الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده حقَّ حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته بإحسانٍ، واقتفى أثره إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فأهلاً وسهلاً، ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
نحن لا زلنا نتحدثُ في أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ نقفُ معها تدبراً، واستجلاء لمعانيها، ووقوفاً عند مدلولاتها، وآثارها، وأحكامها.
هذه الحلقة نواصلُ فيها ما بدأنه من الحديث عن اسمي الله ـ عزَّ وجل ـ: الظاهر والباطن، أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ حسنى، ليس فيها نقص بوجهٍ من الوجوه، كُلُها دالة على عظمة الرب، كُلُها عظيمة، ومنها هذان الاسمان، يقول الله ـ تعالى ـ: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الحديد: 3 .
وقفنا مع اسم الله ـ تعالى ـ: الظاهر، اسم الله الظاهر يدل على علوه، فهو العليُّ الأعلى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} الأعلى: 1 ، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} البقرة: 255 جلَّ في علاه، {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} الملك:16 سبحانه وبحمده، أي: في العلو جلَّ في علاه، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} الأنعام: 18 ، ويدلُ على ظهوره، فما من شيءٍ أظهرُ منه سبحانه وبحمده؛ ولذلك ذلَّ له الخلق، ولذلك دانت له القلوب، ولذلك لم يملك الناس إلا أن يؤمنوا بأنه رب العالمين.
تقول: هناك من يكفر، نعم؛ لكنَّ الكافر أخطأ، استفاد من المقدمة وأخطأ في النتيجة، ومقر بأنَّ ثمة خالق، بأنَّ ثمة رب مدبِّر، لكنَّه جعل ذلك لغير الله فضلَّ، استفاد من الدليل لكنَّه لم يصل إلى النتيجة الصحيحة، بخلاف المؤمن الذي لا يعبد إلا الله، فإنه استدل بهذه الآيات على الرب الذي لا إله إلا غيره، فكان وصوله إلى النتيجة مصيباً؛ ولذلك هو الظاهر ـ جلَّ في علاه ـ هو الظاهر ـ سبحانه وبحمده ـ بغلبته وسلطانه على كلِّ أحدٍ من الخلق.
كلُّ هذه المعاني دلَّ عليها هذا الاسم الكريم، ويقابل هذا الاسم اسمه الباطن ـ سبحانه وبحمده ـ وهنا نقف مع هذا الاسم، في دلالة اسم الباطن لغةً يقول العلماء: الباطن ضدُّ الظاهر، الباطن يُفهم بفهمكَ لاسمِ الظاهر.
الباطن دلالته على عظمة الله ـ عزَّ وجل ـ بيِّنة واضحة بفهمِ معنى الباطن. الباطن يدلُّ على إطلاعه على كل الخفايا والخبايا، والأسرار والضمائر، ودقائق الأشياء، فلا يغيب عنه شيء لبطونه ـ سبحانه وبحمده ـ فهو أقربُ إلى كلِّ شيءٍ من كلِّ شيء ـ سبحانه وبحمده ـ وهذا لا ينافي أنه الظاهر؛ لأنَّ الله ليس كمثله شيء في كلِّ نعوته، في كلِّ صفات جلاله سبحانه وبحمده.
الظاهر يدلُّ على الكمال، فكذلك الباطن يدلُ على جلالٍ وبهاءٍ وجمالٍ وإحاطة بعباده، فهو الباطن لجميع الأشياء، كما قال ـ تعالى ـ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ق: 16 .
هذا معنى من معاني بطونه ـ جلَّ في علاه ـ معنى من معاني أنه الباطن: أنه ـ سبحانه وبحمده ـ الذي هو أقربُ إلى كلِّ شيءٍ من أي شيء، فهل يخفى عليه شيءٌ من شأنِ خلقه؟
لا والله، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الملك: 14 ، اللطيف الذي يصل إلى الأشياء بخفاء، والخبير العالم بالخفايا والأسرار والخبايا، وما تُكنُّه النفوس، ومكنونات الضمائر سبحانه وبحمده، هذا من معاني الباطن.
ومن معاني الباطن: أنه الذي احتجبَ عن عباده، فلا يرونه ـ سبحانه وبحمده ـ لا يطيق العباد أن يروه، موسى ـ عليه السلام ـ لما قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} أي: في هذه الدنيا {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} الأعراف: 143 .
لم يتمكن الجبل من الثبات لتجلي رب العالمين ـ سبحانه وبحمده ـ فتدكدك وزال لعظمة الله عز وجل.
وهذا معنى ما في الحديث أنَّ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال: «حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحاتُ وجهه -أي: أنوار وجهه- ما انتهى إليه بصره من خلقه» جلَّ في علاه سبحانه وبحمده، لا إله غيره.
