الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، ربُّ العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً، بلَّغَ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين –الموت- وهو على ذلك حتى ماتَ، وهو على هذا المنوالِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فحقه أن يُحبَ، وأن يُطاعَ، وأن يُتبع، وأن تُحفظ سنته، وأن يصلى عليه، صلوا عليه وسلموا تسليماً.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، أمَّا بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، أهلاً بكم أيها المشاهدون والمشاهدات في هذا البرنامج -برنامج: (فادعوه بها)- وفي هذه الحلقة نستكملُ الحديثَ عن اسمٍ عظيمٍ من أسماء الله تعالى، إنه اسمُ الله تعالى الحليم.
ذَكرَ الله ـ تعالى ـ هذا الاسم في كتابه في مواضع عديدة، وقرنه بأسماء، قرنه بالغفور، وقرنه بالعليم، وقرنه أيضاً بالغني.
الحليم: هو الذي لا يعجل بالعقوبة، الحليم هو ذو الأناة، الحليم هو الذي يدبِّرُ الأمورَ بصبرٍ وحكمةٍ، ورأفةٍ ورحمة.
نعم، ربُّنا حليم ـ جلَّ في علاه ـ ولذلك لم يعاجل عباده بالعقوبة، بل استأنى بهم واستعتبهم، وطلب منهم العُتبَ والرجوع إليه، والاستغفار والتوبة؛ لأجل أن يُفيقوا ويستقيموا على ما يحصل لهم به نجاةُ الدنيا من غمومها وهمومها، وأقذارها وأكدارها، ولأجل أن ينجو أيضاً في الآخرة بالتقوى من الأهوال والعقوبات، {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون}الزمر: 61 .
أيها الأخوة والأخوات، فيما استعرضنا من آيات هذا الكتاب الحكيم اقترانُ هذا الاسمِ العظيم –اسم الحليم- بالعليم، واقترانه بالغفور، ومما جاءَ فيه هذا الاسمُ مقترناً اقترانه بالغني، في قوله ـ تعالى ـ: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى}، ثم يقول الله ـ تعالى ـ: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}البقرة: 263 ، لماذا اقترن الغنيُ بالحليم؟ لماذا قرَنَ الله ـ تعالى ـ الحِلْمَ بالغنى؟
هذا فيه بيان كمال حِلْمه، فيه بيان أنَّ حلمه ـ جلَّ في علاه ـ ليس ناشئاً عن حاجة إلى خلقه، وليس ناشئاً عن فقرٍ إليهم؛ بل هو الغني ـ جلَّ وعلا ـ ومع غناه فإنه يحلمُ على عباده، لا يعاجلُهم بالعقوبة؛ بل يصبرُ على ما يكونُ من آذاهم، يصبرُ على ما يكونُ من مخالفتهم، يستأني بهم جلَّ وعلا؛ لعلهم أن يعاودوا الطريق المستقيم، وأن يسلكوا الصراطَ القويم، وأن يتركوا المخالفةَ والمعصية، ومجانبة أمره جلَّ في علاه.
ولهذا في اقتران الغِنَى بالحِلْم ما يُشعر بأنَّ هذا الحلم كمال مطلق لله ـ عزَّ وجل ـ ليس لأجل نقصٍ، ولا لأجلِ خوفٍ، ولا لأجلِ حاجة؛ بل هو الغني سبحانه وبحمده.
فحلمه لم يكن عن عجز، حلمه لم يكن عن فقر، حلمه لم يكن عن حاجة، حلمهُ جاء في غنىً تامٍ، وقدرة تامة؛ فكان كمالاً في حلمه، وكمالاً في سائر صفاته جلَّ في علاه.
مما اقترن به اسم الحلم في كتاب الله ـ تعالى ـ اقترانه بالشكور، في قوله ـ تعالى ـ: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، ثم قال ـ جلَّ في علاه ـ: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}التغابن: 17 .
نعم، الله شكور حليم، وهنا يتضح كمال الحلم، وأنه من حِلْمه أن يُمهل العبادَ ليقوموا بشكرِه ـ جلَّ في علاه ـ فهو الشكور ـ جلَّ وعلا ـ الذي يُثيبُ عباده، وهو الحليم الذي يصبرُ على ما يكونُ من مخالفتهم.
وهنا يتبيَّن الكمال في أنه يُثيبُ الطائعين، وأنه ـ جلَّ وعلا ـ ذو أناةٍ بالعاصين، فحلمه في معاقبته، وليس في مجازاته؛ بل هو المبادرُ ـ جلَّ في علاه ـ إلى الإثابةِ على الإحسان، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}الرحمن: 60 ؛ لكن في حق التقصير في جانب السيء من العمل يحلم ـ جلَّ في علاه ـ ويُملي للظالم ويُمهل؛ لعلَّ رشداً يأتي، ولعلَّ إثابةً ورجوعاً إلى الصلاح أن يحصل من العبد، لكن إذا لم يحصل ذلك، واستكملَ العبدُ فرصته في الحلم أخذه الله ـ تعالى ـ وعاقبه على ما يكونُ من عمل.
إذاً يتبيَّن لنا من هذا الاقتران في أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ من كمال الأسماء، وعظيم دلالتها، وسعة معانيها؛ ما يجعل المؤمن لا يجدُ بُداً من إثبات الكمالِ لله، والتصديق بقوله ـ تعالى ـ: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى}النحل: 60 ، {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}الأعراف: 180 سبحانه وبحمده.
