الحلقة الثامنة
(( هلاك قوم نوح عليه السلام ))
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حمداً ملء السماوات والأرض، وملء ما شاء من شيءٍ بعد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في حلقةٍ جديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
أنذرَ نوحٌ عليه السلام قومه، كما قصَّ اللهُ تعالى في كتابه، فكانَ ما كانَ من مُعاندتهم، فحذَّرهم العذابَ العظيم، والعذاب الأليم، فقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70].
فلمَّا جاءَ الميقات الذي قدَّرَهُ اللهُ تعالى، وفتحت السماء بماء منهر، وفجرت الأرض عيوناً، فالتقى الماء على أمر قد قدر، وطغى الماءُ وعلا؛ حملَ نوحٌ عليه السلام أهل الإيمان، وكانوا قلَّة، وحملَ في سفينته من أمرهُ اللهُ تعالى بحمله، فقال: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [المؤمنون: 27]، {وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40].
فلمَّا ركبَ نوحٌ ومن معه السفينة، قال: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] فذكرَ اسمَ اللهِ على جريانها، فجرت بين تلكَ الأمواجِ العظيمة التي أحاطت بها من كُلِّ جانب، فكانَ كما قال جلَّ في علاه: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42].
جرت برعاية الله وحفظه {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 14]، وجرى ما جرى مما قصَّهُ اللهُ تعالى من المحاورةِ بين نوح وابنه، فأغرقَ اللهُ تعالى الكاذبين والكافرين، كما قالَ جلَّ وعلا: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 64].
وكما قالَ سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [يونس: 73].
وكما قال جلَّ في علاه: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77].
وذكرَ ذلكَ أيضاً في قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 119-122].
لقد كانَ في ذلكَ الحدثِ وتلك الوقعة آيةٌ للناسِ كافة، كما قال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 15] .
ولم ينتهِ ما حلَّ بقومه عندَ غرَقِهم فحسب؛ بل {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25].
كلُّ ذلك من العذابِ الأليم الذي أحلَّهُ اللهُ تعالى بهؤلاءِ الكافرين، الذين كذبوا الرُّسُلَ وعاندوهم، واستكبروا على الآيات، وطلبوا إنزالَ العقوبات، فجاءهم ما كانو يوعدون، فكانَ ما كانَ من هلاك الكافرين، ومن عمومِ هلاكِ كُلِّ من لم يؤمن بما جاءَ به نوح بذلك الطوفان، الذي غمَرَ الأرض كُلَّها، فلم يبقَ إلا نوحٌ ومن معه من المؤمنين ممن حملتهم السفينة.
ثم قال اللهُ تعالى: {وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44].
فأجاب اللهُ تعالى دعوة نوحٍ عليه السلام حيثُ قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26].
جاءه نداءُ اللهِ عزَّ وجل بعدَ أن غيض الماء واستوت على الجودي، وضي الأمر {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48]، هبطَ نوحٌ بسلامٍ من اللهِ عزَّ وجل وبركاتٍ عليه وعلى من كانوا معه.
وقد كان لنوحٍ عليه السلام أربعةٌ من الولد، كلهم ذكور: يافث، وسام، وحام، ويام، وهو المُسمى عندَ أهلِ الكتابِ: كنعان.
وهذا الأخير هو الذي قصَّ اللهُ تعالى خبَرَه، عندما قال له نوحٌ عليه السلام: {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42].
إنَّ جميعَ البشريةِ بعدِ نوحٍ عليه السلام تفرعوا عن هؤلاءِ الأبناءِ الثلاثة -عن سام، وعن يافث، وعن حام- كما قال أهلُ التاريخ، وقد جاءَ في مسند الإمام أحمد أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلم قال: «سامٌ أبو العرب، وحامٌ أبو الحبَش، ويافثٌ أبو الروم» أخرجه أحمد 33/292 (20099)، ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة 8/159 (3683).
فهؤلاءِ أبناؤه وذريته هم الذين أبقاهمُ اللهُ تعالى، كما قالَ سبحانه: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77]، أمَّا من ركبوا في السفينة من المؤمنين فلم يبقَ لهم عَقِبٌ كما قالَ المؤرخون.
فمكث بعدَ ذلكَ نوحٌ عليه السلام ومن معه من أبنائه على التوحيدِ والإيمان ما شاءَ اللهُ تعالى أن يمكثوا بعد أن طهَّر اللهُ تعالى الأرض من أولئكَ الكفار المستكبرين، والمكذبينَ المعاندين.
ومن عجائبِ خبَرِ قومِ نوح ما جاءَ في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُدعى نوحٌ يومَ القيامة، فيقولُ: لبيك وسعديك يا رب، فيقولُ اللهُ تعالى: هل بلَّغت؟ فيقولُ: نعم، فيقول لأمته -هؤلاء الذين مكث فيهم ألف سنةٍ إلا خمسين عاماً يقولُ لهم- هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير -فيجحدونَ رسالته، ويكذِّبون نذارته، رغم طول العهدِ، وامتداد الزمان- فيقولُ اللهُ تعالى: من يشهدُ لك؟ فيقولُ: محمدٌ وأمته، فتشهدون أنه قد بلَّغ، فذلك قوله جلَّ وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]» أخرجه البخاري (3339).
فهذه الأمةُ تشهدُ لكلِّ نبي -ومنهم نوحٌ عليه السلام- أنه قد بلَّغ البلاغَ المبين، وبيَّن الطريقَ القويم، وأنَّ من كذَّبَ به إنما كذَّبَ عن إصرارٍ وعناد، ولم يكن له حجةٌ ولا برهان.
نوحٌ عليه السلام من أولي العزمِ من الرُّسل، صبَرَ وصابرَ، وبلَّغَ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصحَ أمته، بذلكَ نشهدُ له عليه الصلاةُ والسلام، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.