، يجمعها هذه الطرق التي تضمنتها هذه الكلمات المختصرات.
أول الطرق التي تدل على الله وتُعرِّف به، ويعلم من خلالها الخلقُ الرَّبَ، ويعرفونه ـ جلَّ في علاه ـ: ما رَكَزهُ في نفوسهم من الفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ}[الروم: 30]
الله أكبر، ما من إنسان، وما من أحدٍ إلا وقد فطره الله على طلب إلهٍ يعبدوه، وطلب مَن يقصده، ومَن يتوجه إليه، ومَن يحبه، ومَن يُعظمه، هذه {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ}[الروم: 30]، كما قال ـ تعالى ـ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}[الروم: 30] {حَنِيفًا} أي: قائماً على التوحيد، مائلاً عن الشرك {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون}[الروم: 30].
وقد جاء في الصحيح -صحيح الإمام مسلم- من حديث عياض بن حمار ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النبي ﷺقال: «ألا إنَّ ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم، مما علَّمني يومي هذا»، فكان مما أخبر به ﷺأنه قال: «وإني خلقت عبادي حنفاء» هنا الشاهد «حنفاء» يعني: قائمين على التوحيد في فِطَرِهم وفي قلوبهم، «وإني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين»صحيح مسلم (2865) صرفتهم الشياطين، أخرجتهم عن الجادَّةِ، وعن الصراط المستقيم.
إنَّ الفطرة هي: أمرٌ جبل الله ـ تعالى ـ النفوس عليه، أتُرون الصغير إذا خرج من بطنِ أمه، ثم حملته، أليس يلتقمُ ثديها؟ أليس يمصُ لبنها، ويشربُ حليبها؟ من الذي هداه إلى هذا؟ إنه الله جلَّ في علاه.
أرأيتم الصغير عندما يبدأ في السير، أليس يمشي على يدينِ ورجلين؟ ثم إذا كبُرَ اعتمد على رجليه في سيره، حتى يَدْرُج في سيره، فيسير على قدميه، مَن الذي هداه إلى هذا؟
لماذا لم يشرب الصغير من أُذنه؟ لماذا لم يشرب من عينه؟ لماذا لم يشرب من أنفه؟ لماذا طلب الطعام من فمه؟ إنها فطرة الله، هذه فطرة هدى الله الخلق إليها؛ لتستقيم أبدانهم، ويَصحَ معاشُهم، لكن هناك فطرة في القلوب، بها تستقيمُ قلوبهم، وتصلُحُ دنياهم وآخراهم، ويدركون سعادة الدارين بها، إنها فطرة الله ـ تعالى ـ التي فطرَ القلوب عليها من محبته، والإقبال عليه.
هذه الفطرة مركوزة في النفوس، ولا تحتاج إلى كثرة أدلة، فلو خُليَ الإنسان ونفسه لما وجدَ نفسه إلا مقبلاً على الله، متوجهاً إليه ـ جلَّ في علاه ـ لولا الصوارف التي سنشير إليها بعد قليل.
إنَّ الرسل جاءت معزِّزَة لهذه الفطرة، فطرة الله هي ما ركزه في نفوسهم، فهي الدليل الأول الذي جعله الله ـ عزَّ وجل ـ في النفوس دالاً عليه؛ ولذلك لما قيل لعجوز: إنَّ فلاناً... رأت عالماً، وحوله جلابة، يمشي معه أناس، ويتبعه مئات من طلابه، قالت: من هذا؟ قالوا: هذا فلان من علماء الكلام، قد جمع ألف دليل على وجود الله ـ عزَّ وجل ـ فما كان منها إلا أنها أجابت بفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[الروم: 30] وعززها القرآن، قالت: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض}[إبراهيم: 10] يعني: أيحتاج في معرفة الله وإثباته إلى هذا الكم الكبير من الأدلة، والنفوس مُخبرة مجبولة مفطورة على عبادة الله وحده لا شريك له، وعلى التوجه إليه جلَّ في علاه؟!
إنَّ هذه الفطرة ليست لبني آدم فقط؛ بل هي في الكونِ كله، ألم تسمع قوله ـ جلَّ في علاه ـ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم}[الإسراء: 44].
إنها فطرة الله التي فطرَ الخلق عليها، فكل القلوب مفطورة على التوجه إليه ـ جلَّ في علاه ـ لكن فيما يتعلَّق بالإنس والجِن جعل الله ـ تعالى ـ لهم خياراً في الإقامة على هذه الفطرة التي جُبِلوا عليها، أو الانحراف عنها بما يكون من الصوارف التي تصرفهم عن الله عزَّ وجل.
إنَّ هذه الفطرة مُتكلمة مُبِينَة عن نفسها بالضرورة التي يجدها الناس في قلوبهم بحاجتهم إلى إلهٍ يعبدونه؛ ولذلك كل الناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم وأجناسهم وأعراقهم يطلبون إلهاً يعبدونه، الذين لا يعبدون شيئاً كما يزعمون، ويلحدون بوجود إله؛ وهم قلة من البشر، ونزر قليل لا يذكرون، لكن عامة الناس منذ أن خلق الله آدم إلى اليوم يطلبون إلهاً يتوجهون إليه، هذه هي الفطرة، وهذه هي الاستجابة لداعي الفطرة التي فطر الله ـ تعالى ـ عليها الناس.
الناس كلهم إذا نزلت بهم الضوائق، وحلت بهم البلايا توجهوا إلى إلهٍ يسألونه، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}[الإسراء: 67].
والآيات في هذا المعنى عديدة كثيرة؛ لكن هذه الفطرة يعلوها ما يعلوها من أسباب الانحراف، وأعظم ذلك تسلط الشياطين، كما قال النبي ﷺفيما يرويه عن ربه: «إني خلقت عبادي حنفاء» يعني: على التوحيد «فاجتالتهم الشياطين»: أخرجتهم، هذا أول ما يطمس معالم هذه الفطرة.
إنَّ مما يطمس معالم هذه الفطرة أيضاً: الغفلة، فإنَّ الناس إذا غفلوا أطبق ذلك على قلوبهم، وعَمُوا عن معرفة ربهم ـ جلَّ في علاه ـ ولهذا يقول الله ـ تعالى ـ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، هذا ميثاق أخذه الله ـ تعالى ـ بالفطرة التي فطرَ الناسَ عليها {قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}[الأعراف: 172].
مما يُغيب هذه الفطرة ويطمسها: البيئة المحيطة، فمن نشأ في بيئةٍ تشرك بالله وتكفر، فإنه ينطمس في قلبه ما فطرَ الله النفوس عليه من التوجه إليه وعبادته؛ ولذلك قال النبي ﷺفيما يرويه أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ في الصحيحين، قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «كل مولدٍ يولد على الفطرة»، طيب ما الذي يخرجه عن هذه الفطرة؟ «فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»صحيح البخاري (1358)، وصحيح مسلم (2658) أي: يصرفانهِ عن مقتضى الفطرة من عبادة الله وحده لا شريك له.
إذاً أول طريق يصل به الناس إلى الله وإلى معرفته والعلم به هو طريق الفطرة التي فطرَ الناس عليها.
اللهم إنَّا نسألك أن تملأ قلوبنا بمحبتك وتعظيمك، وأن ترزقنا العلم بكَ ومعرفتك، وإلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.