الحمد لله المَلِك الحق المبين، أحمده جلَّ في علاه، له الحمدُ كُله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، إله الإنس والجن، إله جميع الخلق، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، بعثه الله على حين فترةٍ من الرسل، وانقطاعٍ من السبل، وانطماسٍ من الهِدايات، بَصَّرَ الله به من العمى، وهَدَى به من الضلالة، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثره، وسارَ على مِنْهاجه بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
في هذه الحلقة نتناولُ اسماً من أسماءِ الله ـ تعالى ـ العظيمة، وكلُّ أسمائه عظيمة، {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}الأعراف: 180 ، {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}الإسراء: 110 ، وحُسنُها في ألفاظها ومبناها، كما أنَّ حُسنها في معانيها ومحتواها، فلله كمالُ الأسماءِ وكمالُ الصفات، وله المثلُ الأعلى، ولله المثل الأعلى.
الاسم الذي ستناوله إن شاء الله ـ تعالى ـ في هذه الحلقة هو: (المبين)، وقد ذكره الله ـ تعالى ـ في مُحكم كتابه، قال ـ تعالى ـ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ} في ذلك اليوم الذي تشهدُ فيه الألسن والأيدي والأرجل بما يكونُ من عمل بما اقترفته هذه الأعضاء، {يَوْمَئِذٍ} وهو يوم القيامة {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَق}، أي {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ}: يُقبِّضُهُمُ الله حسابَهم الحق، هذا هو الدين، فالدين هُنا بمعنى الإحسان، {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ} جميع الخلق {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين}النور: 24-25 .
نعم، يعلمون أنَّ الله ـ جلَّ في علاه ـ هو الحق، وما سواه باطل، وأنه حقٌ مبين، فهو الحق المبين جلَّ في علاه.
ومما جاء فيه ذِكْرُ هذا الاسم في سنة النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة في الزيادة التي ذكرَ فيها النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سرد الأسماء، وقد اختلف العلماء في هذه الزيادة، هل هي من قول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بعد قوله: «إنَّ لله تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخلَ الجنة»سنن الترمذي (3507)، أم أنها مُدرجة من بعض الرواة لعدِّ الأسماءِ التي جاءت في كتاب الله وفي سنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فقد جاء ذكرُ المبين في سرد هذه الأسماء.
إذاً اسمُ الله ـ تعالى ـ المبين دلَّ عليه كتابُ الله ـ تعالى ـ وجاء ذكره في هذا الحديث الذي اختلف العلماءُ في ثبوته.
فما معنى اسمُ الله المبين؟ ما معنى اسمِ الله المبين جلَّ في علاه؟
اسمُ الله المبين يدلُّ على كمال، لكن حتى نفهم هذا الكمال نحتاج إلى أن نعرف معنى المبين في لغة العرب؟
معنى المبين: هو على صيغة اسمِ الفاعل في كلام العرب، المأخوذ من الإبانة والوضوح والظهور والاتضاح، وهذا هو معنى البيان والإبانة والمبين في كلام العرب، فإنَّ الشيءَ إذا بان اتضح، والشيءَ إذا بان ظهر، والشيءَ إذا بان زال خفاؤه، هذا معناه لغةً.
أمَّا معناه في حقِّ الله ـ تعالى ـ فإنه مرتبط بهذا المعنى، فالله ـ تعالى ـ بيِّنٌ ظاهر لعباده، لا يخفى عليهم من شأنه ما يعرفونه به، فيتوجهون إلى عبادته ـ سبحانه وبحمده ـ لكنَّ هذا البيان على مراتب ودرجات، أكملُه يوم العرض على المَلِك يوم القيامة؛ ولذلك قال: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ} في ذلك اليوم {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِين}النور: 25 .
فهو بيِّن بياناً كاملاً؛ لأنه في يوم القيامة تزول الحُجب، وتنكشف الغشاوات، كما قال الله ـ تعالى ـ في حقِّ مَن يُبعثُ يوم القيامة وقد عميَ في هذه الدنيا، فلم يعرف ما لله من حقٍّ، ولم يعرف صدقَ ما جاءت به الرسل، قال: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}ق: 22 : بصرك اليوم نافذ قوي، لا يخفى عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا}مريم: 38 ، {أَسْمِعْ بِهِمْ} أي: ما أشد سمعَهم، وما أعظم بصرهم في ذلك اليوم، الذي تُكشِفُ فيه الحقائق.
ومنه بيان الله ـ جلَّ وعلا ـ بياناً واضحاً، فإنَّ الله تعالى يقول يوم القيامة: أنا المَلك، أنا الجبار، فهو المَلكُ الجبار: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}غافر: 16 ، فيتبيَّن للناس صدق ما جاءت به الرسل، ويعلمون أنهم في عمائنٍ وضلالٍ قبل ذلك.
إذاً الله ـ تعالى ـ بيِّنٌ في ذاته في هذه الدنيا بما أقامه ـ جلَّ وعلا ـ من الشواهد والدلائل على أنه لا إله غيره، أنه ربُّ العالمين، أنه الواحدُ الأحد ـ سبحانه وبحمده ـ وهذا يُبصِرُه أولوا البصائر، أولوا الألباب، الذين أعملوا عقولهم وأفكارهم، واستدلوا بالأثرِ على الصانع، واستدلوا بالآيات على مُرسِلها ومُبيِّنِها، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}يوسف: 105 .
