الحمد لله الذي {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الحديد:2-3 ، أحمده حق حمده، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أُحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إلهٌ جلَّت قدرته، إلهٌ عَظُمَ شأنه، إله للأولين والآخرين، ربُّ العالمين، هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، دلَّنا على كلِّ خير، حذرنا من كل شر، بيَّنَ لنا طريق الهدايةِ على وجهٍ لايلتبس ولا يشتبه، صراطٍ مستقيم، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعَ سُنته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد
فحياكم الله أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها)، في هذه الحلقة نتناولُ اسمين من أسماء الله العظيمة، ذكرهما الله في سورة الحديد، وهما: الظاهر، والباطن.
الظاهر والباطن: اسمان مقترنان بهما يتبيَّنُ لله كمالُ الإحاطة في المكان، قد أخبر الله ـ جلَّ في علاه ـ في مُحكم كتابه عن أسمائه وصفاته، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الحديد: 3 ، تأمَّل كيف ذكر الله تعالى أوليَّته وآخريَّته، وظهوره وبطونه جلَّ في علاه.
ثم بيَّن ما تقتضيه هذه الصفات من كمال الإحاطة، فقال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} سبحانه وبحمده، لا يفوته شيء، وسِعَ علمه كلَّ شيءٍ سبحانه وبحمده.
إنَّ الظاهر والباطن جاء الخبرُ عنهما في سنة رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فيما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة، في دعاء النوم الذي علَّمه النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أمَّته: «اللهم رب السماواتِ ورب الأرضِ ورب العرش العظيم، ربنا وربَّ كل شيء، فالق الحب والنوى، منزِّل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذُ بكَ من شرِّ كل ذي شرٍّ أنت آخذٌ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدكَ شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء -وهذا الاسم الّذي ستناوله في هذه الحلقة- وأنت الباطن فليس دونكَ شيء، اغننا من الفقر، واقضِ عنَّا الدين»سنن أبي داود (5051)، وسنن الترمذي (3481).
هكذا كان ذِكْره ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لهذين الاسمين في سنته، فما معنى اسمه الظاهر، واسمه الباطن سبحانه وبحمده؟
هنا نحتاج إلى أن نعرف معنى الظاهر والباطن في اللغة؛ لأن القرآن نزل بلسانٍ عربي مبين، وإذا أردت أن تعرف شيئاً من معاني كلام الله ـ عزَّ وجل ـ فعليك بمعرفة لسان العرب الذي نزل به القرآن؛ فإنه به يُعرفُ ما قال الله ـ عزَّ وجل ـ وما أراد في كلامه في كتابه الحكيم.
الظاهر في كلام العرب يراد به عدة معان: منها العلو، ومنها الإرتفاع، ومنها البيان، ومنها عدم الخفاء، والظهور بكلِ ما يحمله هذا المعنى من البيان، كل هذه المعاني مما يرادُ به اسمُ الظاهر في اللغة.
وأمَّا الباطن فالظاهر يقابله؛ ولذلك يُفسر العلماء الباطن بأنه ما قابل الظاهر، فمثلاً هذه العباءة هذا ظاهرها، وهذا باطنها، هذا الظاهر، وهذا الباطن.
فالباطن يُعرفُ معناه من الظاهر؛ ولذلك هذانِ الاسمانِ جاءَ مقترنين، وانتبه إلى السر في ذِكْر هذين الاسمين عندما عطفَ بينهما فجاء بالواو، الدالة على العطف، والمفيدة للتغاير؛ لأنَّ غالب ما يذكره الله عزَّ وجل في كتابه الحكيم من صفاته يذكره على وجهٍ متوال وصفاً، لا يفصلُ بينها بحروف عطف، والسبب في هذا؟ أنها متناسبة، يدل بعضها على بعض.
ولهذا لم يأتِ بينها بحرف العطف الذي يقتضي التغاير، فمثلاً يقول الله تعالى في الآية التي يَفتتحُ الله ـ تعالى ـ بها كل سورة إلا سورة براءة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ما قال: بسم الله والرحمن والرحيم؛ إنَّما قال: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الفاتحة: 1-4، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} الحشر: 22-23 ، ليس هناكَ عطفٌ بين هذه الأسماء؛ لأنها متناسبة، يدلُ بعضها على بعض.
