الحمد لله ربِّ العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ الفاتحة: 2-4، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، رب العالمين، هو الرحمن الرحيم، ﴿هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ الحشر: 23، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنَّ محمدا عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق، بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، داعيا إليه بإذنه، وسراجا منيرا، أنار الله به السبل، أشرقت به الأرض بعد ظلُماتها، أنار الله به القلوب، هدى به من الضلالة، بصَّر به من العمَى، دلَّنا على أحسنِ عمل، وأكملِ طريق، هدانا إلى الصراط المستقيم، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم﴾ الشورى: 52، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فحياكم الله، وأهلا وسهلا ومرحبا بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها(.
إنها الأسماء الحسنى، إنها أسماء الله التي وصفاها وصفا يجمعُ كمالَها، ويكشفُ بهاءها، ويدل على عظمتها، يقول ربنا ـ جلَّ في علاه ـ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ الأعراف: 180، ويقول ـ جلَّ وعلا ـ: ﴿فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ الإسراء:110.
فهو ـ سبحانه وبحمده ـ الذي اصطفى من الأسماء أحسنها، حُسن الأسماء أيها الأخوة والأخوات، أيها المشاهدون والمشاهدات، ليس في بهاء ألفاظها فقط؛ بل حُسنها في ألفاظها، وحُسنها في معانيها، وحُسنها في آثارها وثمارها، وحُسنها في الدلالةِ على مَن تَسمَّى بها، فهي حسنى من كل وجه.
والحسنى: جمع حَسنة، وهي من صيغ المبالغة الدالة على نهاية الحُسن، أكمل الحُسن، غاية الحُسن، فليس فوق هذه الأسماء حُسن، وليس وراءها حُسن؛ بل هي حُسنى في كلِ وجهٍ من أوجهها، وهي دالة على أعظم موجود، وهو الله سبحانه وبحمده.
أيها الأخوة والأخوات، الله ـ تعالى ـ ذكر لنا في محكم كتابه أنَّ أسماءه حسنى، وأمرنا بأن ندعوه بها، قال ـ سبحانه وبحمده ـ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾الأعراف: 180، فكيف ندعو الله ـ تعالى ـ بأسمائه الحسنى؟
أمر الله ـ تعالى ـ بدعائه بأسمائه الحسنى عموما، وخصَّ منها أسماء، فذكر على وجه الخصوص، يقول ـ جلَّ وعلا ـ: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ الأعراف: 180، ويقول ـ سبحانه وبحمده ـ: ﴿ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّامَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾الإسراء: 110 سبحانه وبحمده، يعني: ادعوا بهذين الاسمين، وبغيرها من الأسماء التي تَسمَّى بها، وأخبر بها عن نفسه ـ جلَّ في علاه ـ: كالحي، والقيُّوم، والسميع، والعليم، والبصير، وسائر ما أخبر به تعالى من أسمائه الجليلة الكريمة.
السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان وينبغي أن نصل إلى وضوحٍ فيه هو: كيف نحقق ما أمرنا الله ـ تعالى ـ به في قوله: ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾؟ كيف نحقق ما أمرنا الله ـ تعالى ـ به في قوله: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ الإسراء: 110.
المتبادر إلى أذهان كثيرين أنَّ الدعاء بأسماء الله تعالى الحسنى هو أن نقول: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا رب العالمين، يا عزيز، يا كريم، يا قوي، ونأتي بمسائلنا بعد ذلك، وهذا بالتأكيد أحدُ صور وأحدُ معاني الدعاء بالأسماء الحسنى، فالأسماء الله الحسنى دعاء الله ـ تعالى ـ بها يكون على صورتين في الجملة:
الصورة الأولى هي ما ذكرتها قبل قليل، وهي: صورة سؤاله بأسمائه الحسنى ـ سبحانه وبحمده ـ بأن يقول المؤمن: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا رب العالمين، أو أنه يذكرها في دعائه توسلا، كأن يقول: ربِّ هب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، على سبيل المثال، أو ربِّ اغفر لي وتب علي إنك أنت الغفور الرحيم.
