الحمد لله {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} التغابن: 1، أحمده حق حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.
وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله به معرِّفاً، وإليه داعياً، فبيَّنَ لنا مَن نعبد، وما الطريق الموصلَ إليه، بيَّن لنا مَن هو ربنا الذي نتوجه إليه، وما الطريق الذي يوصلونا إلى مرضاته، وما الطريق الذي نصلُ به إلى تحقيق العبودية له، فلم يترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، حتى ترَكنا على صراطٍ بيِّنٍ واضح، لا يزيغ عنه إلا هالك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واتبع أثره، واقتفى سبله بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها(.
يقول الله في محكم كتابه: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الحديد: 1-3
فمن أسمائه: الأول والآخر، وقد تقدَّمَ الكلام على هذين الاسمين في بيان معناهما، ونقف اليوم مع بعض ما يتعلق بهذين الاسمين من الأحكام والآثار:
الأول: هو الذي ليس قبله شيء، فهو المتقدم على كل شيء ـ سبحانه وبحمده ـ فما من شيء سابق إلا والله قبله ـ جلَّ في علاه ـ كان الله ولم يكن شيءٌ قبله.
وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، فإليه المصير، {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} العلق: 8، فما مِن شيء إلا والله بعده، والله آخره ـ جلَّ في علاه ـ فإليه المنتهى والغاية.
وبهذين المعنيين يتبيَّن معنى ما لله من الكمال والإحاطة، في أولِ الزمان وآخره، في الأزل وفي الأبد، فما من شيء إلا الله سابقه، وما من شيء إلا الله آخره، فهو ـ جلَّ وعلا ـ الأول والآخر.
إنَّ هذين الاسمين العظيمين يحققانِ لله الذي له الكمال المطلق؛ الإحاطةَ بكلِ شيءٍ زماناً، فهو المحيطُ بعبادة وخلقه زماناً، لا يسبقه شيء، ولا يأتي بعده شيء، فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء سبحانه وبحمده.
وقد بيَّن النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ معنى هذين الاسمين فيما رواه أبي هريرة من دعائه ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الذي وجه إليه عندما يأوي الإنسانُ إلى فراشه، في آخر مطافه يقول: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخرُ فليس بعدك شيء» صحيح مسلم (2713)
فهو المتصف بالأولية المطلقة، فهو الذي لم يسبقه في الوجودِ شيء، وهو المتصفُ بالآخرية المطلقة، فهو الباقي بعد كل شيء {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} القصص: 88 سبحانه وبحمده.
والمؤمن يدعو الله ـ تعالى ـ باسمه الأول، و باسمه الآخر في دعائه، كما أمره الله ـ تعالى ـ به في قوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف: 180.
فالأول والآخر اسمانِ من أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ يدعو بهما المؤمن، وقد علَّمَ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ المؤمنين كيف يدعون الله بهذين الاسمين، فجاء عنه في الصحيح من حديث أبي هريرة أنه قالَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : "إذا أوى أحدُكم إلى فراشه فليضطجع على شقه الأيمن، ثم ليقل: اللهم رب السماواتِ ورب الأرضِ ورب العرش العظيم، ربنا وربَّ كل شيء، فالق الحب والنوى، منزِّل التوراة والإنجيل والفرقان"
ثم بعد هذا يأتي الدعاء والسؤال: «أعوذُ بكَ من شرِ كل ذي شرٍ أنت آخذٌ بناصيته»، وهذه من أوسع أوجه الاستعاذة، تستعيذ بالله من شرِ كل ذي شرٍ هو آخذٌ بناصيته جلَّ في علاه.
وحتى يتحقق لكَ أنه لا يخرج عنه شيء ذكَّرَكَ بصفاته، فقال: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدكَ شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونكَ شي»، ثم يأتي دعاء وتوسل: «اقضِ عنَّا الدين، واغننا من الفقر» صحيح مسلم (2713).
