إِنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا.
وَأَشْهَدُ أنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرينَ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى بِطاعَتِهِ، وَامْتِثالِ أَمْرِهِ، وَتَرْكِ ما نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ، رَغْبَةً في ثَوابِهِ، وَخَوْفًا مِنْ عِقابِهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ أَبْشِرُوا؛ فَإِنَّ المتَّقِينَ لا خَوْفَ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُنَ.
اللَّهَمُّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقِينَ، وَحِزْبِكَ المفْلِحينَ، وَأَوْلِيائِكَ الصَّالحينَ يا رَبَّ العالمينَ.
رَوَى البُخارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُما أَنَّهُ قالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» البخاري(4997), ومسلم(2308) .
وَجاءَ في الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَديثِ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ أَنْ قالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ«البُخارِيُّ(2820), وَمُسْلِمٌ(2307).
إِنَّ النَّبِيًّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَّاهُ اللهُ، وَبَيَّنَ عَظِيمَ خُلُقِهِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى مَزِيدِ وَصْفٍ لِكَرِيمِ أَخْلاقِهِ، وَطِيبِ سَجاياهُ، لَكِنَّ الصَّحابَةَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُمْ بَيَّنُوا شَيْئًا مِنْ خِصالِهِ، وَبَيَّنُوا ما كانَ عَلَيْهِ مِنْ طِيبِ الأَخْلاقِ، وَجَمِيلِ الشَّمائِلِ، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ القلم: 4.
وَإِنَّ الملاحَظَ في حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَرَنَهُ بَيْنَ الجُودِ وَرَمَضانَ، حَيْثُ قالَ: «كانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكانَ أَجْوَدَ ما يَكُونُ في رَمَضانَ».
إِنَّ رَمَضانَ شَهْرٌ مُبارَكٌ، وَمِنْ بَرَكَتِهِ ما يُفِيضُ بِهِ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الزَّكاءِ وَالطِّيبِ، ما يُفِيضُ بِهِ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الصَّلاحِ وَالاسْتِقامَةِ، ما يُفِيضُ بِهِ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ السُّمُوِّ وَالرُّقِيِّ، ذَاكَ ثَمَرَةُ طاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَبَرَكَةُ هَذا الموسِمِ المبارَكِ، فَإِنَّهُ يُعانُ فِيهِ الإِنْسانُ عَلَى خَيْرٍ كَثِيرٍ، وَيُدْفَعُ عَنْهُ شَرٌّ كَثِيرٌ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, عِباد اللهِ, لَوْ سُئِلَ أَحَدُنا فِقِيلَ لَهُ: أَلَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ جَوَادًا؟ لَبادَرَ: بَلَى، أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ جَوَادًا، كَيْفَ وَالجُودُ خَصْلَةٌ مَمْدُوحَةٌ عِنْدَ القَرِيبِ وَالبَعِيدِ، وَقَدْ كانَتْ خُلُقَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقَدْ كانَ أَجْوَدَ النَّاسِ.
فالسُّؤالُ الَّذي يَلِي هَذا: كَيْفَ أَكُونُ جَوَادًا؟
إِنَّ الجُودَ لا يَقْتَصِرُ عَلَى بَذْلِ المالِ، كَما هُوَ المتبادَرُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الأَذْهانِ، فالجُودُ مَعْنَى أَوْسَعُ مِنْ سَخاءِ اليَدِ، وَإِنْفاقِ المالِ، فَالجُودُ خُلُقٌ يَنْطَبِعُ في النَّفْسِ، وَيَنْعَكِسُ عَلَى كُلِّ تَصَرُّفاتِها، وَيَظْهَرُ في كُلِّ حَرَكاتِها وَسَكَناتِها، فالجُودُ يَكُونُ في العِبادَةِ، بِطاعَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فيما أَمَرَ، وَالانْتِهاءِ عَمَّا نهَىَ عَنْهُ وَزَجَرَ، وَيَكُونُ في العِبادَةِ بِأَنْ يَتَحَرَّى الإِنْسانُ أَنْ تَكُونَ عِبادَتُهُ خالِصَةً للهِ، لا رِياءَ فِيها وَلا سُمْعَةَ، وَلا يَرْجُو فِيها مِنَ النَّاسِ جَزاءً وَلا شُكُورًا، صَوْمًا كانَ أَوْ صَلاةً، زَكاةً أَوْ صَدَقَةً، ظاهِرَةً أَوْ باطِنَةً، لا يَرْجُو الثَّوابَ إِلَّا مِنَ اللهِ، لا يَسْأَلُهُ مَنْ سِواهُ، وَلا يَرْغَبُ فِيهِ عِنْدَ غَيْرِهِ؛ فَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
فالجُودُ في العِبادَةِ أَنْ تَحْرِصَ عَلَى أَنْ تَكُونَ طاعاتُكَ، عَلَى وَفْقِ هَدْيِ خَيْرِ الأَنامِ، الَّذِي هَدْيُهُ أَكْمَلُ هَدْيٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقَدْ قالَ رَبُّكمْ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ الأحزاب: 21.
