الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده حقَّ حمده، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، شهادةً أرجو بها النجاة من النار، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فمرحباً، وأهلاً وسهلاً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
اللهُ ـ جلَّ في علاه ـ يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف: 180، ويقول: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}طه: 8، ومن أسمائه الحسنى ـ جلَّ وعلا ـ: الحسيب، {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}النساء: 6، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}النساء: 86.
والحسيب معناه: الكافي لعباده، والحافظ لهم، ومن معانيه: المحصي لأعمالهم، الرقيب عليهم، المحاسب لهم على ما يكونُ من عمل.
كلُّ هذا مما يدلُّ عليه هذا الاسم العظيم من أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ ونحن تَتَردد في ألسنتِنا كلمة، كثيراً ما نقولها، وهي متصلة بهذا الاسم، كلمة: حسبي الله ونعمَ الوكيل، أو حسبنا الله ونعمَ الوكيل، وفي بعض الأحيان يقولُها الإنسان في سياقِ استدفاع ما وقع عليه من ظلم أو اعتداء من أحد، يقول: حسبي الله عليك، أو حسبي الله ونعمَ الوكيل، أو ما أشبه ذلك، وهي مرتبطة بهذا الاسم، فالله هو الحسيب، وأنت عندما تقول: حسبنا الله أنت تستحضر هذا المعنى، معنى هذا الاسم، وهو كفايته جلَّ في علاه، ووقايته، وصيانته، وحفظه، وتأييدُه.
فإنَّ الحَسْبَ يكونُ بكلِّ هذه المعاني، يكون بالدفعِ والكفاية، يكون بالحفظِ والوقاية؛ لذلك استحضر هذا المعنى عندما تقول: حسبي الله ونعمَ الوكيل، أو عندما تقول: حسبنا الله ونعمَ الوكيل، تذكَّر أنك تدعو الحسيب ـ سبحانه وبحمده ـ وكفى به حسيباً.
هذه الكلمة قالها إبراهيم ـ عليه السلام ـ إمام الحنفاء، أبو الأنبياء الثاني، قال ابن عباس: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}آل عمران: 173، قالها إبراهيم عندما أُلقِيَ في النار؛ وذلك أنَّ قومه لما ضاقوا بدعوته، وما جاء به من البيان، توعدوه بالعقوبة.
وكانت عقوبتهم التي هددوا بها إبراهيم ـ عليه السلام ـ أن يلقوه في النار، أن يحرِقوه في النار ـ عليه الصلاة والسلام ـ فهل كفَّ عن دعوته، وعن ما أمر به ربه من دعاء الخلقِ لعبادة الله وحده لا شريك له؟
لا؛ لكن كيف استدفعَ تهديدهم؟ وكيف وُقِيَ من وعيدهم؟ إنه قال تلك الكلمة، قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
نعم، قالها بقلبٍ ممتلئٍ يقيناً أنَّ الله كافيه، بقلبٍ واثق أنَّ الله لا يخلف الميعاد، بقلبٍ ثابت على حُسنِ ظنهِ بربه، فوقاه الله، أُلقيَ في النار، لكن ماذا كانت الثمرة والنتيجة؟ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}الأنبياء: 69.
الله أكبر، {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، النار طبيعتُها الإحراق، هل سمعتم أو رأيتم فيما تشاهدون ناراً تكون برداً وسلاماً؟
لا، إنها مُحرقة -أعاذنا الله وإياكم منها، ومن ضُرِّها- لكنَّها انقلبت إلى كونِها برداً وسلاماً في حق إبراهيم؛ لأنه استكفى بالله شرها، {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، أي: الله كافيني ما هددتموني به من إلقائي في النار، فماذا كانت النتيجة؟
كانت أن انقلبت النار المُحرقةُ {بَرْدًا وَسَلَامًا}، لكلِّ أحد؟ لا، {عَلَى إِبْرَاهِيمَ}، ولو كانت برداً وسلاماً على الناس لتعطلَ ما يرجونه من مصالح هذه النار ومنافِعها، لكنَّها كانت برداً وسلاماً على إبراهيم في هذه الحال؛ لأنه حصلَ له بها الكفاية والوقاية من شرِها وضُرِها، {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
قالها أيضاً نبينا محمد ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في ساعةٍ شديدة، وموقفٍ عصيب، في أُحِد عندما جاءه المشركون بقضهم وقضيضهم؛ لينتقموا من وقعةِ بدر، جاؤوا بعدد كبير، وعُدَّة، فكانَ ما كانَ من التِحام الصفوف، واشتباك السيوف، وظهور المسلمين في أولِ الأمر، حتى جرى ما جرى من مخالفةِ أمر الله، فَوَقَعْة المقتلة في أصحابِ رسول الله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حتى قُتل منهم سبعون، وأصيب النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فكسرت رباعيته، وشُجَّ رأسه، وأدميت وجنته بأبي هو وأمي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ
وبلغ الأذى بهم بأصحابي النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مبلغاً عظيماً، ثمَّ انصرفَ المشركون، وقد أصاب المسلمين من هذه الوَقْعَة ما أصابهم، فجاءَ من يخوِّف أهل الإسلام، فقال لهم تلك الكلمة: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}آل عمران: 173، جمعوا لكم يريدون استئصال شأفتكم، والانقضاضَ عليكم؛ لئلا يبقى أحد، فماذا كان؟
قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وأصحابه: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، الله كافينا، انقطعت الأسباب، وبَذَلْنا كل ما نستطيعه من طاقة وقدرة وإمكانية في استدفاعِ ضرِّهم، والكفاية من شرِّهم، وليس معنا بعدَ ذلك قدرة إلا أن نلتجئ إلى الله ـ عزَّ وجل ـ فقالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} آل عمران: 173-174، لم يمسسهم سوء قليل ولا كثير، ظاهر ولا باطن.