هذا الدعاء من دعاء الله ـ تعالى ـ دعاء مسألة، من دعاء الله بهذين الاسمين في دعاء المسألة؛ حيثُ إنَّ المؤمن يتوسل إلى الله ـ تعالى ـ بإحاطته في تحقيق رغبته ومطلوبة، أمَّا دعاء العبادة فهو بإثباتِ هذين الاسمين لله ـ عزَّ وجل ـ فنتعبَّد لله بأن نثبت بأنه هو الأول، وأنه هو الآخر، ونثبت معنى الأول، ومعنى الآخر، الآخر على الوجه الذي يليق به سبحانه وبحمده.
ونثبت كل ما يتعلَّق بهذين الاسمين من معان تقتضيها للزومِ والتضمن والمطابقة، فإنَّ ذلك كله مما يدلُّ عليه هذين الاسمين، ومما يجب على المؤمنِ أن يُقرَ بها لله، ويتعبَّد له بها جلَّ في علاه.
إنَّ المؤمن إذا قام في قلبه أنَّ الله ـ تعالى ـ أنه الأول وأنه الآخر علِمَ أنه منه كائن، فهو الذي خلَقَه ـ جلَّ وعلا ـ وإليه راجع، فهو الآخر ـ سبحانه وتعالى ـ ولذلك يُذكِّرُ الله ـ تعالى ـ عباده، فيقول: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} يونس: 4، فهو الأول وهو الآخر، {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} يونس: 34.
الله ـ جلَّ في علاه ـ له الأولية المطلقة، فإذا امتلأ قلب العبد بذلك تعبَّدَ له بأنه يعتقد أنَّ الله سابقٌ لكل شيء، فهو الأول الذي ليس قبله شيء؛ ولهذا قال بعض السلف: «ما رأيتُ شيئاً إلا وقد رأيت الله قبله».
فالله الأول الذي ليس قبله شيء، كما أنه الآخر، فيمتلئ قلب المؤمن يقيناً بأنَّ الله إليه تصير الأمور، و{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} القصص: 88، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام} الرحمن: 26-27 سبحانه وبحمده.
هذا من معاني التعبد لله ـ عزَّ وجل ـ أو هذه من أوجه التعبُّد لله ـ عزَّ وجل ـ بهذين الاسمين، فهو دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وإنَّ للإيمانِ بأنَّ الله هو الآخر، وأنه هو الأول ـ جلَّ في علاه ـ آثار، ينبغي للمؤمن أن يتلمَّسها.
إنَّ للإيمانِ بأنَّ الله هو الأول، وبأنَّ الله هو الآخر آثاراً، يَنظُرُها المؤمن في سلوكه وأخلاقه وعمله، فإذا اعتقدَ المؤمن أنَّ الله هو الأول والآخر انقطعَ نظرَه إلى الأسباب، فعلِمَ أنَّ الله المبتدئ بالإحسان، الممد بكلِ فضلٍ قبل كل شيء، فمنه تصدر العطايا، وما الأسباب إلا عنه صادرة، فلو شاءَ أن يقطعها لانقطعت، فيتعلَّق قلبُ المؤمن بالله؛ لأنه الأول ـ سبحانه وبحمده، ـ فيتجرَّد عن مطالعة الأسباب، وعن الالتفاتِ إليها، وعن الوقوفِ عندها؛ بل يعلِّق قلبه ونظره بالأول الذي هو المبتدئ بالإحسان، بالأول الذي بدأك بالعطاءِ والمنِّ من غيرِ وسيلة، من غير سببٍ، فمن الذي أوجدك؟ هل كنتَ سبباً في وجودِ نفسك؟ ومن الذي منَّ عليك بالهداية؟ هل كنتَ سبباً في ذلك الذي حصل من هدايته؟
كل ذلك محض إحسانه وفضله وعطائه، وبره وكرمه، وهذا يستوجب أن يُثنى عليه، وأن ينقطع النظر عمَّا سواه؛ بل حتى الأسباب إذا تأمَّلها المؤمن وجدَ أنَّ الله هو الذي قدَّرها، وهو الذي ساقها، ولولاها ما كانت، فمن الذي يسر لك الطعام عندما خرجت من بطنِ أمك؟ تقول: أمك، نعم، لكنَّ أُمكَ سببٌ، وليست هي المعطية الحقيقية، هي سبب.
