الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حقَّ حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، أمَّا بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
في هذه الحلقة نتناولُ طريقاً من طرق العلم بالله ـ جلَّ في علاه ـ طرق العلم بالله متنوعة، فمنها: ما فطرَ الله القلوب عليه {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}[الروم: 30]، وقد قال الله: «خلقتُ عبادي حنفاء-يعني: على التوحيد، وعلى التوجه إليه سبحانه وبحمده- فاجتالتهم الشياطين»صحيح مسلم (2865) أخرجتهم الشياطين عن هذا الطريق، عن الصراط المستقيم إلى أنواع من الضلالات.
ومن طرق العلم به ـ جلَّ في علاه ـ: العقل؛ ولذلك يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون}[الرعد: 4]، فالعقل هو طريق من طرق العلم بالله ـ جلَّ في علاه ـ ولذلك كان التوجه إلى الله ـ عزَّ وجل ـ وطلب معرفته من فطرة بني آدم، ومما يصلون إليه من خلال النظر في آيات الله ـ عزَّ وجل ـ والفكر فيما خلقه ـ جلَّ في علاه ـ والتأمل في الآفاق وفي الأنفس.
لكن كل هذا لا يُوصل إلى تمام العلم به؛ ولهذا من رحمة الله ـ عزَّ وجل ـ أن بعث الله إلى الناس الرسل، الذين يخبرون عن الله، الله ـ عزَّ وجل ـ غيب؛ ولذلك كان من أخص صفات أهل الإيمان أنهم يؤمنون بالغيب، الله ـ عزَّ وجل ـ غيب {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ}[الأنعام: 103] جلَّ في علاه، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}[طه: 110].
الخلق مهما أوتوا من قوة وقدرة لا يحيطون به علماً، يرون آياته، وما يدل عليه ـ سبحانه وبحمده ـ في الآفاق وفي الأنفس؛ لكن كلُ ذلك لا يُعرِّف به كمال المعرفة، فهو غيب، فجاءت الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ يعرِّفون الناس بالله من نوح إلى آخرهم، آدم عرَّف ذريته بالله عزَّ وجل.
وبَقِيَ الناس على هذا قرون متطاولة، كما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس: أن الناس بقوا على التوحيد عشرة قرون، ليس عندهم توجه إلى غير الله، ولا انصراف إلى سواه، حتى حدث الشرك، فجاءت الرسل تُعيد الفطرة، وتُعيد الناس إلى الجادة، لما خرجوا عن الصراط المستقيم بعث الله الرسل، فعرَّفوا بالله، وبيَّنوا ما له من كمالات، وهذه مهمة جميع المرسلين، من نوح إلى خاتمهم ـ صلوات الله وسلامه أجمعين ـ محمد بن عبدِ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
لكن كان أعظم بيان وأكمل إيضاح لما لله من كمالا ت في هذا الكتاب الخاتم، وفي القرآن العظيم، وفي القرآن المجيد، وفي القرآن الكريم، وفي القرآن المبين، وكلها صفات للقرآن، ذكرها الله في محكم كتابه؛ لأنها جاءت مُبيِّنة على ما يكون من نهاية ما يطيقه البشر، فالبشر لا يطيقون أكثر مما جاء به البيان في كتاب الله وفي سنة رسوله ما يتعلَّق بأسمائه وصفاته.
ولهذا كان القرآنُ أعظم كتابٍ بيَّن ما لله من كمالات في أسمائه، وما لله من كمالات في صفاته، وما لله من كمالات في أفعاله ـ جلَّ في علاه ـ ولهذا لا يجوز لأحد يريد أن يعرف الله، ويتعلَّم ما له من كمال، ويعلم ما له من الصفات والأسماء أن يتجاوز القرآن؛ بل لابدَّ أن ينهلَ من معين الكتاب الحكيم، وأن يُقبِل على القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، كما قال ـ جل وعلا ـ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء: 9].
وإذا كانت سورة واحدة وَصَفت الله ـ عزَّ وجل ـ وسميت بأنها صفة الرحمن، كما في الصحيح من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قصة الرجل الذي كان يقرأ بأصحابه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص: 1]، فلمَّا قالوا للنبي ﷺخبره كان يختم بالإخلاص، فلمَّا أخبروا النبي ﷺعنه قال: «سلوه لمَ يصنع ذلك؟» قال: إنها صفة الرحمن، وأنا أحبُ أن أقرأ بها، فقال: «أخبروه أنَّ الله يحبه»صحيح البخاري (7375)، وصحيح مسلم (813).
صفات الرحمن في سورة الإخلاص، لكن من رحمة الله أن بيَّن لنا من صفاته ما يأسرُ القلوب، ولا يجدُ القارئ المتدبر للآيات إلا أن ينقاد لدلالة الآيات، يقول جبير بن مُطعِم: «قدمت إلى النبي ﷺفي صلاة المغرب وهو يقرأ-كان مشركاً- فسمعته يقرأ: الطور، وسمعته يقرأ قول الله ـ تعالىـ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}[الطور: 35]، قال: كاد قلبي أن يطير»صحيح البخاري (4854) الله أكبر؛ لما لها من بيانِ الحجةِ الداحضة المبطلة لكل التفاتٍ وانحراف عن الصراط المستقيم، فهي تبطل كل شيء ينصرف به الناس عن الله .
