الحلقة السابعة عشر
(( {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} )) [الصافات: 101].
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حقَّ حمده، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
لمَّا هاجرَ إبراهيمُ عليه السلام وانتقلَ مع زوجتهِ إلى فلسطين استقرَّ بها، وكانَ ما كان من خبرِ ذلكَ المَلكِ الظالم الذي أرادَ سارةَ بسوءٍ، فحالَ بينهُ وبينها أمرُ اللهِ عزَّ وجل، وهبَ ذلكَ الملكُ سارة هاجر، فكانت مملوكةً لها تخدِمُها، وتخدِمُ إبراهيمَ عليه السلام.
مكثَ إبراهيمُ عُمُراً مديداً دونَ أن يرزقهُ اللهُ تعالى ولداً من سارة، وقد سألَ اللهَ تعالى أن يرزقهُ ولداً، كما قصَّ اللهُ تعالى عنه في خبَرِ خروجهِ من قومه: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 99-100]، جاءته البشرى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101].
اللهُ جلَّ وعلا يسوقُ الأقدارَ إلى آجالِها، وهبت سارةُ إبراهيمَ عليه السلام هاجر، فجاءهُ منها ما بشَّرهُ اللهُ تعالى به في قوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}، جاءهُ إسماعيلُ عليه السلام، الذي هو جدُّ نبينا محمدٍ صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وسلم، فَرِحَ إبراهيمُ بهذا المولود الجديد، كما فرحت به سارة، وفرحت سارةُ بفرحِ إبراهيمَ عليه السلام.
وأمرَ اللهُ تعالى إبراهيم بأن ينتقلَ بابنهِ إسماعيل إلى موضعِ البيتِ الحرام، فلمَّا بلغَ إبراهيمُ مع ابنه إسماعيل وأمهِ هاجر مكةَ، حيثُ أمرَهُ اللهُ تعالى أن يذهب، فأسكنَ إبراهيمُ عليه السلام هاجرَ وإسماعيل تلكَ البقعة، عندَ دوحةٍ كبيرة، فوقَ زمزم، في أعلى المسجد.
ليسَ في ذلكَ المكان سوى هاجر وابنها، وليس بمكةَ يومئذٍ أحد، لا بنيان، ولا عمران، لا ماء، ولا كلأ، لا سُكان، لا عمار، تركهما في تلكَ الأرضِ القفر، في الوادي الذي ليسَ فيه أحد، وتركَ لهما شيئاً من التمر، وشيئاً من الماء، ثم انصرفَ عائداً إلى فلسطين، وقفَّى راجعاً.
ولمَّا قفَّى راجعاً لحقتهُ هاجر، وقد عجبت من صنعه، كيف يترُكها وابنها في هذا المكانِ الخالي، في هذا المكانِ الموحش، في هذا المكانِ القفر؟ وهي تقولُ لهُ: يا إبراهيم، أينَ تتركُنا في هذا المكان الذي ليسَ في أنيسٌ ولا سمير؟ وجعلت تقولُ لهُ ذلكَ مراراً، وكان لا يلتفتُ إليها عليه السلام، تركها وابنها موقناً بوعدِ ربه، ممتثلاً لأمره.
فقالت لهُ -وهي تستفسر عن سببِ هذا الفعل-: آلله أمركَ بهذا؟ أي: هل الله عزَّ وجل هو الذي أمركَ بأن تُنزلنا، وأن تُسكِننا في هذا الوادي الذي ليس فيهِ أنسٌ، ولا شجرٌ، ولا حياة؟
قال: نعم.
فقالت -وقد امتلأ قلبُها يقيناً بأنَّ اللهَ لن يُضيِّعها، قالت-: إذاً لن يُضيِّعُنا، ثم رجعت إلى ابنها، وتركت إبراهيمَ في طريقه ممتثِلاً أمر ربه.
وتأمَّل كيف يتركُ رجلٌ كانَ يطمعُ أن يأتيهُ ولد، وقد جاءهُ الولد على كِبَرِ سن، كيف يتركهُ في هذه المهلكة، إلا أنهُ إبتلاءُ الله لإبراهيم، وإبتلاءهُ لهاجر؛ ليُمضيَ بذلكَ ما قضاهُ وقدَّره من علوِّ إبراهيم وسموه، وعمارةِ هذا البيتِ الحرام.
ابتعدَ إبراهيمُ عن ولدهِ وأمه، فالتفتَ جهةَ البيتِ، ووقفَ يدعو اللهَ تعالى، ويقول: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]، كم في هذا الدعاء من المعاني؟
إنَّ إبراهيمَ عليه السلام توسلَ إلى اللهِ عزَّ وجل بأمرين:
الأمر الأول: أنه أطاعهُ فيما أمرَه، فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}.
وأمَّا الأمر الثاني الذي توسل إلى الله تعالى به: {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ}.
وأمَّا المطلوب: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}.
فحققَ اللهُ تعالى ذلكَ لإبراهيمَ عليه السلام، فعمَرت تلكَ البقعة، وكانت على مرِّ العصور مهوى أفئدةِ الناس، كما قالَ تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
رجعت هاجرُ إلى ابنها، فأرضعته، وأكلت ما باقيَ من طعام، فلمَّا انقضى الماءُ، وأحَسَّت بحاجة ولدِها، وحاجتها إلى الماء؛ التفت تبحثُ عن ماءٍ في مكانها الذي هي فيه، فلم تجد شيئاً.
