الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيءٍ بعد، أحمده حقَّ حمده، {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}القصص: 70 ، نحمده ـ جلَّ في علاه ـ لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، داعياً إليه بإذنه، وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سُنته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فحياكم الله أيها الأخوة والأخوات، وأهلاً وسهلاً بكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها)، في هذه الحلقة نقف مع اسمٍ من أسماء الله ـ تعالى ـ الحسنى، التي ذكرها في كتابه، وذكرها رسوله في سنته، إننا سنقفُ مع اسمِ الحسيب.
وهو اسمٌ من أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ ذكره الله في كتابه في عدة مواضع:
منها قوله ـ تعالى ـ: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} النساء: 86 .
وقال ـ جلَّ وعلا ـ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} الأحزاب: 39 .
وقال ـ تعالى ـ: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} أي: أموال اليتامى {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}، ثم قال: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}النساء: 6 ، نعم، كفى به حسيباً جلَّ في علاه.
جاء هذا الاسم في عدِّ أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ في رواية الترمذي وغيره، عندما ذكرَ أسماء الله بعدَ قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: «إنَّ لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة»سنن الترمذي (3507)، جاء في رواية الترمذي سرد لهذه الأسماء، ومنها: الحسيب.
إنَّ هذا الاسم نحتاج في معرفة معناه إلى النظر في معنى الحسيب في اللغة؟ الحسيب في اللغة مأخوذ من الحَسْب، والحَسْب في اللغة يدلُّ على جملة من المعاني: يدلُّ على الكفاية، فالحسب هو الكافي، والحسيب هو الكافي في اللغة، ويدلُّ على الكرم، ويدلُّ على علو الشأن، ورِفْعَة المكانة في الآثار التي خلَّفها الأباء، ويدلُّ أيضاً على العدِّ والرَّقابة، كل هذا مما تفيده هذه المفردة (الحسيب والحَسْب) في كلامِ العرب.
أمَّا ما يتعلَّق بالمعنى الشرعي لهذا الاسم، فهو لا يَبْعُد عن هذه المعاني، فالله حسيب بمعنى أنه ـ جلَّ في علاه ـ: الكافي، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}الطلاق: 3 ، أي: فهو كافيه جلَّ في علاه.
وكما قال ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} أي: كافيك الله ـ تعالى ـ {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}الأنفال: 64 ، أي: وكافي مَن اتبعك مِن المؤمنين، فالكفايةُ منه جلَّ في علاه.
ومنه قول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عندما هدده مَن هدده من المشركين بعد غزوة أحد، بأنَّ {النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُم}آل عمران: 173 ، قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وأصحابه: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} آل عمران: 173-174 ، كما قال ـ تعالى ـ في سورة آل عمران: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}آل عمران: 173 ، فماذا كانت النتيجة من هذا الاستكفاء بالله ـ عزَّ وجل ـ: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}آل عمران: 174 ؛ إذاً الحسيب من معاني الكفاية، فهو الكافي عباده سبحانه وبحمده.
ومن معانيه أيضاً: الرقيب، فهو الرقيبُ على عباده، المحصي لأعمالهم، الذي لا يخفى عليه شيءٌ من شؤونهم ودقائقهم، فهو يحصيها، يُرَاقبها ـ جلَّ وعلا ـ كما أنه يحاسبُهم عليها، فـالحسيب يجمع هذين المعنيين: معنى الإحصاء والرَّقابة، والعلم والإطلاع على ما يكونُ من العبد، والمجازاة على ذلك، والمحاسبة على هذا.
فكلُّ هذا مما أفاده قوله ـ جلَّ وعلا ـ في التحية على سبيل المثال: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}النساء: 86 ، فكونه ـ جلَّ وعلا ـ حسيب على كلِّ شيء يدلُ على أنه يُراقبه ـ جلَّ في علاه ـ ويحصيه كما أنه يُثِيبه عليه.
ولهذا لما ذكر الله ـ تعالى ـ ما يتعلَّق بمال اليتيم، وما يجبُ فيه من الصيانةِ والرعاية، وعدم التعدي عليه، ووجوبِ بَذْله له عند الرُّشد، وألا يخفي منه شيئاً؛ قال: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}النساء: 6 .
يعني: مهما حاول الإنسان أن يُخفي، أن يُخطِّئ في الحساب ليخفي شيئاً أو ليأخذَ شيئاً؛ فإنَّ ذلك قد ينطلي على الناس؛ لكنَّه لا يخفى على الحسيب الرقيب، الذي يحاسب على الدقيق والجليل، والنقير والقطمير ـ سبحانه وبحمده ـ {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}النساء: 6 .
