الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حقَّ حمده، له الحمدُ كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، ربُّ العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، أمَّا بعد:
فحياكم الله أيها الأخوة والأخوات، مرحباً بكم أيها المشاهدون والمشاهدات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
إنَّ الله ـ تعالى ـ تعرَّفَ إلى عباده، وعرَّفَ بنفسه، وبيَّن ـ جلَّ وعلا ـ ما له من الصفات، وما له من الأسماء، وما له من الأفعال، كلُ ذلك ليتحقق العلمُ به، والعلم به له طرق كثيرة متنوعة، وقد بيَّنَ الله ـ تعالى ـ ذلكَ بالفطرة التي فطرَ الناس عليها، كما قال ـ تعالى ـ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[الروم: 30] فكل إنسانٍ في قلبه وجِبلَّتِه وهيئته الأساسية الأصلية انجذاب إلى الله، وإقبال عليه، يقول ابن القيم:
والقلبُ مفطورٌ على محبوبه الأعلى *** فلا يغنيه عنه حبٌ ثانِ
(الأعلى): هو الله جلَّ وعلا.
مهما طلب الناس ما يتوجهون إليه، ويتنعمون بالإقبال عليه سوى الله، فإنهم لا يدركونَ إلا شقاءً.
إذاً الفطرة هي الطريق الأول من طرق المعرفة بالله، والعلم به، وهي طريق يشترك فيه الناس جميعاً؛ بل يشترك فيه كلُ الخلق {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[الإسراء: 44]، فيسبحُ له ـ جلَّ وعلا ـ كل شيء، وهذه الفطرة التي فطرَ الله ـ تعالى ـ عليها الخلق، كما قال ـ تعالى ـ: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}[البقرة: 116]، فالجميع قانت لله عزَّ وجل.
أيها الأخوة والأخوات، إنَّ من طرق العلم بالله: العقل، الذي مَنَّ به على بني آدم، وعلى الأنس والجن، فإنَّ العقول تدل على الله ـ عزَّ وجل ـ لهذا من طرق العلم بالله أن يُعمل الإنسان ذهنه وفكره وعقله؛ ليصلَ إلى الله ـ عزَّ وجل ـ ولهذا حاجَّ العلماءُ الملاحدةَ الذين كانوا يكذِّبون بالله ـ عزَّ وجل ـ من طريق العقل؛ لأن الملحد يقول: أنا لا أؤمن بالله؛ لأني لا أراه، لا تدركه حواسي.
الجواب يسير: وروحك التي بها تحيا هل تبصرُها؟ وهل تسمعها؟ وهل تدركها حواسُّكَ مسّاً أو شماً أو غير ذلك؟
الجواب: لا، أين هي روحك؟
الكهرباء هذه التي بها تُضاء الدنيا أين هي؟ وهل تراها تنتقل في الأسلاك؟ وهل هي موجودة أو لا؟
أشياء كثيرة في حياة الناس لا يرونها، لكنَّهم يوقنون بوجودها؛ لهذا لما جاء جماعة من الملاحدة إلى أبي حنيفة كما يُنقل عنه ـ رحمه الله ـ وهو الإمام الشهير من أئمة الفقه وعلماء الإسلام، في القرن الثاني الهجري جاء إليه جماعة، وسألوه، قالوا: أعطنا دليلاً يثبت وجود الله؟
فقال: إني مشغول عنكم بأمر، فدعوني.
قالوا: وما شغلك؟ يعني: ما الذي يشغلك عن أن تجيبنا.
قال: إني عجبتُ لسفينةٍ محمَّلةٍ بالمتاع والأرزاقِ وعجائب الأشياء، تأتي إلى دجلة، فتنزِّلُ ما فيها من حمولةٍ ومتاعٍ وعجائب، وتحملُ غير ذلكَ، ثم تنصرف دون أن يكون لها ربان ـ قائد ـ ودون أن يكون لها من يحملُ ما فيها تنزيلاً.
فقالوا: أبكَ جنون؟
قال: ولمَ؟
قالوا: كيف تصدِّق أنَّ سفينةً تفعل هذا دون رُبانٍ، ودون قائد، ودون عمال يحملون ويُنزلون، ويضعون في السفينة متاعاً جديداً.
قال: أبكم جنون؟ كيف تبحثون عن دليلٍ لوجودِ ربّ، هذا الكون كله من صنعه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء}[النمل: 88] سبحانه وبحمده.
إذاً العقل يدل على الله ـ عزَّ وجل ـ فمن أبصر بعقله، وتأمل وتفكر، واعتبر واتعظ، واعمل فكره فيما يرى ويبصر؛ لابدَّ أن يصل إلى أنَّ للكونِ رباً، خالقاً، مدبراً، صانعاً، مالكاً ـ سبحانه وبحمده ـ لهذا ذكر الله ـ تعالى ـ جملة من الآيات التي تدل عليه ـ جلَّ في علاه ـ قال ـ سبحانه وبحمده ـ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ} لكن انتبه {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة: 164]، إنها ليست آيات لقومٍ عطَّلوا عقولهم؛ بل لقومٍ أعملوا عقولهم ليصلوا إلى خالقهم، وليعلموا ما له من الكمالات جلَّ في علاه سبحانه وبحمده.
