الحلقة الرابعة عشر
(( {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} ))[الأنبياء: 52].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له، إله الأولين والآخرين، لا إلهَ إلا هو الرحمنُ الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
إبراهيمُ عليه السلام -خليلُ الرحمن- هو الذي قال فيه رب العالمين: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]، دعا أباهُ إلى التوحيد، وتلطَّفَ لهُ غايةَ التلطُف، كما قصَّ اللهُ تعالى في مُحكمِ كتابه في سورةِ مريم: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}؛ لأنه هو الذي يُزيِّنُ عبادةَ غيرِ الله عزّ وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 44-45].
نعم، إنه عذابٌ من الرحمن، ولم يقل: من الجبَّار؛ لأنه عذابٌ لا يكونُ إلا لمنِ استحقَّهُ، فالرحمن الذي امتلأَ رحمةً يُغضِبُهُ ويُنزِلُ عقوبته أن يُجعلَ لهُ شريكٌ أو ندٌّ أو سمِيٌّ أو نظير.
فما كانَ من آزر أبي إبراهيم عليه السلام إلا أن أبى واستكبر، {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46]، فهدَّدهُ بأمرين: الرجم، والمقاطعة والمباعدة الأبديَّة.
قالَ إبراهيم جواباً على هذا التوَعُد وهذا الوعيد: {سَلَامٌ عَلَيْك}، لن يصِلَكَ منِّي سوءٌ أو شر، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}، وهذا هو ثانيَما وعدَه، أن يطلُب لهُ المغفرةَ من اللهِ عزَّ وجل، {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47].
وأمَّا ما يتعلَّق بالمباعدة والمهاجرة: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي}، أي: اعبُدُه {عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 48].
ومما قصَّهُ اللهُ تعالى في سورةِ مريم من نبأ إبراهيم ودعوته لأبيه يتبيَّنُ بُطلان عبادةِ الأوثانِ والأصنام؛ فإنَّ إبراهيمَ عليه السلام كانَ قد أبطلَ عبادة الأصنام التي اشتغلَ بها قومُه وهي إشارة، وكانت ذاتَ صِلَةٍ بعبادةِ الأفلاك التي عبدوها من دونِ اللهِ عزَّ وجل.
فقومُ إبراهيم كان شركهُم بالكواكب، وقد صوَّروا لها تماثيل عبدوها من دون الله؛ ولذلك قال لقومه كما قصَّ اللهُ تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 52-53].
فاحتجوا على عبادتهم لتلكَ الأصنام وتلكَ الأوثان بأنهم ورِثوها من آبائهم الأقدمين، فقال لهم: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء: 54]، أي: في طريقٍ بعيدٍ عن الهدى، في طريقٍ قد جانبَ الصواب.
قالوا مُستغربينَ مندهِشين من هذه الدعوة التي تُنكِرُ عليهم أن يعبدوا الأصنام: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55].
فجاءهمُ الحقُ المبين: {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء: 56].
هذا هو الرب الذي يستحقُ أن يُعبد، هذا هو الرب الذي لا تُصرفُ العبادةُ لسواه، هذا هو الرب الذي له حقُ التوحيد، فإذا صُرِفَ إلى غيره كانَ ضلالاً مُبيناً، وكانَ ظُلماً عظيماً، وكانَ شركاً مُبيناً.
ثمَّ قال لهم في بيانِ إقامةِ الحُجة على ما ذكرَهُ لأبيه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]: لا يوصِلُ إليكَ نفعاً، ولا ضراً، ولا يُدرك ما يكونُ منكَ لا بسمعهِ، ولا ببصره.
