الحلقة الحادية عشر
(( قوم عاد بين التكذيب والهلاك ))
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، أحمدُه أحقُّ من حُمد، وأجلُّ من ذُكِر، لهُ الحمدُ كُلُّه، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، شهادةً أرجو بها النجاةَ من النار، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميد مجيد، أمَّا بعد:
فحياكم الله، وأهلاً وسهلاً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
هودٌ عليه السلام رسولٌ من رُسِلِ اللهِ الكرام، أرسلهُ اللهُ تعالى بالدعوةِ إلى عبادةِ الله وحده، فحذَّرَ قومه، وبالغَ في نصحهم، واجتهدَ في دلالتهم على الحقِّ، وهدايتهم إلى الصراطِ المستقيم، ناقشهم، وجادلهم، وأقامَ عليهمُ الحُجة، فما كان من قومهِ المستكبرين، من قومهِ المكذِّبين، من قومهِ المعاندين الذين علو عن الحقِّ، وأبوا الانقيادَ له؛ إلا أن {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70].
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123]، كذَّبت عادٌ ما جاءَ به هودٌ عليه السلام، فقالوا له مستنكرينَ عليه: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}، ونتركُ ما كانَ عليه سلَفُنا من عبادةِ الآلهةِ والأصنام، ثم تحدُّوه، فقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70].
حذَّرهم هودٌ عليه السلام من هذا الاستكبار، الذي وصَفهُ اللهُ تعالى في قوله: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15].
قال لهم: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}: هذا الذي أنتم فيه من استغراب دعوتي لكم أن تعبدوا اللهَ وحده، هذا الذي أنتم فيه من استعجالِ العقوبة إنما هو رجسٌ وغضب، هو موجبٌ لنزولِ العقوبات، وحلولِ النذُرِ والمثولات.
{أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ}، كيف تقبلونَ أن أتجادلونني في أسماء لا حقيقةَ لها، أسماءَ صرفتم لها من العبادةِ والذُلِّ ما لا يكونُ إلا لله؟ {مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 71].
بلَغَ بهمُ التكذيب أن قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]، أي: أنَّ ما أصابك من هذا الذي تقول وما تدعونَ إليه إنما هو بسببِ غضَبِ آلهتنا عليه، فأصابكَ في عقلك؛ فاعتراكَ جنون وسفاهة؛ بسبب إعراضكَ عن عبادةِ آلهتنا.
هودٌ عليه السلام قال لهم في آيةٍ واضحةٍ بيِّنة: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 54-55].
بيّنَ لهم عليه الصلاة والسلام أنه في غايةِ البراءة من عبادةِ غيرِ الله عزَّ وجل، وأنه ثابتٌ على هذا الحق، وعلى هذا الهدى مهما فعلَ خصومُه، ومهما كاده أعداؤه، فإنه ثابتٌ على عبادةَ الله وحده، لا يبغي به بديلاً، {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
وقد قيل: إنَّ هوداً عليه السلام لم يأتِ قومهُ بآيةٍ خاصة، كما هو الشأنُ في حالِ الأنبياء؛ بل كانت آيته هو ثباته على الحق، وتحدِّيهِ لهم أن ينالُهُ بسوء، أو أن يُصيبُهُ بما يكره، فلم يتمكنوا من ذلك.
والمؤكدُ واليقين أنه ما من نبيٍ إلا أتاهُ اللهُ تعالى من الآياتِ والبيِّنات ما على مثله آمن البشر، ولا يلزمُ من هذا أن تُذكرَ جميعُ آياتِ الأنبياء، وأن يبلُغنا ما جاؤوا به من المعجزات والبراهين الدالة على صدقهم المؤيدةِ لما جاءُ به من الحق.
إنَّ قومَ هودٍ عليه السلام كانوا لا يؤمنونَ ببعثٍ ولا نشور، حتى قالوا: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 35-37].
ثم قال اللهُ تعالى مُبيِّناً ما قابلوهُ به: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} [المؤمنون: 38].
