الحلقة التاسعة
(( نوحٌ عليه السلام مع أهل بيته ))
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
نوحٌ عليه السلام كانَ من بيتٍ صالح، فكان أبواه مؤمِنين؛ بل قيل: إنَّ جميع آباءِ نوحٍ عليه السلام لم يكونوا إلا على التوحيد، فكان نوح عليه السلام على طريقٍ قويم، سائراً على ما كانَ عليه آباؤهُ من الإيمانِ بالله عزَّ وجل، وإفراده بالعبادة.
إنَّ نوحاً عليه السلام دعا بالمغفرةِ لنفسه ولأبويه ولسائر المؤمنين، فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28].
هذه الدعواتُ المُباركات التي دعا فيها نوحٌ عليه السلام لنفسه ولوالديه ولمن دخلَ بيته وللمؤمنين والمؤمنات جاءت بعدَ دعائه على قومه، الذين كذَّبوه وعاندوه، حيثُ قالَ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26-27]، هذا دعاؤهُ على خصومه.
أمَّا دعاؤه لمن آمن به واتبعه فكان سؤالُ الله المغفرة، وهي أعظمُ ما يسألُه المؤمن؛ لأنه إذا غُفِرَ له حُطَّت خطاياه، إذا غُفِرَ له مُحيت سيئاتُه، إذا غُفِرَ له فازَ بعطاءٍ عظيم، وفضلٍ كبيرٍ من الله عزَّ وجل.
ولقد أخذَ العلماء من هذا الدعاء آداباً: منها أنه ينبغي للمؤمنِ أن يبدأ في الدعاءِ إذا دعا لنفسهِ وغيره أن يبدأ بنفسه، فنوحٌ عليه السلام بدأ بنفسه أولاً، فقالَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي}.
ثم ثنَّى بأعظمِ الخلقِ حقاً عليه، وهما والداه، فقالَ: {وَلِوَالِدَيَّ}، سواءً كانَ والديه المباشرين، أو كانَ أبويه وأجداده.
ثم عَطفَ على ذلك الدعاءَ بالمغفرةِ لخاصته، وهم الذين دخلوا بيته، وقد قال المفسرون في المرادِ بالبيت عدة أقوال: فقيل: من دخلوا مسكنه، وقيل: من دخلوا دينه، وقيل: من ركبوا معهُ في السفينة.
والذي يظهر -واللهُ تعالى اعلم-: أنَّ البيتَ هنا هو البيتُ الحسي الذي يسكُنُه، هو البيتُ المعهود الذي يسكُنُه؛ لأنَّ السفينة لا تُسمى بيتاً، كما أنَّ الدينَ لا يُسمى بيتاً.
بعدَ أن دعا لنفسه، ولمن له بهم اختصاص من الوالدين والمخالطين عمَّمَ الدعاءَ للمؤمنينَ، فقال: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.
هذا يشملُ كل من اتصفَ بالإيمان ممن آمن به، وممن سبَقه، وممن جاءَ بعده، وقيل: بل المرادُ: المؤمنونَ ممن اتبعوه.
والذي يظهر أنه أعمُّ من ذلك، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواهُ البخاري ومسلم من حديث أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في التشهد، عند قول القائل في دعائه: «السلامُ عليكَ أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، السلام علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحين»، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «فإنكم إذا قلتموها أصابت كُلَّ عبدٍ لله صالح في السماءِ والأرض» أخرجه البخاري (831)، ومسلم (402)..
فهذا الدعاء قد أُنيطَ بوصف، فكلُّ من اتصف بهذا الوصف فإنه ينالُه من دعوةِ نوح عليه السلام ما يُسَرُّ به {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.
ثم عادَ الدعاءَ على خصومه، الذين حاربوه وآذوه وكذَّبوه وعاندوه: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28].
وإنَّ لنوحٍ عليه السلام أربعةً من الولد: حام، ويافث، وسام، ويام، وهو المُسمى في كُتُبِ أهلِ الكتابِ: كنعان.
هؤلاءِ كانوا موافقينَ لنوحٍ عليه السلام في دعوته، مؤمنين به إلا ما كانَ من يام -وهو كنعان- فإنه الذي قصَّ اللهُ تعالى خبَرَهُ في كتابه، حيثُ كان على الشرك والكُفُر.
إنَّ نوحاً عليه السلام لمَّا رَكِبَ ومن معه السفينة طلبَ ابنه، وكان في معزل، فناداه قائلاً: {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42]: لا تكن موافِقاً للكافرينَ في مصيرهم ومآلهم؛ فإنَّ مآلهم الخَسارُ والهلاك، مآلهم الخيبةُ والدمار.
قال له ابنه المستكبر: {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ}، إنه طلَبَ الفرار بالاعتصامِ برؤوسِ الجبال، لكنَّ الموجَ كانَ أعلى من ذلك؛ ولذلك قال نوحٌ عليه السلام: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ}، ومن رحم هم أولئكَ الذين أطاعوا نوحاً عليه السلام، هم الذين آمنوا به، هم الذين ركبوا معهُ السفينة.