فَجُودُ العِبادَةِ أَنْ تَكُونَ وَفْقَ ما كانَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَتَحَرَّى المؤْمِنُ في كُلِّ أَحْوالِهِ، في صَلاتِهِ، في زَكاتِهِ، في صَوْمِهِ، في حَجِّهِ، أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ ما كانَ عَلَيْهِ عَمَلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشَرُّ الأُمُورِ مُحدَثاتُها، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ.
لِذَلِكَ تَجِدُهُ يَسْأَلُ: كَيْفَ صَلَّى؟ كَيْفَ صامَ؟ كَيْفَ حَجَّ؟، كَيْفَ زَكَّى؟ «خُذُوا عنِّي مَنَاسِكَكُمْ، لَعَلِّي لا أَلقَاكُمْ بَعدَ عَامِي هَذا»، «صَلُّوا كما رَأَيْتُمُوني أُصَلِّي»البُخارِيُّ(628), وَمُسْلِمُ(674).هَكَذا يُحَقِّقُ المؤْمِنُ الجُودَ في عِبادَتِهِ.
وَمِنَ الجُودِ في العِبادَةِ أَنْ يُسارِعَ إِلَيْها الِإنْسانُ رَاغِبًا في ثَوابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لا يَأْتِي إِلَيْها مُتَكاسِلًا، وَلا مُتَوانِيًا، وَلا مُتَثاقِلًا، بَلْ يُقبِلُ عَلَيْها فَرِحًا بِها أَنَّ اللهَ يَسَّرَها لَهُ، فَإِنَّ تَيْسِيرَ العِبادَةِ أَمْرٌ عَظِيمٌ يَسْتَوْجِبُ شُكْرًا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَسْتَوْجِبُ ثَناءً عَلَيْهِ، كَيْفَ لا وَأَنْتَ تَرَى القاعِدِينَ عَنْ طاعَتِهِ أَكْثَرَ النَّاسِ، كَما قالَ رَبُّكَ: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الأنعام: 116.
وَقالَ تَعالَى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ يوسف: 105.
وَقالَ جَلَّ في عُلاهُ: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ سبأ: 13.
فَإِذا وَفَّقَكَ اللهُ لِطاعَةٍ ظاهِرَةٍ أَوْ باطِنَةٍ فاحْمَدِ اللهََ، فَذاكَ فَضْلُ اللهِ، وَاللهُ امْتَنَّ بِها عَلَيْكَ، وَشَرَحَ صَدْرَك، وَيَسَّرَ لَكَ ذلِكَ، وَبَيَّن لَكَ الهُدَى، فَكُنْ لاهِجًا بِالشُّكْرِ لَهُ، فَهُوَ المتَفَضِّلُ بِالتَّوْفِيقِ إِلَيْها، وَالمتَفَضِّلُ بِالقَبُولِ لَها جَلَّ في عُلاهُ.
إِنَّ الجُودَ في العِبادَةِ أَنْ يُقْدِمَ الإِنْسانُ عَلَى مَواسِمِ الخَيْرِ بِنَشاطٍ، وَأَنْ يَجِدَّ فِيها بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْواعِ البِرِّ، فَمِنْ جُودِ النَّفْسِ في العِبادَةِ أَنْ تَغْتَنِمَ مَواسِمَها، وَأَنْ تَسْتَكْثِرَ فِيها مِنَ الخَيْراتِ، فَذاكَ فَضْلُ اللهِ أَنْ بَلَّغَكَ مَواسِمَ البِرِّ وَالخَيْرِ، فَلِماذا التَّوانِي، وَالكَسَلُ؟ لماذا التَّأَخُّرُ؟ لماذا التَّباطُؤُ؟ وَالخَيْراتُ بَيْنَ يَدَيْكَ.
أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ قَصْرًا مَشِيدًا فُتِحَ لَكَ، فِيهِ مِنْ أَنْواعِ الأَمْوالِ، وَصُنُوفِ الخَيْراتِ ما تَرْغَبُ فِيهِ النُّفُوسُ، وَقِيلَ لَكَ: خُذْ ما شِئْتَ فَإِنَّهُ لَكَ، أَكُنْتَ تَتَوانَى في أَخْذِ ما تُحِبُّ، وَما تُرِيدُ، وَما تَرَى، مِمَّا يُشَوِّقُ عَيْنَكَ وَيَجْلِبُ نَفْسَكَ؟ الجَوابُ: لا، بَلْ سَتَجِدُكَ مُغْتَنِمًا كُلَّ لحَْظَةٍ، وَتَصِلُ الثَّانِيَةَ بِالأُخْرَى لِتَغْتَنِمَ كُلَّ بِرٍّ وَخَيْرٍ تُحِبُّهُ مِنْ مَتاعِ الدُّنْيا, فَكَيْفَ وَأَنْتَ تَغْتَنِمُ هَذِه المواسِمَ في بِرِّ يَبْقَى ثَوابُهُ عِنْدَ اللهِ.
لماَّ غابَ عَنِ النُّفُوسِ اسْتِحْضارُ الآخِرَةِ، اسْتِحْضارُ الجَنَّةِ، وَما فِيها مِنَ النَعِيمِ؛ تَباطَأَتْ وَتَأَخَّرَتْ في الاسْتِكْثارِ مِنَ الخَيْراتِ.
فَالجُودُ في مَواسِمِ الخَيْرِ أَنْ تُسابِقَ إِلَى كُلِّ بِرٍّ، وَأَنْ تُسارِعَ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ الأحزاب: 21 كَيْفَ كانَ صَوْمُهُ؟ كَيْفَ كانَتْ صَلاتُهُ؟ كَيْفَ كانَ قِيامُهُ؟ كَيْفَ كانَتْ مُدارَسَتُهُ لِلقُرْآنِ وَتِلاوَتُهُ؟ كَيْفَ كانَ جُودُهُ وَبَذْلُهُ؟ فَلَرَسُولُ اللهِ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المرْسَلَةِ، بِالخَيْرِ في كُلِّ صُنُوفِهِ، وَبِكُلِّ أَبْوابِهِ، وَبِكُلِّ أَشْكالِهِ وَصُوُرِهِ، الخاصِّ وَالعامِّ، لِلقَرِيبِ وَالبَعِيدِ، لِلمُوافِقِ وَالمخالِفِ، فَذاكَ سَبِيلُ الفُطَناءِ، طَرِيقُ الأَذْكِياءِ ذَوِي الأَلْبابِ الَّذينَ يُبادِرُونَ مَواسِمَ الخَيْرِ بِكُلِّ خَيْرٍ، يَرْجُونَ ثَوابَ اللهِ وَيَخْشَونَ عِقابَهُ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقِينَ، وَحِزْبِكَ المفْلِحينَ، وَأَوْلِيائِكَ الصَّالحينَ يا رَبَّ العالمينَ.
أَقُولُ هَذا القَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
***
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ، هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ, وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ، وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى حَقَّ التَّقْوَى، وَكُونُوا عَلَى أَجْوَدِ ما تَكُونُونَ مِنْ خَيْرٍ وَبِرٍّ، وَارْجُوا ثَوابَ ذَلِكَ عِنْدَ بَرٍّ رَؤُوفٍ رَحِيمٍ، يُعْطِي عَلَى القَلِيلِ الكَثِيرَ.
