قال شيخ الإسلام ابن تيمية :" وأصل قول أهل السنة الذي فارقوا به الخوارج والجهمية والمعتزلة والمرجئة أن الإيمان يتفاضل ويتبعض كما قال النبي «يخرج من النار من كان في قلبه مثال ذرة من إيمان» وحينئذ فتتفاضل ولاية الله وتتبعض بحسب ذلك، وإذا عرف أصل البدع، فأصل قول الخوارج أنهم يكفرون بالذنب، ويعتقدون ذنباً ما ليس بذنب، ويرون اتباع الكتاب دون السنة التي تخالف ظاهر الكتاب، وإن كانت متواترة، ويكفِّرون من خالفهم، ويستحلون منه لارتداده عندهم ما لا يستحلونه من الكافر الأصلي، كما قال النبي فيهم «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان» ولهذا كفروا عثمان وعليا وشيعتهما وكفروا أهل صفين الطائفتين في نحو ذلك من المقالات الخبيثة".
وأصل قول الرافضة : أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على علي نصاً قاطعا للعذر؛ وأنه إمام معصوم ومن خالفه كفر ؛ وأن المهاجرين والأنصار كتموا النص وكفروا بالإمام المعصوم؛ واتبعوا أهواءهم وبدلوا الدين، وغيروا الشريعة، وظلموا واعتدوا ؛ بل كفروا إلا نفرا قليلا : بضعة عشر أو أكثر ثم يقولون : إن أبا بكر وعمر ونحوهما ما زالا منافقين، وقد يقولون : بل آمنوا ثم كفروا، وأكثرهم يكفر من خالف قولهم ويسمون أنفسهم المؤمنين ومن خالفهم كفارا ويجعلون مدائن الإسلام التي لا تظهر فيها أقوالهم دار ردة أسوأ حالا من مدائن المشركين والنصارى ولهذا يوالون اليهود والنصارى والمشركين على بعض جمهور المسلمين، وعلى معاداتهم ومحاربتهم : كما عرف من موالاتهم الكفار المشركين على جمهور المسلمين ؛ ومن موالاتهم الإفرنج النصارى على جمهور المسلمين ؛ ومن موالاتهم اليهود على جمهور المسلمين، ومنهم ظهرت أمهات الزندقة والنفاق كزندقة القرامطة الباطنية وأمثالهم ولا ريب أنهم أبعد طوائف المبتدعة عن الكتاب والسنة ولهذا كانوا هم المشهورين عند العامة بالمخالفة للسنة فجمهور العامة لا تعرف ضد السني إلا الرافضي فإذا قال أحدهم : أنا سني فإنما معناه لست رافضيا، ولا ريب أنهم شر من الخوارج : لكن الخوارج كان لهم في مبدأ الإسلام سيف على أهل الجماعة وموالاتهم الكفار أعظم من سيوف الخوارج فإن القرامطة والإسماعيلية ونحوهم من أهل المحاربة لأهل الجماعة وهم منتسبون إليهم وأما الخوارج فهم معروفون بالصدق؛ والروافض معروفون بالكذب . والخوارج مرقوا من الإسلام وهؤلاء نابذوا الإسلام . وأما القدرية المحضة فهم خير من هؤلاء بكثير وأقرب إلى الكتاب والسنة لكن المعتزلة وغيرهم من القدرية هم جهمية أيضا وقد يكفرون من خالفهم ويستحلون دماء المسلمين فيقربون من أولئك . وأما المرجئة فليسوا من هذه البدع المغلظة بل قد دخل في قولهم طوائف من أهل الفقه والعبادة ؛ وما كانوا يعدون إلا من أهل السنة ؛ حتى تغلظ أمرهم بما زادوه من الأقوال المغلظة . ولما كان قد نسب إلى الإرجاء والتفضيل قوم مشاهير متبعون : تكلم أئمة السنة المشاهير في ذم المرجئة المفضلة تنفيرا عن مقالتهم كقول سفيان الثوري : من قدم عليا على أبي بكر والشيخين فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ؛ وما أرى يصعد له إلى الله عمل مع ذلك . أو نحو هذا القول . قاله لما نسب إلى تقديم على بعض أئمة الكوفيين . وكذلك قول أيوب السختياني : من قدم عليا ع لي عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار قاله لما بلغه ذلك عن بعض أئمة الكوفيين . وقد روي أنه رجع عن ذلك . وكذلك قول الثوري ومالك والشافعي وغيرهم في ذم المرجئة لما نسب إلى الإرجاء بعض المشهورين .
وكلام الإمام أحمد في هذا الباب جار على كلام من تقدم من أئمة الهدى ليس له قول ابتدعه ولكن أظهر السنة وبينها ؛ وذب عنها وبين حال مخالفيها وجاهد عليها ؛ وصبر على الأذى فيها لما أظهرت الأهواء والبدع ؛ وقد قال الله تعالى : {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} فالصبر واليقين بهما تنال الإمامة في الدين فلما قام بذلك قرنت باسمه من الإمامة في السنة ما شهر به وصار متبوعا لمن بعده كما كان تابعا لمن قبله . وإلا فالسنة هي ما تلقاه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاه عنهم التابعون ثم تابعوهم إلى يوم القيامة وإن كان بعض الأئمة بها أعلم وعليها أصبر . والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم . والله أعلم .
" مجموع الفتاوى " (3/355- 358).