هكذا يُدعا الله ـ تعالى ـ بأسمائه الحسنى، إمَّا بندائه بها، وهذا مطابق تماما للدعاء؛ لأنه نداء، وإمَّا أن تُذكر أسماءه جلَّ في علاه في ثنايا الدعاء، وهذا كثير، وسيأتي له نماذج في كلامِ الله، وفي كلامِ رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
النوع الثاني من الدعاء، وهو الذي يخفى على كثيرين: هو دعاء الله ـ تعالى ـ تعبُّدا وتذللا بأسمائه الحسنى، وهذا في الحقيقة أعلى مرتبة من الأول، أن تدعو الله تعبُّدا بأسمائه الحسنى، تتعبَّد لله بأسمائه الحسنى دعاء عبادة، دعاء ثناء، دعاء حمد، دعاء تمجيد، دعاء تقديس، هذا يغفل عنه كثير من الناس؛ لأنَّ الإنسان يبادر إلى حاجاته ومسائله ومطالبه، ويغفل عن معنى مهم في دعاء الله ـ تعالى ـ وهو أنَّ الله إذا اشتغل العبد بذكره والثناء عليه وتمجيده وتقديسه وحمده؛ يبلغ من عطاء الله وإحسانه وبره وفضله وإنعامه ما يفوق خياله، ما يفوق تصوره.
أنت تتعامل مع مَن؟ تتعامل مع الجواد الكريم، تتعامل مع الحميد المجيد، تتعامل مع ذو الفضل والإحسان، تتعامل مع الغني الذي بيده ملَكوت كل شيء، (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء﴾المائدة: 64 سبحانه وبحمده.
وهذا المعنى مهم، يشير إليه حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ الذي قال فيه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته خير ما أعطي السائلين» البخاري في خلق أفعال العباد (ص109) .
الله أكبر! إنه جزيلُ الإحسان من ربٍّ، إذا اشتغل العبد بذكره وتقديسه وتمجيده والثناء عليه؛ بلَّغ العبد أعلى مما يُؤمِّل، يعني: لما تقول: ربي أعطني، يا رب اغفر لي، يا رب ارحمني، أن تسأل مسائل محددة ترى أنها تجلب لك الخير في دنياك أو في أخراك، والله عزَّ وجل كريم لا يخيب من سأله، ولا من طلبه، ولا من قصده وتوجه إليه ـ سبحانه وبحمده ـ فإنه لا يخرج السائل إلا بخير، لا يطرق باب الله أحدٌ فيرجع خائبا: «إنَّ الله حييٌّ كريم، يستحي أن يرفع العبد إليه يديه، ثم يردهما صِفرا»سنن الترمذي (3556) وقال: حديث حسن غريب ، أي: خاليتين من عطاءٍ و خيرٍ وبر.
لكن أعظم من هذا هو عندما تشتغل بتمجيده وتقديسه وحمده والثناء عليه تُدرك فوق ما تُؤمِّل، تدرك خيرا مما لو سألت بلسانك: «أعطيته خير ما أُعطي السائلين».
أنت تُفوض الله، تُفوض الكريم في أمرك: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾غافر: 44، مرتبة عُليَا أن يشتغل القلب بالثناء على الله، وتمجيدة وتقديسه، ويمتلئ القلب هيبة له وإجلالا، يمتلئ القلب محبة وانجذابا، يمتلئ القلب ميلا إليه، وتَنَعُّما بذكر أسمائه وصفاته، حتى يذهل عن مسألته.
هنا مرتبة عالية، مرتبة كبرى، مرتبة يبلغها أولئك الذين ذابت قلوبهم في محبته حتى غفلوا عن حوائجهم، هنا ربُّنا يتولى الحوائج، هنا ربُّنا يقضي المسائل، هنا ربُّنا يعطيك خير ما يعطي السائلين.