جاءَ بحُجةٍ زائدةٍ على ذلك: أنَّ هذه الأصنام لا تملكُ أن تدفع عن نفسها شيئا، قالَ: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57]، سأُوقِعُ بهم كيداً يتبيَّنُ لكم منه أنهم في غايةِ الضعف، أنهم لا يدفعونَ عن أنفسهم شيئاً، فكيفَ يدفعونَ عنكم؟ أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فكيفَ يملكونَ ذلكَ لكم؟
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء: 57]، وقد جاءَ تفصيلُ هذا الكيدِ في سورةِ الصافات، حيثُ قالَ اللهُ عزَّ وجل: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 85-87]: ما هذا الظن الردئ الذي ظننتُموه باللهِ عزَّ وجل حيثُ جعلتُموهُ تماثيلَ وأصناماً تتوجهون إليها بالعبادة؟
جاءَ تفصيلُ الكيد: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88-89]، قيل: إنَّ إبراهيمَ عليه السلام جارَ قومه، وأقامَ الحُجةَ عليهم بما يعتقِدونهُ في تلكَ النجومِ من التنجيمِ، وأنهُ ينكَشِفُ بها ما يكونُ من الغيبِ المستقبلي.
وقيل: بل إنَّ ذاكَ كانَ من علمِ النبوة الذي كشَفَهُ اللهُ تعالى لإبراهيم، والذي يظهر أنهُ نظر نظرة في النجوم على سبيلِ الموافقةِ لهم، الذي أوهمهُم فيه بأنه معتبِرٌ بعذرٍ يقبلونه، وهو أنهُ سقيم.
فما كانَ منهُ إلا ما قصَّ اللهُ تعالى : {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أي: فمالَ إلى آلهتهم، {فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91]: ما لكم لا تأكلونَ من هذه القروبات، وهذه الأطعمة، وهذه النذور التي يتقرَّبُ بها إليكم عابدوكم؟
{مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} [الصافات: 92]: ما الذي يمنعكم من الحديث؟ {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 93]، فكانَ كما قالَ جلَّ وعلا: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 58].
لمَّا شاهدَ قومُهُ ذلك {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 59]، فتذاكروا: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء: 60].
قال بعضُهم لبعض: {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} [الأنبياء: 61]، أي: يشهدونَ عقوبته، ويشهدونَ ما يكونُ إليه مآلهُ ومصيرُه لمَّا اعتدى على آلهتنا، {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّون} [الصافات: 94]: جاؤوا إليه جماعات، جاؤوا إليه مجتمعين، {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 62-63].
فنبَّههم إلى أمرٍ مُهم عجباً: ألا تعرِفوا من فعلَ هذا؟ أسألوا كبيرهم لعلهُ أن يُبين، أسألوا كبيرهم لعلهُ أن يُوضِّح.
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ}، أي: رجعَ قومُهُ إلى أنفسهم وأهله، تذكروا فيها ضلالهم، وبُعدَهم عن الطريقِ المستقيم، {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء: 64]؛ لكنَّ الشيطانَ تسلَّطَ عليهم، والغوايةَ تمكنت منهم، {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 65].
إذا كانوا لا ينطقون فلماذا تعبُدونهم؟ إذا كانوا لا يمنعون على أنفسِهم ضُراً وتربُصاً وكيداً فلماذا تعبدونهم؟
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 66-67]، وقال لهم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95-96].
فما كانَ منهم أمامَ هذه الحُجَّة إلا أن قابلوا الحُجَّةَ بالتهديد: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68].
وكما قالَ في الآيةِ الأخرى: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 97-98].
{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، فتبيَّنَ خسارُهُم، كما قالَ جلَّ وعلا: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70].
نعم لقد كانوا الأخسرين، نعم لقد كانوا الأسفلين؛ وذاكَ أنهم عبدوا غيرَ ربِّ العالمين، وأشركوا باللهِ عزَّ وجل ما لا يضرُهم وما لا ينفعُهم، فكانوا في عماءٍ مُبين.
وبهذا أقامَ إبراهيمُ عليه السلام الحُجةَ البيِّنة والبرهان الساطع على عدمِ صلاحيَّةِ هذه التماثيل للعبادة، وأنَّ هذه الأصنام لا تستحقُّ أن تُعبد؛ فهي لا تسمعُ، ولا تُبصِرُ، ولا تنطِقُ، ولا تنفعُ، ولا تضر، ولا تمنعُ عن نفسها ضرراً، ولا تدفعُ عن نفسها كيداً، فلماذا تُعبد؟
والحقُّ ما ذكرهُ اللهُ تعالى عنهم عندما يبعثهم، فيقولونَ جازمين: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98]، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.