الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ الحشر: 24، أحمده حق حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، ربُّ العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميد مجيد، أمَّا بعد:
فأهلاً وسهلاً، ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
في هذه الحلقة سنتناولُ بيان شيءٍ من معاني اسمين من أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ هما:الأول، والآخر، وهذان الاسمان الكريمان ذكرهما الله تعالى في كتابه، في سورة الحديد، بعد أن ذكرَ تمجيده وتقديسه من خلقه في السماوات والأرض، يقول ـ جلَّ في علاه ـ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ الحديد: 1-3.
وقد جاء بيانُ هذين الاسمين في سنة النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فيما رواه الإمام مسلم من حديث أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أنَّ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كان إذا نامَ اضطجع على جنبه الأيمن.
الحديث فيه أنَّ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال: «إذا أرادَ أحدكم أن ينام فليضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول- الشاهد هنا، يقول هذا الذكر، وهو من أذكار النوم-: اللهم رب السماواتِ، ورب الأرضِ، ورب العرش العظيم، ربنا وربَّ كل شيء، فالق الحب والنوى، منزِّل التوراة والإنجيل والفرقان»، كل هذا توسل لله ـ عزَّ وجل ـ بأسمائه وصفاته وأفعاله ـ جلَّ في علاه ـ «أعوذُ بكَ من شرِ كلِّ ذي شرٍ أنت آخذٌ بناصيته» هنا الطلب والسؤال.
ثم قال: «اللهم أنت الأول -وهذا الشاهد- فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنِّي الدين، واغنني من الفقر» صحيح مسلم (2713) .
هذا الدعاء جاء عن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كما ذكرت من حديث أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، وجاء أيضاً من طريق آخر في قصة أخرى: أن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ علَّمه فاطمة عندما سألته خادماً، فقال لها قولي: «اللهم رب السماوات السبع...» إلى آخر الحديث صحيح مسلم (2713) .
إذاً هذان الاسمان -اسم الله عزَّ وجل: الأول، واسمه جلَّ وعلا: الآخر- اسمانِ ثابتان في الكتاب والسنة، وقد أجمعَ أهل العلم على أنهما من أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ حتى نفهم هذين الاسمين، ونعرف معناهما بعد ثبوتهما في كتاب الله وسنة رسوله؛ نحتاج إلى أن نعرف ما معنى الأول في اللغة؟ وما معنى الآخر في اللغة؟
الأول في اللغة:
هو موضع التقدمِ والسبق، وقد يكون سبقاً زمانياً، أو مكانياً، أو مكانةً بأن يتقدَّم على غيره.
وأمَّا معنى الآخر في اللغة:فالآخر يقابل الأول، وهو المتأخر عن غيره، إمَّا تأخراً مطلقاً، وإمَّا تأخراً نسبياً، كآخر الشهر مثلاً، وكآخر السنة، وكآخر السطر، كلُ هذه تدل على أنَّ الآخر ضدُّ الأول.
فالأول: هو السابق المتقدِّم، والآخر: هو اللاحق التالي، الآتي بعد الأول، هذا معناه في اللغة.
وأمَّا معناه في الشرع فإنه قد جاء بيان معنى الأول والآخر في كلامِ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الذي لا ينطقُ عن الهوى، وكما قيل: (إذا جاء نهرُ الله بطل نهرُ معقل)، إذا جاء البيان عن الله وعن رسوله في تفسير أسمائه، وبيانِ معاني ما سمَّى به نفسه؛ ففي هذه الحال يجب المثيل والوقوف عند ما جاء عن الله وعن رسوله، (قطعت جهيزة قولَ كلِّ خطيبٍ)، في الصحيح من حديث أبي صالح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ فيما علَّمه النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: المسلم عندما ينام ينام على شقه الأيمن، جاء في ثنايا الحديث: «أعوذ بك من شرٍ كل ذي شرٍ، أنت آخذٌ بناصيته»، ثم قال: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء» صحيح مسلم (2713) ، وهذا بيان نبوي لمعنى الأول.
إذاً معنى الأول: الذي ليس قبله شيء.
ومعنى الآخر: الذي ليس بعده شيء.
وهذا به يتبيَّن معنى هذين الاسمين، وأنهما اسمانِ متقابلان، بهما يَثبتُ الكمال لله عزَّ وجل.
يقول الشيخ عبدالرحمن السعدي، في تعليقه على تفسير النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يقول: "فسَّرَ كل اسمٍ بكل معناه، ونفى عنه كل ما يُضادُه وينافيه، فمهما قدَّر المقدِّرون، وفرض الفارضون من الأوقات السابقة المتسلسلة إلى غيرِ نهاية فالله قبل ذلك -هذا في الأزل، يعني: فيما تقدَّم، الله قبل كل شيء، كان الله ولم يكن شيءٌ قبله- وكل وقتٍ لاحق مهما قُدِّر وفرض فالله تعالى بعد ذلك"، فهو الأول، وهو الآخر.
لذلك يصف علماءُ الكلام اللهَ عزَّ وجل بأنه واجب الوجود، أي: ثابت الوجود، الذي وجوده مستحق، ليس مستنداً إلى غيره؛ بل كل وجودٍ إنما هو بوجوده سبحانه وبحمده.
فالأول مما يدلُ عليه أنَّ كلَّ ما سواه حادث، وأنَّ كل ما سواه لاحق له، وأمَّا الآخر فهو يدل على أنَّ كلَّ شيءٍ إليه صائر، كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ العلق: 8، وكما قال ـ سبحانه وتعالى ـ: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ النجم: 42، فهو إليه الرجعى فهو الآخر، وهو إليه المنتهى ـ سبحانه وبحمده ـ فهو آخرُ كلِ شيءٍ سبحانه وبحمده.