أيها الأخوة والأخوات، إنَّ الله ـ تعالى ـ احتجَّ على الكفار في إثبات الخالق وانفراده بأنه لا إله غيره، وأنه لا يعبدُ سواه؛ بدليلٍ عقلي يقول: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ}[الطور: 35-36] إنَّ هذا الدليل دليل عقلي، هذا الخلق الذي نشاهده، نحن مَن خلقَنا؟! إنه الله جلَّ في علاه.
مَن خلق هذا الكون؟ مَن خلق السموات والأرض؟ أنحن خلقنا أنفسنا؟! أم هناك من خلقنا؟
إنه الخالقُ الجليل ـ سبحانه وبحمده ـ: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِين}[السجدة: 7].
إنَّ هذه الآيات وهذه العِبر تُحيي في النفوس الإقبال على الله، والتعرّف عليه؛ ولذلك من رحمته أن بثَّ الله ـ تعالى ـ الآيات في الكون، وهي سهلة ليست مما يصعب إدراكها، يدركها المتعلم والجاهل، ويدركها الحضري والبدوي، ويدركها العربي والعجمي، ويدركها كل أحد، وقد نوَّع الله الآيات الدالة عليه، كما قال ـ تعالى ـ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف: 105] حتى ذاكَ الذي لا يُبصر أقام الله له من الآيات في نفسه ما يعتبر به ويتعظ، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون}[الذاريات: 21].
كم لله من آية في يديك؟ وكم من آية في سمعك؟ وفي بصرك؟ وفي نطقك؟ وفي تنفسك؟ وفي تنقلك؟ وفي حركة الدم في عروقك؟
يا أخي: سبحان الله آيات عظيمة كثيرة دالة على الله، تشهد بعظمة هذا الصانع المتقن ـ سبحانه وبحمده ـ الذي خلق كل شيء، وأتقن كل شيء، سبحانه وبحمده.
إنَّ المؤمن إذا انتبه رأى في السموات وفي الأرض آيات تقوده إلى العلم بالله ـ عزَّ وجل ـ حتى يكون كما قال عامر بن عبد قيس ـ رحمه الله ـ قال: «ما نظرتُ إلى شيءٍ إلا ورأيته يدل على الله».
ما نظرتُ إلى شيءٍ، تنبَّه! ما نظرتُ إلى شيءٍ إلا ورأيتُ فيه ما يدل على الله، لكن هذا في قومٍ انفتحت أعينُ قلوبهم، كما قال الله ـ تعالى ـ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج: 46]، وهو ما أشار إليه قوله ـ جلَّ وعلا ـ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف: 105].
فالإنسان إذا انفتحت عينُ قلبه أبصر الدلائل الدالة على عظمَةِ الربِّ:
وفي كــــل شيءٍ له آيةٌ *** تــــــدل على أنه واحدُ
ولله في كل تحريكةٍ **** وتسكينةٍ في الورى شاهدُ
شاهدٌ على عظمَته، على خلقه، على ما له من كمالِ الصفات سبحانه وبحمده.
أعرابي قيل له: كيف عرفت ربَّك؟ أعرابي في الصحراء ليس عنده تعليم ولا عنده معرفة قيل له: كيف عرفت ربَّك؟
قال: البَعْرَة تدل على البعير -هذا دليل عقلي- والأثر يدل على المسير -لما ترى آثار تعرف أنه في أحد سار من هذا الطريق- فسماء ذاتُ أبراج، وأرضٌ ذاتُ فجاج، وبحارٌ ذاتُ أمواج، ألا تدل على العزيز القدير جلَّ في علاه؟
بلى والله إنها تدل عليه، لكنَّ ذلك ينطمس في نَظَرِ قومٍ عَمَيت أبصارهم، فلم ينظروا ما لله ـ عزَّ وجل ـ من كمالات.
إذا المرءُ كانت له فكرةٌ *** ففي كلِ شيءٍ له عِبرةٌ
فالشأن كل الشأن في أن يكون لك فكرة، الله ـ تعالى ـ يقول للأعرابي الذي يقودُ بعيره: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت}[الغاشية: 17]، وهذا في يومنا المعاصر أو في زمننا المعاصر بدا للناس من الآيات في أنفسهم وفي الأرض وفي الآفاق ما لا يجدون عنه مناصاً ولا محيصاً، إلا أن يقولوا: إنَّ للكون رباً، مدبراً، خالقاً، صانعاً ـ سبحانه وبحمده ـ في نظامٍ دقيق.
كل هذه الآيات التي يبصرُها الناس، ويكتشفونها في عجائب الخلق في السموات والأرض؛ كلها دالة على قدرة الله، معرِّفة به ـ جلَّ في علاه ـ لكن الذي لا يبصر ولا ينتبه ولا يعتبر تمر عليه هذه الآيات دون أن تؤثرَ في قلبه:
لله في الآفـــاقِ آيــــــــــاتٌ *** لعل أقلها هو ما إليه هداك
ولعل ما في النفسِ من آيـــاته *** عجبٌ عجابُ لو ترى عيناك
والكون مشحون بأسرار *** إذا حاولت تفسيراً لها أعياك
فسبحان من هذا خلقه!
تأمَّل سطور الكائناتِ فإنها *** من الملأ الأعلى إليك رسائلُ
وقد خُط فيها لو تأملت خطَّها *** ألا كلُ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ
اللهم ارزقنا عبرةً وعظة، واملأ قلوبنا ربنا بعلمك، وبمعرفتك، وبالقيامِ بحقك، وارزقنا البصيرة فيما نرى واجعلنا من أعلم عبادكَ بك، وأتقاهم لك، وأخشاهم لك، وأقومهم لحقك.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.