الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حقَّ حمده، له الحمدُ كُله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثره، وسارَ على منواله، وقَفَ منهاجه بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فمرحباً وأهلاً وسهلاً بكم أيها الإخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
في هذه الحلقة نتناولُ اسماً من أسماءِ الله تعالى الحسنى، وكل أسمائه حسنى، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف: 180 {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} الإسراء: 110 ، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ: «إنَّ لله تسعةً وتسعين اسماً من أحصاها دخلَ الجنة»صحيح البخاري (2736).
ونحن في هذه الحلقة ستناولُ اسماً من هذه الأسماء العظيمة، نسأل الله أن يعيننا على فهمه وعلى إحصائه لفظاً ومعنىً، فإنَّ الفضل يتحققُ باجتماع هذين النوعين من الإحصاء: إحصاء أسماء الله لفظاً، وإحصاء أسماء الله معنى.
الاسم الذي معانا في هذه الحلقة أيها الأخوة والأخوات هو اسمُ الله ـ تعالى ـ: (الحليم)، وقد ذكره الله ـ تعالى ـ في كتابه في مواضع عديدة، تبلُغ عشرين موضِعاً، فقد ذكره الله ـ تعالى ـ في عشرين موضعاً من كلامه الحكيم، وكتابه المجيد، وغالب ما يذكره الله ـ تعالى ـ يذكره مقروناً بغيره من الأسماء، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} التغابن: 17 .
أمَّا في السنة النبوية المطهرة فقد ذكره النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في دعاء الكرب، فقد جاء في الصحيحين -البخاري ومسلم- من حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كانَ يدعو عند الكرب، فيقول: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات، وربُّ الأرضِ، وربُّ العرش العظيم»صحيح البخاري (6345)، وصحيح مسلم (2730)، فقوله ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: «العظيم الحليم» ذِكْرٌ لهذا الاسم، فهو الحليم جلَّ في علاه.
ولنعرف معنى هذا الاسم نحتاج إلى النظر في اللغة، فالحليم مأخوذٌ من الحِلْم، والحلمُ في اللغة: الأناة، ومعالجة الأمور بصبر وعلم وحكمة، وهو يُطلق في اللغة على ترك العجلة، فالحليم لا يعجل، والحليم من الخَلْقِ يضبطُ نفسه، والحِلمُ في الطِباعِ أناةٌ وعدم هيجان.
ويقال: الحلم أيضاً في اللغة خلاف الطَيْش، فالحليم لا يطيش، هذه المعاني هي معنى الحليم في اللغة.
أمَّا معناه في حقِّ الله ـ تعالى ـ فإنه لا يبعدُ عن هذه المعاني، فإنَّ الله ـ تعالى ـ حليمٌ ذو أناة، لا يعاجلُ عباده بالعقوبة، كلُّ ما يكونُ منه يكونُ برفقٍ، ويكونُ بطمأنينةٍ، ويكونُ منه ـ جلَّ وعلا ـ بصبرٍ وحكمةٍ ورحمة.
ولذلك لا يستفزه غضب ـ جلَّ في علاه ـ ولا يستخفَّه جهلُ جاهل، ولا عصيان عاصٍ، كما أنه ـ سبحانه وبحمده ـ يصفح ويتجاوز ويعفو، ولا يعاجل عباده بالعقوبة، بل حتى إذا استعجلَهُ العباد بالعقوبة فإنهم يجدون رباً حليماً ـ جلَّ في علاه ـ قال الله ـ تعالى ـ: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَه} الحج: 47 .
أي: أنَّ الله ـ تعالى ـ: لا يخلف الميعاد فيما وعدَ به المكذبين للرسل من العقوبات، لكن من رحمته أنه ـ جلَّ في علاه ـ يستأني بعباده، ويحلم عليهم، ويُملي لهم، حتى يكونَ الأخذ على بيِّنةٍ وبصيرة، وجلاءٍ ووضوح، {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} الحج: 47 .
إذاً معنى الحليم في صفات الله ـ عزَّ وجل ـ أنه ـ جلَّ في علاه ـ ذو أناةٍ، ذو صبرٍ وحكمةٍ، أنه يدبِّرُ أموره على رحمةٍ ورأفةٍ وأناةٍ بعباده، وأنه لا يعاجلُ بالعقوبة، ولا تستفزه المعاصي، ولا يَعْجلُ لاستعجال المستعجلين؛ بل قد جعل الله ـ تعالى ـ لكلِّ شيءٍ قدراً، ولكلِّ أجلٍ كتاب، فإذا حقَّ القول، وجاء الأمرُ من الله ـ عزَّ وجل ـ كانَ ما كانَ من قدره جلَّ في علاه.
المطالِعُ لهذا الاسم الكريم من أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ يُلاحظ أنه جاء مقترناً بأسماء من أسمائه الحسنى ـ سبحانه وبحمده ـ وهي أسماء مرتبطة متناسبة، فمما تكررَ اقترانُ اسم الحليم به من أسماءِ ـ عزَّ وجل ـ في كتابه ـ جلَّ وعلا ـ: الغفور، ذكر ذلك في ستةِ مواضع:
قال ـ سبحانه وبحمده ـ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}، ثم قال ـ جلَّ وعلا ـ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} الإسراء: 44 ، فقرَن الله ـ تعالى ـ هذين الاسمين: الحلم والمغفرة.