أمَّا هذان الاسمان فإنهما متقابلان؛ ولذلك جاء بالواو؛ ليبيِّن أنَّ كلاً منهما يدلُ على معنى يقابل الآخر، كما هو الشاهد في قوله ـ تعالى ـ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ}، ثم قال: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِن}، فإنهما أسماء متقابلة، فعطف بينهما؛ ليوضح هذا التقابل في معناهما، ولأنَّ هذه المعاني قد يقع في قلب الإنسان تساؤل كيف يكون الأول، ويكون الآخر؟ كيف يكون الباطن، ويكون الظاهر؟
فالجواب على هذا: لا تقل: كيف؛ فربُّك جلَّ في علاه فوق كل وصف، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى: 11 ، ومن شأنه أن لا يقال في صفاته: كيف؛ لأنه جلَّ في علاه علا وسما وتنزه عن أن تُحيط به العقول، فعقول البشر لا تُدركه شأنه وقدره ـ سبحانه وبحمده ـ لهذا قطع الله ـ تعالى ـ السؤال بالكيف، فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
فلا تطلبُ لصفاته تمثيلاً، ولا تطلبُ لصفاته كيفيَّةً؛ فهذا مما لا تُحيط به عقولكم، ونحن تَقْصرُ عقولنا عن الإحاطة ببعضِ شأن المخلوقات، فكيف بشأن الخالق، الذي شأنه أرفعُ شأنٍ سبحانه وبحمده؟
إنَّ الكيفَ في مثل هذه الأمور مزلَّة قدم، يوقع في انحراف وضلال؛ ولذلك لما سُئل الإمام مالك ـ رحمه الله ـ عن استواء الربِّ ـ جلَّ في علاه ـ على عرشه كيف يكون؛ صمت، وأعلاهُ شيءٌ من الإرهاق، حتى بدا ذلك على وجهه، فقال: «الإستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة».
فلذلك لا يُسأل كيف يكون ذلك؟ كيف يكون هو الأول والآخر؟ لكن ثق تماماً أنَّ الله متصفٌ بما أخبر، وأنَّ هذه الصفات دالة على كماله، فهو الأول والآخر، وهو الظاهر والباطن ـ جلَّ في علاه ـ {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الحديد: 3 .
إنَّ معنى ظهور الله ـ عزَّ وجل ـ في اسمه الظاهر سبحانه وبحمده يدل على عظمته، وعلى عظمة صفاته، واضمحلال كل شيء عند عظمته ـ سبحانه وتعالى ـ فهو دال على علوه، فهو العلي الأعلى، ليس فوقه شيء ـ سبحانه وبحمده ـ كما قال ـ سبحانه ـ في آية الكرسي: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة: 255 ، وكما قال ـ جلَّ وعلا ـ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} الأنعام: 18 ، وكما قال ـ جلَّ وعلا ـ في محكم آياته، في ذكرِ علوه على خلقه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الملك:16 .
فهذا من معاني العلو، فيه من معاني الظاهر أنه العالي على كلِ شيء ـ سبحانه وبحمده ـ على وجه يليق به، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الشورى:11 .
ومما يدلُ عليه معنى الظاهر أنه بَيِّن يدركه كل من طلبه، فليس في إثابته، ولا في دلائلِ وجوده وصنعه التباس وخفاء، بل هو البيِّنُ لكلِّ من طلبه سبحانه وبحمده؛ ولهذا يقول ـ جلَّ في علاه ـ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} دالة عليه {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} يوسف: 10 ، ويقول ـ جلَّ وعلا ـ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} فصلت: 53 .
إذاً من معاني الظاهر أنه الذي ظهرت دلائل إلهيته، ودلائل عظمته، ودلائل وجوده ـ سبحانه وبحمده ـ حتى أَسَرَت قلوب الخلق، فلا يتمكنون من الانفكاك عنها، مهما جحدَ الجاحدون وجوده فإنهم يجدون في أنفسهم ضرورة الإقرارِ بأنَّ لهذا الكونِ صانعاً، دالَّ عليه هذا الانتظام، وهذه الآيات.
ومن معاني الظاهر أنه ـ سبحانه وبحمده ـ غالبٌ لكلِّ مَن خرج عن أمره، فما من أحدٍ يخرج عن أمرِ الله ـ عزَّ وجل ـ إلا والله عليه ظاهر، كما قال ـ تعالى ـ: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} الأنعام: 18 ، فلا شيء يعجزه ـ سبحانه وبحمده ـ بل جميع الخلق في قبضته: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} مريم: 93 ، وهذا من معنى ظهوره.
إذاً الظاهر يكون له كل هذه المعاني، وهي دالة على عظمته وجلاله سبحانه وبحمده, هذا بعضُ ما دل عليه اسمه الظاهر، وستناولُ إن شاء الله تعالى بقية الحديث عن دلالة هذا الاسم واسمه الباطن في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها)، وأستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.