الحلقة السادسة عشر
(( {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} )) [العنكبوت: 26].
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، لهُ الحمدُ كله، أولهُ وآخره، ظاهرهُ وباطنه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
في هذه الحلقةُ -إن شاء اللهُ تعالى- نقفُ مع آيةٍ باهرة، ومُعجزةٍ بيِّنة، جرت لإبراهيمَ عليه السلام، تدلُّ على تأييدِ اللهِ تعالى لأوليائه، وتصديقهِ لهم، وتدلُّ على عظيمِ ما كانَ عليه قومهُ من التكذيبِ، والجحودِ، والكُفر.
أقامَ إبراهيم عليه السلام الحجة على قومه بمناظَرَتهم، بيَّنَ لهمُ الهدى والحق، رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، ثم ما لبثوا أن نكسوا على رؤوسهم، فرجعوا إلى ما كانوا عليه من الضلالِ والانحراف، رجعوا إلى عبادةِ غيرِ اللهِ عزَّ وجل؛ بل توعَدوا إبراهيمَ عليه السلام بالعذابِ الأليم، والعقابِ الشديد، {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97].
إنهم تواصوا فيما بينهم أن يبنوا بُنياناً ليحرقوا إبراهيم عليه السلام؛ عقوبةً لهُ على ما أظهرَ من الحق، وعلى ما أصابَ به آلهتهُم من الذُلِّ والهوان، فتواصوا على هذا، وجمعوا ما جمعوا من القدرةِ لإشادة هذا البنيان، بنوهُ، وقذفوهُ فيه، {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68].
فشرعوا يجمعونَ الحطبَ من جميعِ ما يمكنُهم من الأماكن؛ ليلقوا إبراهيمَ في هذا البناء، ليحرِقوه، فاضرموا ناراً عظيمة، واشتعلتِ النيرانُ واشتدت، حتى إنهم لم يستطيعوا أن يقتربوا منها لشدةِ واهجِها، وعظيمِ حرارتها؛ فصنعوامنجنيقاً ليرموا به إبراهيم عليه السلام في جوفِ تلكَ النار، رموهُ عليه السلام، فما كانَ منهُ إلا أن قال: حسبنا الله ونعمَ الوكيل، أي: اللهُ كافيني، وهو وكيلي في تحقيقِ رغبتي، وفي حصولِ أمني.
لمَّا أُلقيَ إبراهيمُ عليه السلام في تلكَ النار العظيمة شديدةِ الإحراق لم يجد من مسِّها شيئاً؛ بل كانت كما قال اللهُ تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
إنها آيةٌ عُظمى، دالةٌ على صدقِ إبراهيم، وعلى نصرِ اللهِ له، وعلى تأييده، وعلى رعايتهِ وعنايته، وعلى كفايتهِ وحفظه؛ فإنَّ النارَ التي بطبيعتها الإحراق لم تمسَّ إبراهيم عليه السلام بسوء؛ بل كانت برداً وسلاما، لم يكن ذلكَ لضعفها، ولم يكن ذلكَ لسببٍ خارج من مطرٍ نازل، أو غيرِ ذلكَ مما يمكنُ أن يندَفِعَ به شرُّ النارِ وضُرِّها؛ بل كانَ ذلكَ من النارِ نفسها، التي جبَلَها اللهُ تعالى على الإحراق كانت برداً وسلاماً على إبراهيم.
وفي هذا آيةٌ عُظمى، هذا بُرهانٌ بيِّن، هذا دليلٌ على صدقِ ما دعاهم إليه إبراهيمُ عليه السلام، فإنه أقامَ عليهم الحُجَّة، وحطَّمَ آلهتهم، وقطعَ معذرتهم، ثم جاءتَ هذه الآية فوقَ كلِّ ذلك لتُصدِّقهُ، إلا أنَّ قلوبهم قد عميت، فلم يستجيبوا لهُ عليه السلام، ولم يقبلوا ما جاءَ به.
أيها الأخوة والأخوات، لمَّا خبت السعير كانَ قومه قد ظنُّوا أنَّ إبراهيمَ قد تفَحَّم واحترق في تلكَ النارِ العظيمةَ، واللهيب الشديد، إلا أنهم تفاجؤوا بعدَ انطفاء تلكَ النار وانقشاعِ دُخانِها أنَّ إبراهيم عليه السلام خرجَ منها سليماً مُعافى، لم يصيبهُ أذى، تعجبوا لأمره، واستغربوا من نجاته، وكانَ ذلكَ من دلائلِ صدقه {يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، فتحققَ فيهم ما قالهُ ربِّ العالمين، قال: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء: 70]، وفي الآيةِ الأخرى قال: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 98].