إِنَّ المؤْمِنَ يَجُودُ بِكُلِّ خَيْرٍ يُمْكِنُهُ في مُعامَلَتِهِ لِرَبِّهِ، بِالإِخْلاصِ لَهُ، وَبِمَحَبَّتِهِ، وَبِتَعْظِيمِهِ، وَبِحِفْظِهِ في الغَيْبِ وَالشَّهادَةِ؛ فَإِنَّ ذاكَ أَصْلُ كُلِّ جُودٍ، أَنْ تَرْقُبَ ما عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَنَّ تعامُلَهُ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الِإحْسانِ، تَعْبُدُهُ كَأَنَّكَ تَراهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَراهُ فَإِنَّهُ يَراكَ.
وَمِنَ الجُودِ أَيُّها المؤْمِنُونَ في مُعامَلَةِ الخَلْقِ السَّعْيُ إِلَيْهِمْ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَتَقْدِيمُ كُلِّ بِرٍّ، وَلا يَتَصَوَّرَنَّ أَحَدٌ أَنَّ ذاكَ مَقْصُورٌ عَلَى دَراهِمَ تَبذُلُها؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ أَنْواعِ الإِحْسانِ، وَصُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الجُودِ، لَكِنَّ الجُودَ يَفُوقُ هَذا بِمَراحِلَ، إِنَّهُ طَيِبُ النَّفْسِ، إِنَّهُ حَسَنُ المعامَلَةِ، إِنَّهُ كَرِيمُ المخالَطَةِ، إِنَّهُ بَذْلُ كُلِّ مَعْرُوفٍ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُوصِلَهُ إِلَى غَيْرِكَ، فَإِذا عَدِمْتَ، وَخَلَتْ يدُكَ، فاتِّقِ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِذا عَدِمْتَ، وَخَلَتْ يَدُكَ، فاتِّقِ النَّارَ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ، فالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةٌ صَدَقَةٌ، وَتَبَسُّمُكَ في وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ، فَلَنْ يُعْدَمَ أَحَدٌ سَبِيلًا مِنْ سُبُلِ الجُودِ، وَطَرِيقًا مِنْ طُرُقِ المعْرُوفِ في مُعامَلَةِ الخَلْقِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّكَ لا تَلْقَى أَحَدًا فَيَكْفِي مِنْكَ جُودًا أْنَ تُحَقِّقَ قَوْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حتى يُحِبَّ لأخيهِ ما يُحبُّ لِنَفْسِهِ«البخاري(13), ومسلم(45).
إِنَّ طِيبَ السَّرِيرَةِ بِأَنْ يَخْلُوَ قَلْبُكَ مِنْ حِقْدٍ أَوْ حَسَدٍ أَوْ كَراهِيَةِ خَيْرٍ يَصِلُ إِلَى النَّاسِ؛ هَذا مِنَ الجُودِ، وَهُوَ مِمَّا تَسْمُو بِهِ وَتَزْكُو وَتَصْلُحُ بِهِ أَعْمالُكَ، وَتَنالُ خَيْرًا عَظِيمًا.
إِنَّ الصَّوْمَ وَرَمَضانَ دَوْرَةٌ تَدْرِيبِيَّةٌ تَسْمُو بِالنُّفُوسِ لِعَلْيائِها، وَتُخَلِّصُها مِنَ الرَّذائِلِ، لَكِنْ لِمَنْ؟
لمنْ فَطِنَ إِلَى ما فِيهِ الخَيْراتُ، وَلَيْسَ ذَاكَ الَّذي دَخَلَ رَمَضانَ كَسائِرِ الشُّهُورِ، لا يَعْرِفُ لَهُ قَدْرًا، وَلا يُبادِرُ إِلَى خَيْراتِهِ، وَلا يَتَفَطَّنُ إِلَى أَنَّهُ مُوسِمٌ يَرْتَقِي فِيهِ في مُعامَلَةِ اللهِ بِالاسْتِكْثارِ مِنَ الطَّاعاتِ، وَالتَّخَفُّفِ مِنَ السَّيِّئاتِ، وَفي مُعامَلَةِ الخَلْقِ بِالإِحْسانِ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, إِنَّ مِمَّا يَزِيدُ جُودَكَ أَنْ تُقْبِلَ عَلَى كِتابِ رَبِّكَ؛ فَإِنَّ القُرْآنَ أَعْظَمُ هِدايَةٍ، قالَ تَعالَى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ الإسراء: 9 لَكِنْ تَفَطَّنْ لَيْسَ ذَلِكَ في قِراءَةِ حُرُوفِهِ فَقَطْ مَعَ الغِيابِ عَنْ مَعْناهُ، بَلْ أَنْ تَسْتَحْضِرَ المعانيَ، وَلَوْ بَعْضَها، حَتَّى لا يَشُقَّ عَلَيْكَ، فَعِنْدَما تَمُرُّ بِآيَةٍ تُشَكِِّلُ عَلَيْكَ اطْلُبْ مَعْناها، وَعِنْدَما تَمُرُّ بِآيَةٍ تَجِدُ لَها أَثَرًا في قَلْبِكَ، تَوَقَّفْ عِنْدَها، وَرَدِّدْها وَتَأَمَّلْ مَعْناها، وَعالِجْ بِها نَفْسَكَ، فالقُرْآنُ لَمْ يَنْزِلْ لِتَتَحَرَّكَ بِهِ الأَلْسُنُ فَحَسْب، بَلْ أَنْزَلَهُ اللهُ لِيُحَرِّكَ القُلُوبَ صَلاحًا وَاسْتِقامَةً، وَيَنْعَكِسُ ذَلِكَ عَلَى الجَوارِحِ هِدايَةً وَبَرًّا وَإِحْسانًا.