إذاً الأول من أسمائه، وهو دالٌ على أنه متصفٌ سبحانه وبحمده بالأولوية المطلقة التي لا يسبُقها شيء، فهو الذي يسبقُ وجودَ كلِّ شيءٍ سبحانه وبحمده، وهذا دال على عظيم ما له من الصفات، فإنَّ هذا الاسم يدل باللزوم على حياة الله ـ تعالى ـ وعلى قيومِيته، وعلى غناه، وعلى علمه، وعلى قدرته ـ سبحانه وبحمده ـ وعلى قوته وعزته وعظمته، وأنَّ كلَ ما يلزم لكونه الأول، أي: يدلُ على كل ما يلزم من كونه الأول السابق لغيره جلَّ وعلا، وأنه ليس قبله شيء.
كذلك الآخر يدلُ على أنه المتصف بالبقاء والآخريَّة ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ القصص: 88، ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام﴾ الرحمن: 26-27 سبحانه وبحمده، فبقاؤه بقاءٌ لا انقضاء له ولا انتهاء، فهو ربُّ العالمين، هو الآخر سبحانه وبحمده.
وهذا يدل على تلك المعاني التي استلزمها اسمه الأول، من أنه سبحانه وبحمده الحي القيوم، دال على غناه وقدرته، وقوته وعزِّته، وعظمته ومُلكه، وعلوه وقهره لخلقه، ودالٌ على كل ما يلزم لكونه الآخر الذي ليس بعده شيء سبحانه وبحمده.
إذاً هو الآخر ـ سبحانه وبحمده ـ في كلِ ما يدلُ على كماله، فهو يدل على أنه الغاية والمنتهى، وهو الصمد الذي تَصْمد له المخلوقات بتألُهها وتعبُّدِها، ورهبتِها ورغبتِها، فإليه المنتهى سبحانه وبحمده.
لكن لاحظ ولاحظي أيتها الأخت، أنَّ هذين الاسمين لا يَثبتُ ما فيهما من كمال إلا باقترانهما، بمعنى أنَّ الأول دالٌ على كمال الله ـ عزَّ وجل ـ كما أنَّ الآخر دالٌ على كمال، لكنَّ الكمالَ يتم باقترانهما.
ولذلكَ جاء مقترنين في الكتاب وفي السنة، فالله ـ تعالى ـ يقول: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر﴾ الحديد: 3، ويقول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: «أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء».
وهذا من الأسماء التي تُسمَّى بالمقترِنات، فمن أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ ما يكون مقترناً، لا يتضح الكمال بمفرده، وأحياناً يكون هناك خطر في أن تُفردَ وصفاً أو اسماً دونَ أن تذكرَ مقابلَه، وهذا ما أشار إليه ابن القيم رحمه الله في منظومته في النونية، حيثُ قال هذا:
ومن أسمائه ما ليس يفردُ ** بل يُقالُ إذا أتى بقرآنِ
ما ليس يفرد قولاً؛ بل يُقالُ إذا أتى بقرآنِ.
وهي التي تُدعى بمزدوجاتها ** إفرادها خطرٌ على الإنسانِ
وهي التي تُدعى بمزدوجاتها، يعني: الأسماء المزدوجة.
إفرادها خطرٌ على الإنسانِ: لماذا خطر على الإنسان؟
إذ ذاك موهم نوع نقص جل ** رب العرش عن عيبٍ وعن نقصانِ
إذ ذاك، أي: الإفراد.
مثال:
كالمانع المعطي وكالضارِ الذي ** هو نافعٌ وكماله الأمرانِ
فإذا قلت: المانع، لا يكمل ذلك إلا بأن تقول: المعطي، إذا قلت: الضار، لا يكمل ذلك إلا إذا قلت: النافع.
فهذه الأسماء المزدوجة كمالُها في اقترانها، ولذلك قال: وكمالُه الأمران، فالأول والآخر دالان على كمال ربِّ العالمين بإحاطته الزمنية، فلا يفوته شيء، هو الأول الذي ليس قبله شيء سبحانه وبحمده، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وبه يتبيَّن معنى هذين الاسمين.
لاحظ أيضاً هنا: أنَّ الله ـ تعالى ـ لما ذكر هذين الاسمين لم يذكرهما دونَ عطفٍ، بل أتى بالعطف ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر﴾، رغمَ أنَّ غالب ما يذكره الله تعالى من أسمائه وصفاته لا يذكره متعاطفاً، بل يذكره متوالياً دون عطف، مثل: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾ الحشر: 22-23 ما في واو، لكن هنا قال: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر﴾ لماذا؟
لأن الأول يفيد معنًى مستقلًّا عن الآخر، وهو أيضاً مقابل له، فليس هو مما يفيده، كقولك مثلاً: ﴿هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم﴾ البقرة: 163، هذان اسمان يدل أحدهما على الآخر، ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ يونس: 107، هذان اسمان يدل أحدهما على الآخر، لكن ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر﴾ اسمانِ متقابلان؛ ولذلك أتى بالواو الدالة على التقابل؛ حتى لا يتوهم أنهما يدل أحدهما على الآخر، أو أحدهما يشتمل على الآخر، بل معنى كلِ واحدٍ منهما مقابلٌ لمعنى الآخر.
اللهم ارزقنا العلم بك، والتنعم بذكرك، والإقبال عليك ظاهراً وباطناً، واجعلنا من حزبك، وأوليائك، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.