إنَّ هذه الحادثة كانت نهايةُ المطافِ في دعوةِ إبراهيم لهؤلاءِ الذينَ كذَّبوه وعاندوه، فقد أقامَ عليهم الحجة، وأعذرَ في بيانِ المحجة، إلا أنهم أصروا واستكبروا واستداموا على ما هم عليه من كُفرٍ وعناد، فاعتزلَهم وهجرهم، وقال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99].
أيها الأخوة والأخوات، قبل أن نمضي في سياقِ قصةِ إبراهيم عليه السلام وما جرى لهُ بعدَ أن كذَّبَهُ قومه نقفُ مع قصةِ إبراهيم مع النمرود.
النمرود: كان حاكماً، عظيم الملك، واسعَ السلطان، وكانَ جباراً طاغياً، قيل: أنه لم يسمع بخبرِ إبراهيمَ عليه السلام إلا بعدَ أن أحرقهُ قومه، وأنجاهُ اللهُ تعالى بهذه الآيةِ الباهرة، التي قالَ فيها جلَّ وعلا: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69].
وقيل: بل سمِعَ بذلك، وكانَ ممن شاركَ في إحراقِ إبراهيم، ومهما يكن من أمر فإنَّ لهُ خبراً ذكرَهُ اللهُ تعالى في كتابه.
النمرود ملِكٌ أتاهُ اللهُ تعالى سلطةً وقدرةً ومُلكاً واسعاً على الأرض، فاغترَّ بما أتاهُ اللهُ تعالى من الملك، فحاج إبراهيم ربه، حاجَّهُ بمحاجَّةٍ قصَّها اللهُ تعالى في سورةِ البقرة.
دعا النمرودُ إبراهيم عليه السلام، فأنكرَ على إبراهيم ما سمِعَ عنه مع أنه يدعو إلى عبادةِ الله وحده، وقال النمرودُ لإبراهيم: أخبرني عن الإله الذي تعبُدُهُ، وتدعو إليه، فقال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ}، وبيَّنَ لهُ أنه خالقُ كُلِّ شيء، وأقامَ عليه الحُجَّةَ في ذلك.
فقالَ النمرود الجبارُ المستكبر: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت} [البقرة: 258]، أي: أنا أحيِ مَن أشاءُ بالعفوي عنه بعدَ أن يكونَ قد استحقَ القتل، وأنعمُ عليه بالحياة، وأميتُ من أشاءُ بأمري، واقضِ عليهِ بحكمي.
وقد أقامَ لذلكَ برهاناً، فأخذ رجلانِ قد استوجبا القتل، فقتلَ أحدهما، وعفا عن الآخر، ظنَّ النمرودُ بمقالتهِ هذه أنهُ على صواب، وأنَّ إله إبراهيم الذي يعبد لا يختصُ بهذه الصفة؛ بل هي صفةٌ لهُ كما هي صفةٌ لإلهِ إبراهيم.
إبراهيم لم يقف عندَ هذا الدليل الذي يظهرُ لكلِّ ذي عقلٍ أنه مفارقٌ لما أرادهُ إبراهيم عليه السلام، فإنَّ اللهَ تعالى خالق كل شيء، موجِدٌ من العدم سبحانه، كما قالَ تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1].
أمَّا أن يقتل أحداً، ويحيي أحداً فذاكَ ليس خلقاً ولا إجادً؛ إنما ذاكَ استبقاءٌ لما أوجدَهُ اللهُ تعالى، وهو إنفاذٌ لما قضاهُ اللهُ وقدَّرهُ جلَّ وعلا.
طوى إبراهيم هذه الحجة ليقطع استكبار هذا المستكبر، فقالَ كما قصَّ اللهُ تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: 258]، أي: إنَّ اللهَ تعالى يأتي بهذه الشمسِ العظيمة من المشرق، فهيَ تطلعُ كُلَّ يومٍ من المشرق، سخرها اللهُ تعالى على هذا النحو، هو خالِقها وخالقُ كل شيء، وإن كنت إلهاً ورباً فأتي بهذه الشمس من المغرب، فإنَّ الذي يحيِ ويميت هو الذي يفعلُ ما يشاء، لا يُمانعُ ولا يُغالبُ جلَّ في علاه.
قال اللهُ سبحانه وبحمده في خبرِ تلكَ المناظرة التي جرت بينَ إبراهيم وهذا المَلكِ الجبَّار: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}، أي: انقطعَت مجادلته، وتبيَّنَ ضلاله، وسجلَ اللهُ تعالى الحكمَ بالكُفرِ، حيثُ قال: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}، ولظلمهِ وعلوهِ واستكباره لم يكن من المهتدين {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، كما قالَ جلَّ وعلا: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146]، {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25].