وقد بالغوا في عنادهم أن قالوا لهود: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 136-137]، أي: إن هذا الذي نحنُ عليه دينُ السابقين، فلن نتركه، ولن نتجاوزهُ إلى غيره، ولن نتبِّعَ ما جئتَ به، أيس منهم عليه الصلاة والسلام.
ثم إنهم صرحوا لهودٍ عليه السلام بطلبِ تعجيلِ ما وعدَهم به، فقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}، أي: من العقوبةِ والعذاب {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22].
أيها الأخوة والأخوات، أمام هذا التكذيبِ العظيم، وهذا الإصرارِ على الكُفرِ بربِّ العالمين، وهذا الانسداد في قبولِ الحقِّ والهدى الذي كانَ عليه قومُ عاد ما كانَ من هودٍ عليه السلام إلا أن لجأ إلى ربه ومولاه، {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 39].
سأل اللهَ عزَّ وجل أن ينصُرَهُ عليهم، وأن يُظهِرَه، وأن يُؤيده بما وعدَهُ، فقد كذّبوهُ وعاندوه، فجاءه جوابُ رب العالمين: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 40-41].
الله أكبر، لا إله إلا الله، لم يتأخرِ العذاب، لمَّا استكبروا وعاندوا واستعجلوه جاءهمُ العذاب، وكانَ ذلكَ أولَ ما كان في عارضٍ من السحابِ أقبل عليهم، وكانوا مُمحلينَ مُجدبينَ، فظنُّوا أنَّ هذا العارِضَ من السحاب هو سُقيا ومطر، {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41].
أيها الأخوة والأخوات، وقد قالَ لهم هودٌ عليه السلام عندما استعجلوهُ بالعقوبة: {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف: 23] بردِّكم ما جئتم به، وباستعجالكم العقوبة.
وجاءت عقوبةُ عاد أول ما جاءت على نحوٍ مما تطمعُ نفوسهم، وتطمحُ إليه، كانوا مُمحلينَ مُجدبين، كانوا في قحطٍ وسنين، فجاءهم عارضٌ من السحاب، فخُيِّلَ إليهم أنَّ هذا العارض سيكونُ مطراً يسقونَ منه، {فَلَمَّا رَأَوْهُ}، أي: رأوا العذاب الذي استعجلوه {عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، قال لهم هودٌ عليه السلام: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 24-25].
فحق عليهم العذاب، فأهلكوا، وأنجا اللهُ تعالى هوداً والذين آمنوا، كما قالَ جلَّ وعلا: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 58-60].
فكانت عقوبتهم على نحو ما ذكرَ اللهُ تعالى من الصيحةِ التي أهلكتهم: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [المؤمنون: 41].
وكذلك بالريحِ التي ذكرها اللهُ تعالى في قوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 6-8].
أرسل اللهُ تعالى على قومِ هودِ ريحاً باردة، شديدة الهبوب، {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} كوامل متتابعات، حتى حسمتهم وأهلكتهم، وصاروا كما وصفَ اللهُ تعالى: {صَرْعَى}.
شبهوا بأعجاز النخل التي لا رؤوسَ لها؛ وذلكَ لأنَّ هذه الريح كانت تأتي إلى أحدهم فتحمِلُهُ، فترفعهُ في الهواء، ثم تُنكِّسهُ على رأسه فتشدخه، فيبقى جثةً هامدةً بلا رأس.
وقد وصفَ اللهُ تعالى هذه الريح بأنها عقيم، لا نتاجَ لها، ولا خيرَ فيها: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41-42]، أي: كالشيء البالي الفاني، الذي لا نفعَ فيه بالكلية.
فكانَ مجموع ما عوقِبَ به قومُ هود: الصيحةَ المُهلكة، والريح العقيم التي لا تُبقي ولا تذر، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم فيما رواهُ في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» أخرجه البخاري (1035)، ومسلم (900)..
هكذا أُنجيَ هودٌ عليه السلام ونُصر، وأُهلكت عادٌ ودُمِّرت، {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72].
فالحمد لله ربِّ العالمين، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.