كلُّ ذلكَ بكفاية الله ـ عزَّ وجل ـ فهو ـ سبحانه ـ الحسيب، نعم إنه الحسيب ـ جلَّ في علاه ـ يكفي من استكفاه، ويقي من التجأ إليه، واستعصمَ به سبحانه وبحمده.
إنه الحسيب ـ سبحانه وبحمده ـ الذي به تحصلُ الوقاية من كلِّ شر، لا تظن أنَّ الشرور التي تتقيها، أو الأمور التي ترجوها تحصل لكَ دونَ حفظه، وكفايته، وإعانته، وإمداده، وإعداده، وتيسيره، وتبليغه ـ جلَّ في علاه ـ للأسبابِ غاياتها ومنتهاها؛ بل كلُ ذلك بأمره ـ سبحانه وبحمده ـ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
لذلك املاء قلبك يقيناً بأنَّ الله هو الحسيب، وأنه لولا كفايته لما أدركتَ طِلْبتك، ولما فُزتَ برغبتك، ولما حصلتَ ما تريد.
كثيراً من الناس عندما تكون عنده الأموال يظن أنها ستكفيه، وعندما يحضر الطعام يظن أنه سيحصل له به ما يريد، وذلك في غفلتهم عمَّا وراءَ هذه الظواهر من حقائق، فإنَّ الله ـ تعالى ـ هو الكافي، فمن لم يَكْفِه الله ـ تعالى ـ ليس له كافي؛ ولذلك كان النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بعد الطعام يقول: «الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وآوانا، وكفانا»صحيح مسلم (2715)، فكم ممن لا مؤوي له ولا كافي له؟
إذاً استحضار المؤمن كفاية الله ـ عزَّ وجل ـ بهذه الأرزاق، وبهذا العطاء، وبهذه الأسباب؛ مما يُبلُّغكَ مقصودك، ويوقفك على الحقيقة، أنَّ كلَ كفاية إنما هي بالله، وليس لهذه الأسباب فعلٌ لو لم يقدِّره الله ـ تعالى ـ فلا تعلِّق قلبك إلا به جلَّ في علاه.
إذاً من معاني الحسيب: أنه ـ سبحانه وتعالى ـ يكفيك، من معاني الحسيب: أنه ـ سبحانه وتعالى ـ يجازيك على عملك؛ ولذلكَ كن على وَاعْيٍ بهذه الأمور تكن على إدراكٍ بخيرٍ كثير، وتقف على حقائق الأمور.
إنَّ المؤمن يدعو الله ـ تعالى ـ بهذا الاسم، عندما يستحضر كفاية الله ـ عزَّ وجل ـ في مثلِ قوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، ويدعوه ـ جلَّ وعلا ـ في مثل قوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} عندما قال الصحابة ما قالوا في غزوة أُحد.
وقد قص النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خبر امرأةٍ أصابها ضيمٌ، واتُهمت بزورٍ وشر، فما كان منها إلا أن قالت: «حسبي الله»، فبلغت منزلةً عظمى، كما قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فيما رواه أبو هريرة: «بينما امرأةٌ ترضعُ ابنها، إذ مرَّ بها راكبٌ، فقالت وهي ترضعه: اللهم لا تُمت ابني حتى يكون مثل هذا»، هي تمنت أن يكون ابنها على هذا النحو من القوةِ، والظهور، والكفاية، كحال هذا الفرس، فأنطقَ الله الرضيع، فقال: «اللهم لا تجعلني مثله».
وهذا من الآيات والمعجزات، أنطقَ الله الرضيع بأن يقول مستدركاً على أُمِّه: «اللهم لا تجعلني مثله».
أيضاً مرَّت هذه المرأة والتي تحملُ رضيعها بامرأة، يقولون: إنها سرقت، إنها زنت، إنها فعلت، فقالت: «اللهم لا تجعل ابني مثل هذه»، أي: في مثل هذه الحال، ومثل هذه في أفعالها، فأنطق الله ـ تعالى ـ الرضيع، فقال: «اللهم اجعلني مثلها»، فقالَ في بيانِ ذلك: ما السبب؟ لماذا قالت في الراكب كذا؟ وقالت في المرأة التي تُتَّهم كذا؟
قال في بيان السبب: «أمَّا الراكب فكان كافراً، وأمَّا المرأة فكان يقال لها: تزني، فتقول: حسبي الله، ويقولون لها: تسرق، فتقول: حسبي الله»، فكان قد بلَّغها الله منزلةً أن أنطقَ الرضيع ليقول: «اللهم اجعلني مثلها»صحيح البخاري (3466)، وصحيح مسلم (2550).
فمن استكفى بالله كفاه، وهذا من دعاء الله ـ عزَّ وجل ـ باسمه الحسيب، فإذا أضامكُم كيدٌ، أو تسلَّطَ عليكم مُتسلِّط فقولوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}؛ ستجدون كفايةً، وحفظاً، وتاييداً، ونصرًا.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميد مجيد، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.