قالَ تَعالَى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ الإسراء: 9.
فَإِذا سَمِعْتَ آيةً وَوَجَدْتَ لَها في نَفْسِكَ أَثرًا، رَدِّدْها، فَرُبَّ آيَةٍ أَنْقَذَتْ نَفْسَكَ مِنْ هَلاكٍ مُؤَبَّدٍ، وَهَدَتْكَ إِلَى عَلْياءِ لا تَصِلُها إِلَّا بِفَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالوُقُوفُ عِنْدَ آياتِهِ.
جُبَيْرُ بْنِ مُطْعِمِ جاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كافِرًا، جاءَ إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي المغْرِبَ، فاسْتَمَعَ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ في المغْرِبِ: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ الطور: 35، قالَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ: «كادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ»البُخارِيُّ ح(4854), وَمُسْلِمٌ(463)مُخْتَصَرًا.هَذا وَهُوَ كافِرٌ، لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا، لَكِنْ وُجِدَ لِهَذِهِ الآيَةِ مِنَ التَّأْثِيرِ في قَلْبِهِ، ما لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يَصِفَهُ إِلَّا بِهذا الوَصْفِ: «كادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ»لِمَعْرِفَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَدِلالَةُ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَلالِهِ, وَكَمْ مِنْ آيَةٍ نَسْمَعُها في كِتابِ اللهِ لا نَجِدُ لها أَثرًا، وَقَدْ نَجِدُ لَها أَثرًا لَكِنْ سُرْعانَ ما يَزُولُ بِغَفْلَتِنا عَنْها.
فَيَنْبَغِي لَنا أَنْ نَعْرِفَ أَنَّ الجُودَ في قَراءَةِ القُرْآنِ هُوَ أَنْ نَتَأَمَّلَ مَعانِيَهُ، وَأَنْ نَقِفَ عِنْدَ عَجائِبِهِ، وَأَنْ نُحَرِّكَ بِهِ القُلُوبَ.
قالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُ: «لَا تَهُذُّوا الْقُرْآنَ كَهَذِّ الشِّعْرِ، وَلَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ، وَقِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ، وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ« أَخْرَجَهُ الآجُرِّيُّ في أَخْلاقِ حَمَلَةِ القُرْآنِ رقم1 , وَمِنْ طَرِيقِهِ: البَغَوِيُّ في تَفْسِيرِهِ (5/166)بإِسْنادٍ ضَعِيفٍ, وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ بِمَعْناهُ؛ فَقَدْ أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ(775), وَمُسْلِمٌ(822).وَإِذا عَلِمْتَ أَنَّ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ يَقُومُ لَيْلَةً كامِلَةً بِآيَةٍ تَقِفُ مُسْتَغْرِبًاأَخْرَجَ ذَلِكَ: ابْنُ ماجةَ ح(1349)، كَيْفَ يَقُومُ لَيْلَةً كامِلَةً بِآيَةٍ، لا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِقَلْبٍ مُتَدَبِّرٍ لما في هَذِهِ الآيَةِ، أَمَّا التَّكْرارُ الَّلفْظِيُّ فَهَذا لَيْسَ مَقْصُودًا، وَلا مَنْشُودًا، إِنَّما هَذا وَسِيلَةٌ لِلوُصُولِ إِلَى المعانِي,تَدَبَّرُوا القُرْآنَ سَتَجِدُوا خَيْرًا، وَصاحِبُوا الأَخْيارَ سَتَزْكُوا.
