الحمد لله الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجيرُ ولا يُجارُ عليه، أحمده حقَّ حمده، هو العظيمُ المجيد، أحمده حقَّ حمده، له الحمدُ كُلُّه، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، ربُّ العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك ربنا على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، أمَّا بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
اللهُ تعالى في كتابه الحكيم يقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطلاق: 3 ، أي: الله كافيه، وعدَ الله كلَّ مَن توكلَ عليه، وصدق في الاعتماد عليه، واللجأ إليه أن يكفيه ـ سبحانه وبحمده ـ وهذا من معاني اسمه الحسيب سبحانه وبحمده.
إذا امتلأ القلبُ يقيناً بأنَّ الله حسيب، وأنه ـ جلَّ في علاه ـ على كلِّ شيءٍ رقيباً كان ذلك منعكساً على القلب وعلى الجوارح بآثارٍ طيبة، وثمارٍ زكيِّة، فإنَّ من اعتقد أنَّ الله حسيب لم يطلب الكفاية من غيره؛ بل لجأ إليه ـ جلَّ في علاه ـ وعَلم أنه لن يغنيه عنه شيء، وأنه لا ملجأ منه إلا إليه، وأنه لا وزر إلا بالفرار إليه، {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}الذاريات: 50 .
كلُّ أحد يُهرَب منه إلا الله ـ جلَّ في علاه ـ مما يُخاف من أصحاب الجلال والقوة إلا الله فإنه يُهربُ إليه، ويُفَروا إليه ـ جلَّ في علاه ـ ففروا إليه سبحانه وبحمده.
مَن يتوكل على الله يجد الكفاية، والكفاية من معاني الحسيب؛ ولذلك من استكفى بالله كفاه، كما جاءَ في المسند والسنن: أنَّ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال فيما رواه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ: «مَن استكفى الله كفاه»سنن النسائي (2595) أي: مَن طلب الكفاية من الله كفاه، وهذا معنى قوله ـ جلَّ وعلا ـ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الطلاق: 3 .
وقد جرى ذلك لنبينا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عندما قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}آل عمران: 173 ؛ لأنهم يأوون إلى ركنٍ شديد، يأوون إلى الله ـ جلَّ في علاه ـ فماذا قالوا؟ قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ }آل عمران: 173-174 .
كلُّ مَن لجأ إلى الله فقد لجأ إلى مالك الملك، الذي يجيرُ ولا يُجارُ عليه ـ سبحانه وبحمده ـ لكنَّ لا بدَّ من الصدق في اللجأ إليه، والاستكفاء به؛ ليُحصِّل الإنسانُ الكفاية، فما خاب مَن لجأ إلى المَلك، ما خاب مَن اعتصم بالله واستجار به سبحانه وبحمده.
إنَّ من آثار هذا المعنى –معنى الحسيب- أنَّ يحب العبد الله من كلِّ قلبه؛ لأنه يعلم أنه لا يكفيه الشرور، ولا يقيه الأضرار، ولا يبلِّغهُ المقاصد والغايات إلا الله ـ جلَّ في علاه ـ فهو الحسيب، هو الكافي ـ جلَّ في علاه ـ في كلِّ شأنٍ خاصٍ أو عام، دقيقٍ أو جليل.
فالكفاية ليست فقط في الاستدفاع عن الأعداء والخصوم، ومن يريد بكَ شراً؛ بل حتى في إدراك المطالب، هو كافيك في إدراك أهدافك، هو كافيك في بلوغ مقاصدك، هو كافيك في تحصيل أمانيك، هو كافيك في سعادة دنياك، هو كافيك في فوز أخراك، هو كافيك في كلِّ أمانيك وآمالك، فمن لم يكفه الله، والله لا يدركُ شيئاً، فنحن بالله كائنون وإليه صائرون.
لذلك يجب على المؤمن أن يحيط بهذا المعنى؛ ليَعلمَ عظيمَ نعمة الله عليه فيأسره ذلك، فيحبهُ جلَّ في علاه محبةً خالصة، محبةً صادقة، فالقلوب مأسورة لمن أحسن إليها، فكيف بمن لا ننفكُّ من إحسانِ لحظةٍ من الزمان؟ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}النحل: 3 .
كلُّ نعمة مع كلِّ نَفَس، كلُّ نعمة مع كلِّ لحظ، كلُّ نعمة مع كلِّ نبضِ عرق؛ هي من الله ـ جلَّ في علاه ـ هو الذي كفاك، وهو الذي أوصلها إليك، وهو الذي بلَّغك إياها، ولو لم يكن منه كفاية لما حصَّلت ذلك، أفلا يستحق أن يحب جلَّ في علاه؟ بلى والله.