أيها الأخوة والأخوات، بعدَ كُلِّ هذه الحجَجِ والبيِّنات لم يستجب قومُ إبراهيم لدعوته؛ بل أصروا على الكُفرِ والضلال، على الشركِ والانحراف، لم يؤمن به إلا نفرٌ قليل.
فما كانَ من إبراهيمَ عليه السلام إلا أن أزمع على الرحيل، فقالَ كما قالَ اللهُ تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، نعم، إنه ذاهبٌ إلى ربه، إنه ذاهبٌ إلى من يُعبد، إنه ذاهبٌ إلى اللهِ الذي تكفلَ بهدايته.
وقد بيَّنَ اللهُ تعالى هذا الذهاب فقالَ كما قصَّ عن إبراهيم: {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26]، هاجرَ خليلُ الله إبراهيم عليه السلام مع زوجتهِ سارة، وابن أخيه لوط، وهؤلاءِ هم الذينَ آمنوا بدعوته، واتبعوا ما جاءَ به، وقد نجَّاهم اللهُ تعالى معه، كما قالَ تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 71].
ثم إنَّ إبراهيمَ عليه السلام جال في الأرض بأمرِ اللهِ عزَّ وجل، وكان مما جرى لهُ في تلكَ الرحلة: أنَّ ملِكاً جباراً كافراً متسلطاً كانَ إذا دخلَ إلى بلدته وأرضهِ امرأةٌ جميلة أخذها إليهِ ليفجُرَ بها، فلمَّا دخلَ إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة إلى أرضِ ذلكَ الملك -وكانت سارةُ من أجملِ النساء- بلغَ ذلكَ الملك جمالُ سارةَ عليها السلام، فطلبها، ففطنَ إبراهيمُ عليه السلام إلى مقصدِهِ الخبيث، وما يريده من الفسادِ والشر، وعلِمَ أنه إن أخبَرهُ بأنها زوجته فتكَ به وقتله.
ولذلك لمَّا سألَ ذلكَ الملك إبراهيمَ عن سارة؟ قال: إنها أختي، وأرادَ أنها أختهُ من الإسلام، فظنُّ الملكُ الجبَّار أنها غيرُ متزوجة، فطلبَ منهُ أن يُحضِرها إلى قصره.
ذهبَ إبراهيمُ مهموماً إلى زوجته سارة، وأخبرها بما جرى مع هذا الملكِ الجبَّار، وقال لها يا سارة: ليس على وجه الأرض زوجانِ مؤمنانِ غيري وغيرك، وإنَّ هذا سألني، فأخبرتهُ أنك أختي، فلا تكذبني.
دخلت سارةُ على ذلك الملك، وأرادَ بها سوءاً، إلا أنه دخلت سارةُ على ذلك الملكِ الجبَّار بعد أن قامت وتوضأت، ودعتِ اللهِ تعالى أن يصرف عنها شرهُ وأذاه.
فلمَّا رآها هذا الملك أُعجِبَ بها، ومدَّ يدهُ إليها ليتناولها بيده، لكنَّهُ أُخِذَ، ويبست يده، فقالَ لها: ادعِ الله لي ولا أضرُّك، فدعتِ اللهَ تباركَ وتعالى، وانفكت يدهُ بعدَ يُبسِها، وعادت إلى طبيعتها.
لكنَّ هذا الخبيث لم يقتصر على ذلك، ولم يفِ بوعده؛ بل مدَّ يدهُ ثانيةً لسارة ليتناولها، فعادت يدهُ كما كانت يابسةً، فقال لها: ادعِ الله ولا أضرك، فدعت سارة اللهَ عزَّ وجل، فأطلقَ يده.
فلمَّا رأى الخبيث أنهُ لا سبيلَ لهُ عليها ردها إلى إبراهيم، ودعا بعضَ حَجَبته، فقال لهم: إنكم لم تأتوني بإنسان؛ إنما أتيتُموني بجنِّية.
ووهبَ لسارةَ هاجر، وأخدَمها إيَّاها، فأقبلت سارة عليها السلام بهاجر إلى زوجها إبراهيم عليه السلام وهو قائمٌ يصلي، ثم لمَّا سألها إبراهيم عمَّا جرى قالت له: كفى اللهُ كيدَ الكافرين، وأخدمني هاجر.
وقد ذكرَ هذه القصة البخاري ومسلم، وغيرهما من أئمةِ الحديث، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.