هذا النوع من الدعاء، هو دعاء العبادة، هو أن تذكر الله وتتأمَّل، ليس المقصود أن تقول: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا بر، يا رؤوف، ليس هذا مشروعا، ليس المشروع أن تكرر الأسماء دونَ طلب، إنما المشروع أن تذكر هذه الأسماء على وجهٍ تُعظِّم به الله ـ عزَّ وجل ـ كما تقول: يا الله، أسألك على سبيل المثال، ثمَّ تنهمك في مدحه، والثناء عليه وتمجيده سبحانه وبحمده، عن أن تذكر حاجتك.
وهذا له نظائر، يعني مثلا آخر سورة الحشر هو دعاء لله بأسمائه الحسنى جلَّ وعلا، فيه مسألة هنا، هل هناك مسألة في هذه الآيات: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ﴾ الحشر: 23-24 إلى آخر ما ذكره الله ـ تعالى ـ من تمجيده، هل هنا مسألة؟ لا ما في مسألة.
﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾الحشر: 24 فيه مسألة؟ هل قال: اغفر لي، ارحمني، اعطني، ارزقني؟ لا، إنما هو تمجيد وتقديس وتحميد وثناء على الله ـ عزَّ وجل ـ هذا نوع من دعاء العبادة، وبه يُفهم معنى قول النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «إنَّ لله تسعة وتسعين اسما، مَن أحصاها دخل الجنة» صحيح البخاري (2736)، ومسلم (2677) ، فإنَّ إحصاء الأسماء يكون بعدِّها، وهذا متبادر للمعنى؛ لأنَّ الإحصاء يأتي بمعنى العدِّ، وأيضا بعقلِ معناه: والعمل بآثارها ومقتضاها، فإنَّ للأسماء آثارا ومقتضيات، إذا امتلئ القلب بها سعِد الإنسان غاية السعادة، وفاز بقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: «إنَّ لله تسعة وتسعين اسما، مَن أحصاها دخل الجنة».
أيها الإخوة والأخوات، إنَّ دعاء العبادة ودعاء المسألة يكفي عن السؤال، كما قال الشاعر:
أأذكرُ حاجتي أم قد كفاني***حياؤك إنَّ شيمتك الحياءُ
حياؤك: أي: عطاؤك.
أحيانا الإنسان في مسائله لمن عُرفوا بالكرم والعطاء من بني آدم لا يذكر الحاجة، إنما يذكر ما عُرفوا به من صفات حسنة: كرم، وعطاء، وشهامة، وفزعة، وما أشبه ذلك مما يتصف به بعض الناس، ويكون هذا سببا للعطاء، فكيف بأكرم الأكرمين؟ كيف بأرحم الراحمين؟ كيف بالحميد المجيد، العظيم الجليل سبحانه وبحمده؟
لا شك أنَّ التعرُّف إليه بذكر أسمائه وصفاته يوجب الفضائل والعطايا، وهنا نفهم معنى قول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فيما رواه أحمد وغيره من حديث أنس: «أنَّ من قرأ آية الكرسي دُبر كلِ صلاة ليس بينه وبين أن يدخل الجنة إلا أن يموت» صحيح الترغيب والترهيب (1595)، الحديث في إسناده مقال، ضعفه بعضهم؛ لكن على القول بصحته لماذا كان سببا لدخول الجنة بأن يقرأ آية الكرسي دبر كل صلاة؟ لأنَّه من دعاء الله بأسمائه وصفاته.
ومثله: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ الإخلاص: 1 تعدل ثلث القرآن، لماذا تعدل ثلث القرآن؟ لأنها ذِكرٌ لله بأسمائه وصفاته.
اللهم بلِّغنا معرفتك، وارزقنا العلم بك، وأعنا على طاعتك، واصرف عنَّا معصيتك، واملأ قلوبنا بمحبتك وتعظيمك.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.