إنَّ الله ـ تعالى ـ بيِّنٌ لعباده، يُبيِّن لهم الحقائق، ويكشف لهم المُلتبِسات، وهذا من معاني أنَّ الله ـ تعالى ـ المبين، فهو بيِّنٌ في ذاته، بيِّنٌ في صفاته، بيِّنٌ فيما أقامه من الدلائل الدالة عليه ـ سبحانه وبحمده ـ كما أنه أظهرَ للخلق الحق، فهو يُظهِرُ لهم الحق، ويكتمِلُ هذا يوم القيامة.
ولهذا هو مبين، ورسله وُصِفوا بالبيان، وكتابه مبين، كل ذلك لكونه جلَّ وعلا موصوفاً بهذا، فمن إبانته للحقِّ أن جعلَ كتابه مبيناً، كما قال الله ـ تعالى ـ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِين}يوسف: 1 ، وجَعلَه مُبيناً؛ لأنه حوى إيضاح وبيانَ كلِّ شيء، قال الله ـ جلَّ وعلا ـ في وصفِ كتابه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}النحل: 89 .
وقد جاء الرسول مُبيِّناً للناس بهذا الكتاب كل ما يحتاجون إليه في مصالح معاشهم ومعادهم؛ ولذلك وصفَ الله ـ تعالى ـ رسوله بالمبين، قال ـ تعالى ـ: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ}الدخان: 13 .
وقال ـ تعالى ـ: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ}، ليس فيه جنون؛ بل هو بيِّنٌ وجاء بالحق، {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}الأعراف: 184 ، والمجنون لا يمكن أن يُبين، المجنون الذي فيه بلاء وفقدِ عَقل يأتي بما هو خفي، يأتي بما هو مُلتبس مشتبه، لكنَّ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ جاء بالبيانِ الظاهر، {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
المؤمن يدعو الله ـ تعالى ـ بأسمائه وصفاته أن يبيِّنَ له الحق فهو المبين؛ ولهذا كان من دعاء النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهذا من التعبُد لله باسمه المبين أن تسأله الإبانة، وإظهار الحق، كان يدعو ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في قيام الليل، فيقول: «اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تَحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني»، والهداية فرع الإبانة، ولا تكونُ إلا به «اهدني لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم»صحيح مسلم (770).
ومما يُتعبَّدُ الله ـ تعالى ـ به في هذا الاسم، ويُدعا به تَعبُّداً ورقاً أن يثبت العبد لله ـ عزَّ وجل ـ كمالَ الاسم، وكمالَ الصفة المتضمنة لهذا الاسم، فكمالُ الاسمِ بإثبات المبين، وكمالُها من حيثُ المعنى أن يعتقد أنَّ الله أبان الحق، وأظهره للخلق، وقطعَ الحجة، ومن رحمته أنه ـ جلَّ وعلا ـ لا يؤاخذُ الناس إلا بعد إقامة الحجة، كما قال ـ تعالى ـ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}الإسراء: 15 .
وقد أرسلَ الله ـ تعالى ـ الرسل {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}النساء: 165 ، وهذا من إبانته جلَّ في علاه.
ومن إبانته ـ سبحانه وبحمده ـ أنه أبان الطرق الموصِله إليه بياناً واضحاً، وهذا من ثمرةِ الإيمان به، ومن ثمرةِ الإيمان بهذا الاسم التعبُّد لله ـ تعالى ـ باسمِ المبين: أن يُبينَ الحق من عَلِمَهُ.
ولهذا أخذ الله ـ تعالى ـ الميثاق على أولي العلم أن يُبينُ للناس الحق، وإذا أخفوه فقد خالفوا مقتضى اسمه المبين بما عَلِموه من الهدى الذي منَّ به عليه، قال الله ـ تعالى ـ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}، تأمَّل {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} بياناً جليّاً واضحاً، {وَلَا تَكْتُمُونَهُ}، فماذا كان منه؟ {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}، مهما عَظُم فهو قليل إزاء ما وعدَ الله ـ تعالى ـ به أولياءه في الآخرة، {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُون}آل عمران: 187 .
كلُّ هذا مما يدلُّ عليه هذا الاسم العظيم، مما يُتعبَدُ الله ـ تعالى ـ به في اسمه المبين أن يُعتقد ما له من كمال في هذا الاسم أنه بيِّن، أنه ظاهر، أنه أقامَ الدلائل الدالة عليه ـ سبحانه وبحمده ـ أن نستجيب لداعي تلكَ الدلائل، أن نكون كما أمرنا مُبينين للحقِ، قائمين به، أن نعتقد بيان شريعته، بيانَ كتابه، بيانَ رسوله؛ وبهذا يتحقق لنا الهدى، وسلوك الصراط المستقيم.
اللهم اهدنا صراطكَ المستقيم، خذ بنواصينا إلى ما تُحبُّ وترضى، اصرف عنَّا السوء والفحشاء، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) استودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.