جعلَ الولدُ يبكي ويلتوي من شدة العطش، فجعلت تنظرُ إليه، وانطلقت مُبعِدةً عنه؛ كراهيةَ أن تنظُرَ إليه وهو في هذه الحالة من شدةِ الجوعِ والعطش.
فاستقبلت الوادي، وصارت تسعى سعي المجهود بين جبلين: جبل الصفا وجبل المروة، كانت ترقى على الصفا تطلبُ شيئاً، تبحثُ عمن يسقيها، عمن يغيثها، عمن يأتي لها بشيءٍ من الماءِ والطعام؛ لتسُدَّ حاجة ولِدِها، فإذا لم ترَ شيئاً، نزلت في ذلكَ الوادي على وجهٍ من الإسراعِ والسعي حتى تعلو على جبلِ المروة، فعلت ذلكَ سبعَ مرات.
فلمَّا أشرفت على المروةِ في المرةِ السابعة سمعت صوتاً، فقالت: أغثنا إن كانَ عندكَ غِواثٌ، فرأت ملَكاً -وهو جبريل عليه السلام- يضرِبُ بقدمه الأرض حتى ظهرَ الماءُ السلسبيلُ العذب، وهو ماءُ زمزم، فجعلت أمُّ إسماعيل تحوطُ الماء، وتغرِف منهُ بسقائها وهو يفور، وجعلَ جبريلُ يقول لها: لا تخافي الضياع؛ فإنَّ للهِ هنا بيتاً، وأشارَ إلى أكمةٍ مرتفعة من الأرض يَبْنِيه هذا الغلامُ وأبوه.
وفي هذا بشارة بالنجاةِ والسلامة، وأنَّ هذا الغلام سيطولُ عُمُرُه، وسيكونُ لهُ شأنٌ في المستقبل، شربت هاجر من ماءِ زمزم، وارتوت، وأرضعت ولدها، شاكرةً ربها على ما يسَّرَ من الماء.
ثم بدأت الحياة في تلكَ البقعة التي كانت قفراً، فطفقت الطيور ترِدُ ذلكَ الماء، وتحومُ حوله، ومرَّت بالمكانِ قبيلةُ جرهم العربية، فرأوا الطيورَ حائمةً حول ذلك الماء؛ فاستدلوا بذلكَ على وجود الماء، فوصلوا إلى زمزم، واستأذنوا من أمِّ إسماعيل أن يضربُوا خيامهم حولَ ذلكَ المكان قريباً منه، فأذنت لهم، واستأنست بوجودهم حولها.
ثم أخذَ العمران يتكاثر ببركة هذا الماء المبارك، الذي خلقهُ اللهُ تعالى في ذلكَ المكان، من هذه البقعةِ المباركةِ المطهرَّة المشرَّفة.
شبَّ إسماعيلُ عليه السلام في تلكَ القبيلة، وتكلم بلسانهم، ولمَّا أعجبهم سيرتهُ وخُلُقه زوَّجُوهُ امرأةً منهم، وأصبحت مكةُ مأهولة بالسكان منذ ذلكَ الحين، وبه حققَ اللهُ تعالى دعوةَ إبراهيم عليه السلام.
مكثَ إبراهيمُ عليه السلام بعيداً عن إسماعيل وهاجر برهةً من الزمن، فأوحى اللهُ تعالى إلى إبراهيم أن يذهب إلى مكة، فذهبَ إليها، وقد رأى إبراهيمُ رؤيا، قصَّها اللهُ تعالى في كتابه، وهي من البلاءِ العظيم الذي جرى لإبراهيمَ وإسماعيلَ عليهما السلام، قالَ اللهُ جلَّ وعلا: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101]، وهو إسماعيل عليه السلام.
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}، هذه رؤيا حق، فالأنبياءُ لا يلتبِسوا عليهم ما يرونهُ في المنام؛ ولذلكَ كانَ ما يرونهُ في المنامِ وحياً، {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 101]: افعل ما أمركَ اللهُ تعالى به، وما أوحاهُ إليك، وستجدني إن شاءَ اللهُ صابراً، مُحتسِباً في كُلِّ ما يكونُ منك.
{فَلَمَّا أَسْلَمَا} إبراهيمُ وإسماعيل، أسلما لأمرِ الله، وانقادَ له، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103]: استعدَ وتهيأ لذبحه؛ امتثالاً لأمر ربه، {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 104-105]: صدَّقتَ الرؤيا، فجئتَ ممتثِلاً أمرَ ربك بذبحِ ولدك، وهذا ما أرادهُ اللهُ تعالى منك، وسيجزيكَ اللهُ تعالى عليه أعظمَ الجزاء.
قالَ اللهُ تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]، هذا قولُ رب العالمين مُعقِّباً على ذلك الامتحانِ الشديد الذي جرى لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
{وَفَدَيْنَاهُ} أي: فدينا إسماعيل { بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} [الصافات: 107-108]، وأبقى ذريته، وكانَ من ذريته سيِّدُ ولدِ آدم، سيِّدُ الناسِ أجمعين: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
هذا بعضُ خبَرِ إبراهيمَ عليه السلام مع ابنه إسماعيل، وللحديثِ بقيِّة، وإلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الّذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.