الحلقة السادسة
(( دعوة نوح عليه السلام ))
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1]، أنزلهُ فأخرج عباده به من الظلمات إلى النور، له الحمدُ كُله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثَرَهُ بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
نوحٌ أولُ رسولٍ أرسله اللهُ تعالى إلى أهلِ الأرض، جاءَ على حينِ اختلافٍ من الناس، وافتراقٍ من البشر، فمنهم من بَقِيَ على توحيدِ الله تعالى وعبادته، والأكثرون والغالب كانوا قد خرجوا عن صراطِ الله المستقيم، وتنكَّبوا الطريقَ القويم؛ فوقعوا في الشرك، وعبادة غير الله عزَّ وجل.
جاءهم نوحٌ عليه السلام، ودعاهم بدعوةٍ صريحة، لا لبسَ فيها ولا غبش، أن يعبدوا اللهَ وحده لا شريك له، قال لهم: {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] .
بيَّنَ لهم ما جاءَ به، فقال لهم: {يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: 2-3].
نعم، نوحٌ عليه السلام دعا قومهُ إلى عبادة الله وحده، لم يكن ذلك في عامٍ ولا في عامين، لم يكن ذلك في عقدٍ ولا في عقدين، لم يكن ذلك في مائة سنة أو في مائتين؛ بل كان ذلك على أمدٍ طويلٍ، وعُمُرٍ مديد، يقولُ الله جلَّ وعلا في مُحكمِ كتابه: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14].
جاءَ نوحٌ عليه السلام بهذه الدعوة البيِّنة، لم يكن داعياً متوانياً؛ بل كانَ عليه الصلاة والسلام باذِلاً كُلَّ وقته ومُهجةَ نفسه وجميع طاقته في استنقاذِ قومه من الضلالِ المبين، في إخراجهم من ظلمات الشرك إلى أنوارِ التوحيد والإيمان.
وقد قصَّ اللهُ تعالى عظيمَ جُهدِ نوح في هدايةِ قومه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 5-10].
نعم، هكذا كان نوح عليه الصلاة والسلام في تنويعِ أوجه الدعوة والأساليب، والأوقات في الليلِ والنهار، في السرِّ والإعلان، في الجهرِ والخفاء، بالترغيبِ والترهيب.
كلُّ ذلك ليستنقِذَ قومهُ من عبادة غير الله عزَّ وجل، إلا أنَّ قومهُ قد تشرَّبُواالضلالَ في قلوبهم، فكانوا في غاية الكُفرِ والعناد، كما ذكر اللهُ تعالى عنهم فيما قصَّ من خبرِ نوح: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: 6]، فكلما اجتهدَ نوح في دعوتهم إلى الهدى كانَ مقابِلَ ذلك الفرار والبعد والهرب عن أنوارِ التوحيد.
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7] : أغلقوا منافذَ التلقِّي، وأقاموا على الكفرِ تكبُّراً وعناداً.
نعم، إنَّه نوَّعَ لهم أساليب الدعوة وطُرقَ الهداية، إلا أنهم أبوا إلا كُفراً وعناداً، فكان جوابهم في غاية التهاوي والضعف، والسخافةِ وقلةِ العقل: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأعراف: 60].
أين ذاكَ الضلال الذي زعمتهُ تلكَ النفوسَ المستكبِرة؟ إنهم في ضلالٍ مبين، في عبادةِ غيرِ الله تعالى.
وقد ردَّ عليهم هذه التهمة بأسلوبٍ في غايةِ اللطافة، فقال: {يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 61]، مهمتي ووظيفتي وما أوكلَهُ اللهُ تعالى إلي: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62].
وقد قصَّ اللهُ تعالى ما أجابَ به قومُ نوح في سورةِ الأعراف، فقال: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66].
وقد قصَّ اللهُ تعالى في موضعٍ آخر جوابَ قومِ نوحٍ له لما دعاهم إلى الهدى، فقال جلَّ في علاه: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27].
فذكروا في تسويقِ تكذيبهم وردهم لما جاءَ به نوحٌ صلى الله عليه وسلم أموراً:
أولُها أنه بشر، وهذه الدعوة الباطلة التي احتجَ بها قومُ نوح في إبطالِ دعوةِ نوح ورسالته كذابها ربُّ العالمينَ، فقال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94].
فجاءهمُ الجواب: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95]، لكنَّ ذلكَ لا يكون؛ ولذلك اقتضت حكمةُ أحكمِ الحاكمين أن يكونَ الرُّسلُ من البشر.
ولذلك قال جلَّ وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75].
أيها الأخوة والأخوات، ثاني ما احتجَ به قومُ نوحٍ في إبطالِ دعوته هو التنقُّصُ من أتباعه: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27].
فرد عليهم قائلاً: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَاقَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود: 28-29].
هؤلاء الذين تستخفون بهم ليس لي حقٌ أن أطرُدَهم، ولا أن أمنعهم الهداية، {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَاقَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } [هود: 29-30].
ثم عادَ مُبيِّناً ومقرراً بشريته، وأنَّ بشريتَهُ لا تُنافي رسالته، {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31].
فناقشَ شُبهتَهُم، وردَّ دعوتهم الباطلة، ثم عادَ مقرِراً أنَّ ذلكَ كُلَّه لا ينافي رسالته، وعادَ إلى تذكيرهم بالله عزَّ وجل.
فلما أقامَ عليهمُ الحُجة، وأبطلَ شُبهتهُم، وبيَّنَ ضلالَ قولهم؛ لم يقابلوا ذلكَ بالانقيادِ والقبول؛ بل عاندوا واستكبروا وضلوا، فقالوا كما قصَّ اللهُ تعالى: {قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32]، استعجال للعقوبة، وتحدي في إيقاع ما توعدَهم به من العذابِ العظيم، والعذابِ الأليم.
فقال لهم ناصِحاً مُشفِقا: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 33-34].
اللهم ألهمنا رُشدنا، وقنا شرَ أنفسنا، واسلك بنا سبيل الرشاد، وأعنا على الطاعةِ والإحسان، أيها الأخوة والأخوات، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.