هَذا رَسُولُ اللهِ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، كَمَّلَ اللهُ لَهُ الفَضائِلَ، وَمَعَ ذَلِكَ إِذا قَرَأَ القُرْآنَ وَالْتَقَى بِأَهْلِهِ - الْتَقَى بِجِبْرِيلَ - زادَ.
هَذا ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ» البخاري(4997), ومسلم(2308) .
ثُمَّ انْظُرْ إِلَى الأَثَرِ «فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ» يَعْنِي في هَذا الحالِ.
إِنَّ النُّفُوسَ تَتَأَثَّرُ مَهْما سَمَتْ، فِإِذا صاحَبْتَ أَخْيارًا وَفُضَلاءَ، وَاجْتَمَعْتَ عَلَى بِرٍّ وَحُسْنٍ، زادَ ذَلِكَ في خَيْرِها وَبِرِّها.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنا مِنْ عِبادِكَ المتَّقِينَ، وَحِزْبِكَ المفْلِحينَ، وَأَوْلِيائِكَ الصَّالحينَ يا رَبَّ العالمينَ.
الَّلهُمَّ طَهِّرْ أَسْماعَنا عَمَّا يُغْضِبُكَ، اللَّهُمَّ طَهِّرْ أَبْصارَنا عَمَّا لا يُرْضِيكَ.
اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنا في مَراضِيكَ يا ذا الجَلالِ وَالإِكْرامِ.
اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنا فِيما تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنواصِينا إِلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى طاعَتِكَ، وَاصْرِفْ عَنَّا مَعْصِيَتَكَ، وَاجْعَلْنا مِنْ حِزْبِكَ وَأَوْلِيائِكَ يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، اللَّهُمَّ انْصُرْنا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنا، اللَّهُمَّ آثِرْنا وَلا تُؤثِرْ عَلَيْنا.
اللَّهُمَّ اهْدِنا وَيَسِّرِ الهُدَى لَنا، اللَّهُمَّ يَسِّرِ الهُدَى لَنا، اللَّهُمَّ يَسِّرِ الهُدَى لَنا.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنا لَكَ ذاكِرينَ شاكِرينَ، إِلَيْكَ رَاغِبينَ، راهبِينَ، إِلَيْكَ أَوَّاهِينَ مُنِيبينَ.
اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ تَوْبَتَنا، وَثَبِّتْ حُجَّتَنا، وَاغْفِرْ زَلَّتَنا، وَأَقِلْ عَثَرَتَنا.
رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ، وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنا إِلَى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ سَدِّدْهُ في أَقْوالِهِ وَأَعْمالِهِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ لَهُ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنا الَّذِينَ يُقاتِلُونَ لِإعْلاءِ كَلِمَتِكَ، وَيَذُودُونَ عَنْ بِلادِكَ يا رَبَّ العالمينَ.
اللَّهُمَّ سَدِّدْ رَمْيَهُمْ، وَاحْفَظْهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ.
اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالحُوثِيِّينَ المعْتَدِينَ، اللَّهُمَّ شَتِّتْ شَمْلَهُمْ، وَأَفْسِدْ سَلاحَهُمْ، وَفَرِّقْ كَلِمَتَهُمْ، وَاكْفِ المسْلِمينَ شَرَّهُمْ.
اللَّهُمْ أَنْجِ إِخْوانَنا المسْتَضْعَفِينَ في اليَمَنِ، وَفي سُورِيَّا، وَفِي العِراقِ، وَفي سائِرِ البُلْدانِ.
رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنا عَذابَ النَّارِ.
رَبَّنا اغْفِرْ لَنا وَلِإخْوانِنا الَّذينَ سَبَقُونا بِالإيمانِ، وَلا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذينَ آمَنُوا، رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.