مَن علِمَ أنَّ الله كافيه لم يلتفت إلى سواه، وما يأخذه من الأسباب، وما يقومُ به من المقدمات التي تأتي بعدها النتائج؛ إنما يقومُ بذلك طاعةً لله، وثقةً بأنَّ الله سيوصِلوه إلى غايته لما أطاعَ أمرَه بأخذِ الأسباب، فما من شيء إلا وله سبب، فمن أتى بالسبب أدركَ النتيجة، إذا وثِقَ بالله ـ عزَّ وجل ـ وقد يدركُ النتيجة حتى ولو كان غافلاً؛ لكن غفلته لا تغيِّبُ حقيقةً أكيدة: أنَّ الأسباب لا تأتي بالنتائج إلا بالله.
فلو شاءَ الله ـ تعالى ـ لما كانَ ما أمَّلت، ولما كانَ ما طلبت، ما شاء كان، ومن لم يشأ لم يكن ـ سبحانه وبحمده ـ تأكل الطعام فيحصل لك الشبع، ولو شاء الله لأكلت ولم تشبع، تشربُ الماء فيحصل لكَ الرِّي، والكفاية من العطش، ولو شاء الله ما رويت، تُباشر ما تُباشر من الأعمال لإدراك ما تُؤمِّل من النتائج، ولو شاء الله لما كانَ ذلكَ الذي تريد، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}يس: 82 .
لكن من حكمته ورحمته أن أقام هذا الكون على سنن وقواعد، مَن أبصرها أدرك النتائج؛ لكن من غَرِقَ فيها، وظنَّ أنها هي المؤثرة بذاتها دون إرادةِ الله عزَّ وجل، ودونَ تقديره، ودونَ مشيئته؛ انعزل قلبُه عن مُسبب الأسباب، فحار وضاق، وتعلَّقَ بمخلوقات لا تنفع ولا تضر.
اعلم أنَّ وراء كلِّ سببٍ مُسبِّب، وهو الله ـ جلَّ في علاه ـ وأنَّ وراءَ كلِّ حاجةٍ مَن إذا شاءَ يسرَها، ومن إذا شاء عطلها، فيمتلئُ قلبُكَ اعتماداً عليه، والتفاتاً عن غيره، وما تأخذه من الأسباب إنما هو طاعة له، ولأنَّ الله أقامَ نظام الكون على سنن لا يختل، فأنت تسير في هذا الكون وفقَ ما أراد مكوِّنُه؛ لكن لا تغفل عنه، ولا تلتفت إلى سواه، ولا تلجأ إلى غيره، هذا من آثار الإيمان بأنَّ الله حسيب جلَّ في علاه.
المؤمن إذا امتلأ قلبه بأنَّ الله حسيب، فإنه سينصرف تماماً عن السوء والشر؛ لأنه يعلم أنَّ دقيق الأمرِ وجليله في بصره وسمعه ورقابته، فهو المُطَّلع على كلِّ شيء، وهو المحاسب على ذلك.
يجمع الله ـ تعالى ـ الخلقَ يوم القيامة، ويقيمُ الوزن القسط في ذلك اليوم، كما قال ـ تعالى ـ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ}، مَن الذي أحصى هذه الحبة الدقيقة الصغيرة الخفيَّة؟ الله؛ ولذلك يقول: {أَتَيْنَا بِهَا}، وإن كانت أينما كانت، {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}الأنبياء: 47 ، {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}الأنعام: 62 .
لذلك هذا المعنى من معاني الحسيب يقدح في النفس الانتباه واليقظة، وأنه في علمِ الله، وبصره وسمعه، ورقابته ومحاسبته، فلا يغفل عنه.
كان الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ يُكثر من تكرار هذه الأبيات التي ترتبط باسمه الحسيب:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل......خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ
إذا خلوت بريبة، إذا خلوت بسيئة فلا تقل غابت الأنظار، وغاب المُشاهد، فافعل ما شئت؛ بل هناك مَن يراك، يعلمُ سِرَّكَ وإعلانك، يرى لحظَكَ وما يكونُ منك، يرى قلبَك وعملَك.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل......خلوت ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ الله يغفلُ ساعةً......ولا أنَّ ما تُخفيه عنه يغيبُ
ألم ترى أنَّ اليومَ أسرعُ ذاهبٍ......وأنَّ غداً للناظرينَ قريبُ
بلى والله، فكن على وَجَلٍ من الغد، ولا تقل: غاب الرقيب، ولا تكن كما قال الله ـ تعالى ـ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْل}النساء: 108 .
فذاكَ دأبُ المنافقين وشأنهم، والله تعالى يقول: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ}فصلت: 22-23 ، هذا الظن السيء أنَّ الله غافل، أنَّ الله لا يرقب، أنَّ الله ليس بحسيب، {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}فصلت: 23 .
أيها الأخوة والأخوات، هذه بعض المعاني والآثار للإيمان بأنَّ الله تعالى حسيب، فكونوا على رقابةٍ في أقوالكم وأعمالكم، واعلموا أنَّ هذا مما يندرج في قوله ـ تعالى ـ: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}الأعراف: 180 .
أسأل الله ـ تعالى ـ أن يرزقني وإياكم اليقظة، وأن يحفظنا في السر والعلَن، وأن يُعيننا على طاعته في الغيب والشهادة، وأن يرزقنا خشيته بين الناس وفي الخلوات، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.