نوحٌ كانَ في غايةِ اللهفة أن يستجيبَ ابنه، وأن يركبَ معهم؛ لكن {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِين} [هود: 43].
فجرى ما قضى اللهُ تعالى وقدَّره من كون ابن نوح عليه السلام من الهالكين، من الكافرين المُغرقين، فلم ينقطع، {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِين} [هود: 45].
هكذا في عرضٍ موجز مختصر، ينادي نوحٌ ربه كما قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي}، وقد وعدتني يا الله بأن تُنجي أهلي، {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 45-46].
فقطعَ اللهُ تعالى الصلةَ بين نوحٍ وابنه الذي كفَرَ واستكبر، وقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ }، وفي قراءة: (إنه عمِلَ غيرَ صالح).
نعم، أثَّر عليه عملُه، فكانت هذه النتيجة من أنه أُهلِكَ وأُنزِلَ به العِقابُ الذي أُنزِلَ بأمثاله من الكافرين المستكبرين، فنهى اللهُ تعالى نوحاً عن هذا السؤال، فقال: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] .
فبادرَ نوحٌ مُستجيباً مستغفراً تائباً مستعيذاً بالله عزَّ وجل من سؤاله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِين} [هود: 47].
وهذا نموذجٌ لتمامِ الانقيادِ لله عزَّ وجل، والصبرِ على ما قضى وقدَّر، ومُجافاةِ ومجانبةِ كل ما يغضِبُهُ جلَّ في علاه.
وأمَّا زوجةُ نوحٍ أمُّ أولاده فقد جعلها اللهُ تعالى مثلاً في كتابه، فقال سبحانه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10].
وقد قيل في خيانتهما عدةُ أقوال: فقال جماعة من أهل العلم: {فَخَانَتَاهُمَا}، أي: كانتا كافرتينِ، فصارتا خائنتين بالكُفر، حيثُ لم يوافقا أزواجهما في الإيمانِ بالله.
وقيل: خيانتهما أنَّهما أظهرتا الإيمان، وتسترَتا بالكفر، قاله ابن عباس.
وقيل: إنَّ خيانتهما النميمة، فإذا أوحى اللهُ تعالى إلى نوحٍ ولوط أخبرتا به المشركين.
وقيل: إنَّ خيانتهما أنَّ امرأةَ نوحٍ كانت تُخبِرُ الناسَ أنه مجنون، وإذا آمن به أحدٌ من الناس أخبرت به الجبابرة، وأمَّا خيانة امرأة لوط أنه كانَ إذا نزل به ضيف دخَّنت لتُعلم قومها أنه قد نزلَ به ضيف.
وأمَّا ما قيلَ من تفسيرِ الخيانةِ بالبغي والزنا فذاكَ مما نزَّه اللهُ تعالى عنه الأنبياء، «فما بغت امرأةُ نبي»، كما قال ابن عباسِ رضي الله تعالى عنه، وقد جاءَ مرفوعاً إلى النبي صلي الله ، وفي إسنادهِ مقال.
والمقصودُ: أنَّ امرأة نوح عليه السلام لم تكن على دينه؛ بل كانت على دينِ قومها، سواءً كانَ ذلكَ مُستتراً، أو كانَ ذلكَ مُظهراً.
امرأةُ نوح قيل: إنها ماتت قبلَ الطوفان، وقيل: بل ركبت السفينة، وقيل: بل ماتت في الطوفان، وقيل: بل نجت وركبت السفينة؛ لأنها كانت تُظهرُ الإيمان وتُبطن الكُفر.
والذي يظهر أنَّ امرأةَ نوحٍ لم تركب السفينة؛ بل كانت من الهالكين إمَّا قبلَ مجئ الطوفان أو بعد مجِئه.
هذا خبرُ نوحٍ عليه السلام مع ابنه الذي كفر، ومعَ زوجه التي لم تؤمن، وفي هذا من الابتلاء ما هو بيِّنٌ ظاهر، أن يكونَ من صُلبِ الإنسانِ من لا يوافِقهُ في دينه.
أيها الأخوة والأخوات، أيها المستمعونَ والمستمعات، أمضينا وقتاً مع قصةِ نوح عليه السلام، وفيها من الآياتِ والعبر والفوائدِ والدُرر ما ينبغي للمؤمن أن يعتنيَ به، فإنَّ اللهَ تعالى قد كررَ خبرَ نوح في مواضع عديدة من كتابه، وإنما يكررُ اللهُ تعالى الأخبار لما فيها من عظيمِ المنافِعِ، وكبيرِ الدروس.
ولذلك من المهم أن نتلمَّسَ الفوائدَ من خبرِ نوح عليه السلام في صبره، في ثابته، في اجتهاده، في تنويعه أساليبَ الدعوة، في شفاقتهِ على الناس، في إقامةِ الحجة وإبانة الحق.
كلُّ ذلكَ كانَ في سيرتهِ وهديه، وكانَ فيما قصَّهُ اللهُ تعالى من خبَره، وبهذا نكونُ قد فرغنا من خبَرِ هذا الرسولِ الكريم، أولُ رسولٍ أرسلَهُ الله تعالى إلى أهلِ الأرض، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمةٍ من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.