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ}[الطور: 35-36].
هذه الآيات إذا تدبَّرها الإنسان كانت مترجمة مُبِينة لما لله من كمالات؛ لهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن، لماذا تعدل ثلث القرآن؟ لأنها صفة الرحمن، فَلِجَلِيل ما تضمنت من المعاني، وكبير ما احتوته من الدلالة على الله ـ سبحانه وبحمده ـ كانت تعدلُ ثلث القرآن.
وقد قال النبي ﷺلأُبي بن كعب: «أي آية في كتاب الله أعظم» -سأله عن أعظم آية في كتاب الله- قال: الله ورسوله أعلم، فعاد عليه السؤال ﷺفقال:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم}[البقرة: 255]، سبحانه وبحمده، ضرب النبي ﷺعلى صدر أُبي، فقال: «ليهنك العلم أبا المنذر»صحيح مسلم (810)، أي: تهنأ بهذا العلم، هذا علمٌ يُبلِّغك معرفةً هذا قدرها، فقد فزت بعلم كثير.
إذاً أعظم آية وهذا الشاهد، أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي، لماذا؟ لأنها تضمنت صفة الله، هذه الآية ليست فيها شيء سوى ذكر صفات الله ـ عزَّ وجل ـ ابتداء بإلهيته: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ثم بحياته وقيومته، ثم بكمالِ هذه الحياة، وبكمالِ هذه القيومية: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}، سعة الملك: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، انفراد بالتصرف: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، سعة علم: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}، العباد تقصر طاقتهم، الخلق تقصرُ إمكانتهم عن أن يحيطوا بشيء من علمه، بجزء من علم الله ـ عزَّ وجل ـ ببعض علم الله ـ عزَّ وجل ـ {ولا يحيطون بشيء من علمه}.
{وسِع كرسيه السموات والأرض}، والكرسيُّ: موضع القدمين، كما قال أبو موسى رضي الله عنه فيما يرويه عن النبي، وقيل: العلم، والصواب: أنه موضع القدمين كما صحَ عن أبي موسى رضي الله عنه.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} أي: لا يُكْرِثُه ولا يثقله حفظ السماوات والأرض على سعة ما فيها من خلق، وعظيم هذا الصنع.
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم} له هذه الصفات، العلو المطلق، والعظمة التي لا عظمة فوقها سبحانه وبحمده.
إذاً القرآن جاء ببيانِ صفات ربنا ـ سبحانه وبحمده ـ فمن أراد أن يتعرَّف على الله فليقرأ آيات الكتاب الحكيم، يقرأها بتدبر، كما فعلها ذلك الصحابي، الذي أخذ من سورة الإخلاص أنها صفة الرحمن، فكان يرددها.
فإذا قرأت صفات الله في كتابه فتدبر معانيها، قف عندها، تأمل ما فيها من أسرار وعجائب تأسر القلوب، وتكشف لك عظمة علام الغيوب ـ سبحانه وبحمده ـ فإنها تدعوك وتقودك إلى محبة الله، وتدعوك وتقودك إلى تعظِمه وإجلاله وهيبته سبحانه وبحمده.
أرأيت لو أنك قرأت بتدبر وحضور قلب أواخر سورة الحشر كيف سيكون تأثيرُها على قلبك في معرفة الله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ}[الحشر: 22-23] تنزه الله هذه صفاته، تنزِهه {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}[الحشر: 23-24] ما انتهت هذا بعضها؛ ولذلك نبَّه إلى أنَّ هذا بعض ما له من الأسماء الحسنى، وليس ذلك محيطاً بكل أسمائه {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}؛ ولذلك: {يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[الحشر: 24].
إنها آيات تأسر القلوب؛ لذلك أدعو نفسي وإخواني إلى أن نُقبل على القرآن؛ لنتعرف على ربنا الرحمن جلَّ في علاه.
مَن أراد أن يعرف الله على وجهٍ يَكْملُ به تحقيق العلم به، والتعرُّف عليه، والقيام بحقه بعد ذلك؛ فليقبل على كتاب ربه، وعلى ما أخبر به رسوله ﷺ؛ فإنَّ أسماء الله وصفاته تُتلقى من كتاب الله، ومن سنة النبي ﷺ، ولا يُتجاوز القرآن الحديث في معرفة رب الأرض والسماوات جلَّ وعلا.
ولنعلم أنَّ هذه الصفات وأنَّ تلك الأسماء له على وجهٍ لا يماثلُه فيها الخلق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الشورى: 11]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد}[الإخلاص: 4]، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}[مريم: 65] ليس له نظير، ولا كفو، ولا مثيل، {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون}[البقرة: 22].
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وارزقنا العلم بك، والتنعم بمعرفتك، واجعلنا من حزبك، وأوليائك، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.