أيها الأخوة والأخوات، إنَّ المؤمن يدعو الله ـ تعالى ـ باسمه الحليم، ويستنزل رحمته بحلمه؛ ولهذا كانَ من دعاء النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في الكرب في دعاء المسألة ذِكْره لهذه الصفة، فكان عند الكرب يذكِّرُ نفسه بحلمِ الله، ويتوسل إليه بحلمه أن يرفعَ عنه، فإنه ما من مصيبةٍ تنزلُ بالإنسان، ولا بليَّةٍ تحلُ به إلا بسببِ عمله، يقول الله ـ تعالى ـ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الشورى: 30 .
فالذي يعفو عنه ـ جلَّ وعلا ـ كثير، والذي يتجاوز عنه كثير؛ لكنَّ من رحمة الله أنه لا يعاجل بالعقوبة؛ بل يُذيقُ الإنسان بعضاً من آثارِ ذنوبهم؛ لعلهم يرجعون، كما قال ـ تعالى ـ: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} لماذا؟ {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}الروم: 41 .
فنحنُ نلاحظ أنَّ ذكر الحِلْم في مقامِ الكرب هو طلبٌ من الله تعالى بهذه الصفة أن لا يعجل بعقوبته، وأن يُمهل العبد لعله أن يستعتب، فكان النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يدعو في الكربِ قائلاً: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات، وربُّ الأرضِ، وربُّ العرش العظيم»صحيح البخاري (6346), وصحيح مسلم (2730).
وهذا من دعاء العبد لربه ـ جلَّ في علاه ـ وقد يقول قائل: أين دعاء المسألة هنا، هذا ليس فيه سؤال مباشر؟ يعني: لم يقل: «لا إله العظيم الحليم، فأسالك بذلك يا رب أن تغفر لي، وأن ترفعَ عنِّي عقوبتك، وأن تكشِف كربتي»؛ لكن معلوم أنَّ السؤال يأخذ منحيين، أو له عدَّة صيغ، ومن صيغهِ ذكرُ مجد المسئول، فإنَّ ذِكْرَ مجد المسئول يوجِبُ عطاءه؛ ولهذا قال الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني....حباؤك إنَّ شيمتك الحباءُ
أحياناً يتعرض الإنسان لمسألة بالثناء على المسئول، ويأخذُ بذلك ما يؤمِّل، الله أكرمُ المسئولين، الله أعظمُ المعطين، الله أكرمُ الأكرمين ـ جلَّ في علاه ـ الله أرحمُ الراحمين، فإذا سأله العبد بذكرِ صفاته المناسبة كان ذلكَ موجباً لعطائه؛ ولذلكَ قالَ كما في السنن من حديث أبي سعيد الخدري، قال ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ : «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته خير ما أعطي السائلين»سنن الترمذي (2926).
هذا الحديث الإلهي القدسي يقول فيه الله ـ عزَّ وجل ـ: «من شغله ذكري عن مسألتي»:
«ذكري»: دعائي والثناء عليَّ.
«عن مسألتي أعطيته خير ما أعطي السائلين»، وهذا يدل أنَّ عطاء الله ـ عزَّ وجل ـ عظيم وكبير، وجزيل لمن يشتغل بالثناء عليه، فيذهله ذلك ويشغله عن السؤال والطلب.
إنَّ من دعاء الله ـ تعالى ـ بأسمائه الحسنى الدعاء بإثباته، وهذا نوع من الدعاء؛ لأنه دعاء عبادة، وقد تقدَّمَ أكثر من مرة قلنا: دعاء الله ـ تعالى ـ بأسمائه يكون دعاء مسألة بالسؤال والطلب، ويكون دعاء عبادة، ومنه هذا الحديث، وإن كان في مسألةٍ حيثُ إنه في سياق رفع الكرب؛ لكنَّه أيضاً دعاء عبادة بذكرِ أسمائه جلَّ وعلا.
ومنه أيضاً أن يُثبت المؤمن لله ـ تعالى ـ هذا الاسم، ويُثبت معناه، ويستحضر هذا المعنى، ولا شكَ أنَّ استحضار هذا المعنى يُوجب للعبدِ أن يتقرَّبَ إلى الله بما يرضيه، فإنَّ رِضَا ـ جلَّ وعلا ـ سببٌ لإدراكِ ما لديه من خيرات، وما عنده من برٍّ وإحسان سبحانه وبحمده.
إنَّ من صور التعبُّد لله ـ تعالى ـ بهذا الاسم: أن يَحلم الإنسان على الناس؛ فإنَّ حِلْمه على الناس موجبٌ لحلمِ الله ـ تعالى ـ عليه؛ ولذلكَ قيل: «كن مع الناس كما تُحب أن يكون الله لك»، كن للناس في معاملتك كما تحب أن يكون الله لك.
فإذا أردت أن يحلم الله ـ تعالى ـ عليك فَاحْلم على عباده، إذا أردتَ أن يصبر الله ـ تعالى ـ على إساءتك فاصبر على إساءتهم، إذا أردتَ الله أن يغفر الله لكَ فاغفر لهم، وهلم جرا فيما يتعلَّق بصفات الحمد التي يصلح أن يتصف بها الإنسان، وقد قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لأشجِّ عبدالقيس: «إنَّ فيك لخصلتين يحبهما الله: الحِلْمُ والأناة »سنن أبي داود (5225)، وسنن الترمذي (2011).
اللهم إنَّ نسألك أن ترزقنا برَّكَ وإحسانك، وأن ترزقنا التلذذَ بذكرك، وأن تجعلنا من صفوةِ عبادك، وخُلَّصِ أوليائك، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) استودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.