ومنه قوله ـ تعالى ـ: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} البقرة: 225 .
والملاحظ أنَّ غالب ما جاءَ في هذا الاقتران أنه يقدِّمُ ـ جلَّ وعلا ـ ذكرَ المغفرةِ على الحِلم، لكنَّه في موضعين قدَّمَ الحلم على المغفرة، والاقتران في الأصل دال على تناسب الوصفين، فإنه من حلمهِ يغفر، ومغفرته دليلُ حلمه ـ جلَّ في علاه ـ وأنه لا يعاجلُ عباده بالعقوبة.
وقد قال الله ـ تعالى ـ في بيانِ سعة حلمه على عباده رغم استحقاقهم المؤاخذة والمعاجلة بالعقوبة، قال ـ جلَّ وعلا ـ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} فاطر: 41 .
إنَّ الله يمسك ـ جلَّ في علاه ـ بقدرته وجلاله وقوته السماوات على سعتها، والأرض على عَظَمة خلقِها، {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا}، أي: أن تتحول عن مكانهما، أو أن يختلَّ نظامُهما، {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فاطر: 41 .
فينبغي للعبد أن يذكرَ حلم الله ـ تعالى ـ وعظمته التي بها انتظم هذا الكون، فإنه لولا حلمُ الله ـ تعالى ـ وأناته بعباده لعاجلَهم بالعقوبة ـ سبحانه وبحمده ـ {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} النحل: 61 ، لكنَّه ـ جلَّ وعلا ـ يرأف ويحلم ويستأني بعباده؛ لعلَّ أن يكون منهم رشدٌ، لعلَّ أن يكون منهم صلاحٌ، لعلَّ أن يكون منهم استعتاب.
فلولا رحمته وسَبْقُ هذه الرحمة لغضبه، ولولا مغفرته وسبقُها لعقوبته لا زالت الأرض، ولتدكدك هذا الكون من عظيم ما يجري فيه من فسادٍ بمعصيته، ومخالفة أمره، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} الروم: 41 .
الله ـ تعالى ـ يسوقُ لعباده الرحمات والنِّعم، يُطعم الناس على كفرِهم، ويسقيهم على كفرِهم، ويُمدُّهم بأنواعِ من المعافاةِ والأرزاق رغم ما هم عليه من جحود واستكبار؛ ذلك كُلُّه من ثمارِ رحمته، ولو أنَّ العبادَ قدروا الله حق قدره لكفوا عن العصيان، ولما جابَه هذا الإنعام، وهذه النعمة، وهذا الحلم بما يكونُ من إساءة.
الناس يفعلون أموراً {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} مريم: 90-91 ؛ لكنَّ الله ـ تعالى ـ يحلم رغمَ عظيم الجرم، وكبير المخالفة، لكنَّ الله ـ تعالى ـ يحلم.
مما يقترنُ به اسم الله ـ تعالى ـ الحليم فيما ذكر الله ـ تعالى ـ بكتابه اقترانه بالعلم، وفي هذا الاقتران دلالة عَظمة، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} الأحزاب: 51 ، وقال ـ تعالى ـ: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} الحج: 59 .
جمعَ الله ـ تعالى ـ بين هذين الاسمين؛ لدلالة اجتماعهما على كمال الله ـ عزَّ وجل ـ فحلمه ليس عن جهل؛ لأن بعض الناس قد يتصور أن الله ـ تعالى ـ لا يعاقب الناس على ظلمهم، ولا يؤاخذهم بسيء عمَلِهم؛ لأنه لا يعلم، لكن يقولُ لك ربُّكَ ـ جلَّ وعلا ـ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} الأحزاب: 51 ، وليس فقط الظواهر؛ بل ما في القلوب الذي لا يعلمُه أحد، يخفى عن الأنظار، ويتوارى عن المُشاهدات الله يعلمه.
ولكنَّ الذي يمنعه ـ جلَّ وعلا ـ أو الذي يستوجبُ الذي لا يعاقب العباد وأن لا يؤاخذُهم هو عظيم حلمه، ليس أنه لا يعلم؛ ولذلكَ يذكِّرُ الله ـ تعالى ـ المظلومين بأنَّ ما يجري من الظالمين ليس غائباً عنه؛ بل هو في سمعه وبصره، لكنَّ رحمته وحلمه تستوجبُ أن يُقيم الحجة على هؤلاء، حتى إذا أخذهم أخذهم وقد استنفدوا كلَّ الوقتَ الذي يمكن أن يستعتبوا وأن يعودوا، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} إبراهيم: 42 .
لذلك اقترنَ حلمه بعلمه، فكان ذلك دالاً على عظيم حلمه، وأنه حِلْمٌ ليس بعيداً عن كماله، وليس بعيداً عن علمه، وليس لجهله؛ بل بكمالِ علمه سبحانه وبحمده.
أيضاً من المواطن التي اقترن فيها حِلْمُه باسمٍ وصفةٍ من صفاته العظيمة الدالة على عظيم صفة الحلم اقترانه بالغنى، وسنتحدثُ عن هذا إن شاء الله تعالى في حلقةٍ قادمة، إلى أن نلقاكم في الحلقةِ القادمة من برنامجكم (فادعوه بها) استودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.