من الذي جمعَ الحليب في ضرعها؟ أليس هو الله؟
إذاً الله هو الأول، وتأمَّل كلَ سببٍ تُحصِّلُ به شيئاً مما تريد فستجد أنَّ وراء ذلك السبب الأول، الذي ليس قبله شيء سبحانه وبحمده.
الطعام يُشبعك؛ لكن مَن الذي ساقه لك؟ الله، تقول المزارع زَرع، طيب، مَن الذي زَرَعَ؟ كما قال الله ـ تعالى ـ: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} الواقعة 63-64، إنه الله الأول، الذي سبق كل شيءٍ ـ سبحانه وبحمده ـ بفضله وعطائه وإحسانه، وأجري في هذا على كل الأسباب، فإنَّ الله سابقٌ له، لولاه لما كانت، لولاه لما أثمرت، لولاه لما انتجت.
فلذلك علِّق قلبك به، وأقطع نظرك عن كل الأسباب، لا يعني أن تُعطلها، لا يعني أن لا تأخذَ بالأسباب؛ بل خذ بالأسباب، لكن علِّق قلبك بمُسبِّبِها، علِّق قلبك بربِّ الأرباب ـ سبحانه وبحمده ـ وبهذا تعلم أنَّ يقينك بأنَّ الله هو الأول، وأنَّ الله هوالآخر يقطع عنكَ التعلُّق بالبشر وبالخلق، وبسائرِ ما في الوجود، سوى الله ـ جلَّ في علاه ـ فيمتلئ قلبُك تعلُّقاً به.
كما أنه إذا اعتقدت أنه الآخر ركنت إليه، ووثقت به، وعلمت أنَّ كل شيء هالك، لا يبقى إلا هو ـ جلَّ في علاه ـ فإذا كانَ الجميع هالك فلا تتوجه إلا إلى الباقي، الذي بقاؤه لا ينقطع، فهو الآخر ـ سبحانه وبحمده، ـ وبهذا يتبيَّن أنَّ عبودية المؤمن بهذين الاسمين -أنَّ عبودية المؤمن باسم الأول، وأنَّ عبودية المؤمن باسم الآخر- تقطعُ عنه كلَ العُلاقي والأسبابِ، والنظرِ إلى الخلق، وتوحِّد نظره إلى الخالق.
كما أنَّ اعتقادك بأنَّ الله هو الأول، وأنَّ الله هو الآخر يقطع ذلك التساؤل والوساوس الشيطانية التي يقذفها الشيطان في قلب الإنسان.
جاء رجلٌ -يقال له: أبو زُميل- إلى عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يسأله عن شيءٍ وقعَ في صدره، فقال له: ما شيءٌ أجدُه في صدري (أين الشكوك والوساوس التي يُلقيها الشيطان)؟ فقال له: إذا وجدت في نفسكَ شيئاً فقل: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الحديد: 3.سنن أبي داود (5110) وحسنه الألباني
وقد ذَكرَ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: أنَّ الشيطان يأتي، فيُلقِي في قلبك شيئاً من الوساوس: فتقول: هذا خلق الله، هذا خلق الله، فيأتيك فيقول: مَن خلق الله؟ عند ذلك تذكَّر أنه هو الأول ـ سبحانه وبحمده ـ الذي ليس قبله شيء، وهذا يقطعُ عنك النظرَ في طلبِ خالقٍ لربِّ الأرباب، ومُسبب الأسباب؛ لأنه الأول الذي لم يسبقه شيء، فاستعذ بالله، وانتهي عمَّا يُلقيه الشيطانُ من الوساوس، فأسماؤه دالة على كماله، مُبيِّنةٌ لجلاله، تدل على بهائه سبحانه وبحمده.
كما أنَّ من آثارِ الإيمان بأن الله هو الأول والآخر: الإخلاص.
الإخلاص له ـ جلَّ في علاه ـ فإنه هو المقصود ، هو الأول والآخر، فإليه تنتهي الغايات والمنى والمطالب، فلا يلتفت الإنسان إلى سواه طلباً، ولا يلتفت إلى سواه قصداً، ولا غايةً، فالله هو الأول والآخر.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وأعنا على طاعتك، واصرف عنَّا معصيتك، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.