إذاً العباد لا يطيقون أن يروه، ففي الدنيا قدراتهم ضعيفة، تكمل هذه القدرات في الآخرة، فيُمكِّنُ الله تعالى أهل الإيمان من النظرِ إليه، ويجعل النظر إليه غاية ومنتهى مطالب أهلِ الإيمان، ونعيم أهلِ الجِنان أن يروه ـ سبحانه وبحمده ـ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} القيامة: 22-23 اللهم اجعلنا منهم يا رب العالمين.
وقد قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ليلة البدر، لا تضامُّون فيه»صحيح البخاري (554)، وصحيح مسلم (633) أي: لا يلحقكم ضيمٌ، وفي رواية: «لا تضامُّون» أي: لا ينضم بعضكم إلى بعضٍ لرؤيته، وذلك لظهوره وجلائه وبهائه، ومع ذلك فإنهم لا يدركونه ـ سبحانه وبحمده ـ كما قال ـ جلَّ وعلا ـ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} الأنعام: 103 .
فالأبصار لعجزها حتى إذا أبصرته يوم القيامة ورأته تَكَلُّ وتضعفُ وتَقْصرُ عن أن تحيط بجلاله وبهائه سبحانه وبحمده.
الآن نحن ننظر إلى شيء نراه بأعيننا، لكن لا نستطيع أن ندرك تفاصيله، ندرك بهاءه، ولو نظرنا إلى القمر ليلة البدر ألسنا نرى هذا البهاء، وهذا الجمال، حتى أصبح مضرِباً للمثل في ألسن كثيرين للجمال والبهاء، لكن هل وقفوا على تفاصيل هذا المرئي؟ هل يعرفون دقائقه؟
لا؛ ولهذا لو أتوا بمكبِّر لرأوا شيئاً لا تراهُ أعينهم، يوم القيامة الخلق يرونه لكنَّه مع هذا لا يزالُ باطناً سبحانه وبحمده، فهم لا يطَّلِعون عليه إطلاعاً تاماً {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} جلَّ في علاه، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} طه: 110 كما قال جلَّ في علاه.
وهذا من معنى بطونه، فهو محتجب عن الحواس مع ظهور آياته ودلائل قدرته، وبراهينِ كماله سبحانه وبحمده إلا أنهم يقصرون عن الإحاطة به سبحانه وبحمده.
ومن بطونه ـ جلَّ في علاه ـ: أنه لا يخفى عليه من شأنِ عباده السابقين واللاحقين حيثما كانوا خافية، من بطونه ـ جلَّ في علاه ـ: أنه يبلغُ ما أرادَ أينما كان الإنسان {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} النساء: 78 ، فأين يفر العبد؟ ومن أي جهةٍ يهرب؟ إنه لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، {كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} القيامة: 11-12 .
هذا من معاني بطونه ـ سبحانه وبحمده ـ وبهذا يعلمُ العباد أنَّ الله ـ تعالى ـ محيط بهم، وأنهم في قبضته، وأنه عليهم قدير، وبهم بصير، وبهم عليم، لا يخفى عليه من شأنهم شيء ـ سبحانه وبحمده ـ فهو الظاهرُ وهو الباطنُ ـ سبحانه وبحمده ـ وبذلك تتحققُ الإحاطةُ المكانية التي تشملُ كلَّ شيء من موجدات هذا الوجود، ومن موجدات هذا الكون، فلا يخرجُ عنه شيء سبحانه وبحمده.
إذا نظرنا إلى اقتران هذين الاسمين تبيَّنَ لنا ما لله ـ عزَّ وجل ـ من كمال وبهاء، تَكَلُّ الألسن وتعجز عن الإحاطة به ـ سبحانه وبحمده ـ كذلك إذا انضمَّ إليه ما في صدرِ السورة من دلائلِ إحاطته الزمانية يقف العقل مذعناً، ويقف القلبُ مُقراً بكمال الرب ـ سبحانه وبحمده ـ هو الأول ليس قبله شيء، وهو الآخر ليس بعده شيء، وهو الظاهر ليس فوقه شيء، وهو الباطن ليس دونه شيء سبحانه وبحمده.
هذا الكمال يجعل القلوب منقادة إلى الله ـ عزَّ وجل ـ لا تملك إلا أن تشهد بأنه لا إله غيره، وأنه ربُّ كلِّ شيء ـ سبحانه وبحمده ـ وأنه المُطلع على كلِّ شيء، فتذعنُ القلوب له محبةً وتعظيماً، وتحققُ العبودية له سبحانه وبحمده.
هذه المعاني بعض ما في هذين الاسمين من جلالِ ربنا وبهائه وعظمته، فلنتدبر آياته وصفاته؛ لنقف على شيء من جلال الله الذي يأسر القلوب، ويجعلُها إليه مُقبلة، وله مُخبته، وعن غيره منصرفه سبحانه وبحمده.
اللهم ارزقنا حُبَّك، وحُبَّ مَن يُحبُّكَ، وحُبَّ عملٍ يُقرِّبُنا إلى حُبِّك، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.