إذاً هذا معنى من معاني الحسيب، فيما يدلُّ عليه من معانٍ شريفة ثابته له سبحانه وبحمده.
إذاً الحسيب يمكن أن يُلخص ما يدلُّ عليه هذا الاسم في استعمالاته الشرعية في الكتاب وفي السنة، سواءً بهذا الاسم أو بتفرِعاته واشتقاقاته، الحسيب يأتي بمعنى: الكافي والحافظ، فإنَّ الله تعالى يكفي عباده من كل شيء، فمن لاك فيه الله ليس له كافٍ، ومن يتوكل عليه فهو حسبه: كافيه من كلِّ ما أهمه.
وأنت إذا تأملت وجدت أنَّ كل ما يتعلَّق به الناس في سبيل حصول الكفاية فإنَّ من ورائه الله ـ جلَّ في علاه ـ فتدبَّر ذلك وتأمَّل، والبصير ينفذ ببصره إلى الخفايا، وإلى ما وراء ذلك من الظواهر التي قد يتعلَّق بها الناس.
يظنُ الناس أنَّ الأسماء تحصل بها المقاصد استقلالاً، وهذا جهلٌ منهم؛ فإنَّ الأسباب إنما تؤتي ثمارها، إنما تُنتجُ نتائجها، إنما يحصَّلُ ما فيها من المطالب بالله ـ جلَّ في علاه ـ ولهذا ينبه الله ـ تعالى ـ عباده إلى هذا المعنى، فيقول: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}الواقعة: 58-59 .
هذه النطفة تستقر في رَحم المرأة، تُلَّقح بها البويضة، مَن الذي يُلِّقح الحيوان المنوي بالبويضة، فينتج عنها الحمل؟ مَنْ؟ هل الإنسان؟ هل الرجل أو المرأة؟ هل الزوج أو الزوجة لهم دور في تحصيل هذا التلقيح، وفي تتميمه، وفي رعايته وصيانته وتنشئته، ونقله في هذه الأطوار نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم مضغة مخلَّقة، ثم عظام، ثم لحم، ثم روحٌ تدبُّ في هذه المخلوقة من عظمٍ ولحمٍ، فينشأ خَلْقٌ آخر مختلف عن الخَلْقِ السابق؟ فتبارك الله أحسنُ الخالقين، إنه الله جلَّ في علاه.
مَن يظن أن الطعام والشراب تحصل به الكفاية، أيظن أنه بأكله وشربه يحصل له تمامُ الغنى؟ مَن الذي أوجدَ الطعام؟ مَن الذي أوجدَ الزرع؟ مَن الذي أوجدَ الماء؟ مَن الذي إذا شربت وطعمت يُوزِّع هذا الطعام في بدنك، ويجعل لك الكفاية به في تنشئتك وحفظِ قُواك؟ أليس هو الله؟ بلى، إنه الله جلَّ في علاه.
فهو الحسيب ـ سبحانه وبحمده ـ كفى به حسيباً ـ جلَّ في علاه ـ يكفي عباده كل ما يهمهم، يكفيهم كل ما يطلوبنه ويؤمِّلونه، مَن الذي يدفع عنك الآفات؟
إنه الله، {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} الرعد: 11 ؛ إذاً هذا معنى من معاني الحسيب.
المعنى الثاني الذي يتلَّخص به المعنى، ويتبيَّن به معنى الحسيب شرعاً هو معنى الإحصاء للأعمال والعد لها، فإذا تأمَّل المؤمن هذا جعله يقظاً لما يكونُ منه، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ق: 18 .
فالله ـ تعالى ـ يعلمُ ما تُخفي الصدور؛ ولذلك يقول ـ جلّ وعلا ـ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}البقرة: 284 ، فهو الرقيب عليه، وهو الذي يجازيكم به، {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}الأنعام: 62 .
الآيات في هذا كثيرة، ويكفي أن تعلم أنَّ الله سيقيم الوزن يوم القيامة على وجهٍ عدل، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}الأنبياء: 47 ، هذا المعنى الثاني من معاني الحسيب.
إذاً من معاني الحسيب: الحفظ، والكفاية.
ومن معاني الحسيب: الإحصاء، والرقابة، والمحاسبة، والمجازاة على العمل.
اللهم ألهمنا رشدنا، واكفنا بحولك وقوتك وعظمتك كلَّ ما أهمنا، وبلغنا ما أمَّلناه من خير، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.