الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضا، أحمده حقَّ حمده، أحمده حمداً لا ينتهي، أحمده حمداً يستوجبُ مزيدَ فضله، وجزيلَ إحسانه، له الحمدُ كُله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، ربُّ العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، واتبعَ سنته بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، نحنُ في هذه الحلقةِ -إن شاءَ الله تعالى- من برنامجكم (فادعوه بها) ستناولُ اسماً عظيماً من أسماءِ الله، ما أحوجنا إلى استحضاره، وذكره، وفهم معناه، والتعبُّد لله ـ عزَّ وجل ـ بمقتضاه، ما أحوجنا أن نحقق ما أمرنا الله ـ تعالى ـ به في قوله: {فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف: 180 ، إنه اسمُ الله ـ تعالى ـ: التواب.
التواب جاء ذكره في كتاب الله ـ تعالى ـ في مواضع عديدة:
من ذلك قوله ـ تعالى ـ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} البقرة: 37 .
ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}البقرة: 128 .
ومن ذلك أيضاً قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}الحجرات: 12 .
ومن ذلك أيضاً قوله ـ تعالى ـ: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} النور: 10 .
ومنه أيضاً قوله ـ تعالى ـ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}النصر: 3 .
هذه نماذج من المواضع التي جاء فيها ذكرُ اسم التواب في كتاب الله الحكيم،
أمَّا السنة فقد جاءَ في المسند والسنن من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أنَّ النبيَ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كانَ يَعدُّ له في المجلس الواحد أكثر من سبعين استغفاراً»صحيح البخاري (6307)، وفي بعض الروايات: «كان يعدُّ له مائة استغفارٍ في المجلس الواحد»، ماذا كانَ يقول؟ كانَ يقول: «ربِّ اغفر لي، وتب عليَّ، إنَّكَ أنت التوابُ الرحيم»سنن أبي داود (1516)، وسنن الترمذي (3434).
التواب من حيثُ الصياغة والبناء للفظ صيغة مبالغة فعَّال، لكثرة التوبة، إنَّ الله تعالى يتوبُ على عباده، فالتواب هو كثير التوبة الذي يتوبُ على عباده ـ جلَّ في علاه ـ ويتقبَّلُ منهم توبتهم.
فبناؤها اللغوي يدلُّ على الكثرة، والمبالغة في ذلك لكثرةِ من يتوبُ إليه، ولكثرةِ من يتوبُ عليهم سبحانه وبحمده، هو تواب ـ جلَّ في علاه ـ فما أكثر من يقصدُه تائباً، آئباً إليه، وما أكثر ما يتوبُ على عباده، ويغفرُ لهم ويصفح؛ ولذلك قال الطبري ـ رحمه الله ـ: «التواب الذي لم يزل يتوب على التائبين، ويغفر ذنوب المنيبين، فكل من تابَ إلى الله ـ تعالى ـ توبةً نصوحاً وجدَ رباً تواباً يتوبُ عليه جلَّ في علاه».
ووصفه ـ سبحانه وتعالى ـ نفسه بأنه تواب؛ لكثرة مَن يتوب عليه من عباده، ولتكرار ذلك في الشخص الواحد حتى ينقضي عمره.
إنَّ نتوب إلى الله ـ تعالى ـ من كلِّ ذنب، نحن نستغفر ونتوب ونعود إلى السيئة ونتوب، نستغفر ونتوب من قصورنا ومن تقصيرِنا، فهو التواب ـ جلَّ في علاه ـ واسمُ الله ـ تعالى ـ التواب يُثبتُ له هذه الصفة: أنه يتوبُ على عباده، لكن ينبغي أن يُعلم أنَّ التوبة الثابتة لله ـ تعالى ـ نوعان: توبةٌ حاصلة قبلَ أوبةِ العبد، ورجوعه إلى ربه، وتوبة حاصلة بعدَ عودة العبد إلى ربه، وسؤالهِ التوبة.
إذاً هناك توبتان: توبة سابقة، وتوبة لاحقة، التوبة السابقة والتي تدخل في اسمه التواب هي التي يكونُ بها إقبال العبد على ربه، إقبال العبد على مولاه، رجوع العبد إلى الله تعالى طالِباً المغفرة.
هذه التوبة التي تكونُ في القلب هي مقدمة تسبق توبةَ القبول، التي تكون بعد رجوع العبد، فمن الذي يقذِفُ في قلوب عباده الرغبة في التوبة؟ إنه الله ـ جلَّ في علاه ـ هو الذي يُلقي في قلوب عباده ومن يصطفيهم الرغبة في الرجوع إلى الله، الرغبة في طلب عفوه والصفح، والتجاوز الذي به تَحصلُ سعادتهم.
ثم إذا حصلت منهم التوبة والرجوع إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قَبِلَها منهم، فكان ـ جلَّ وعلا ـ تواباً ـ سبحانه وبحمده ـ فهو توابٌ يوفِّق إلى التوبة، وهو توابٌ يَقبلُ التوبةَ من التائبين، كما قال الله ـ تعالى ـ في حقِّ الذين خالفوا: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} التوبة: 118 تاب عليهم، كيف تاب عليهم ليتوبوا؟
{تَابَ عَلَيْهِمْ}، أي: وفقهم للتوبة لأجلِ أن يحصلَ منهم رجوعٌ إلى الله وأوبة تُثمرُ قبولاً منه جلًّ في علاه.
إنَّ الله ـ عزَّ وجل ـ ذكرَ هذا الاسم في مُحكم كتابه، وقرَنه بجملة من أسمائه، فذكرَه منفرداً كما في سورةِ النصر: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}.
إذاً جاء منفرداً، وجاء مقترناً ببعض أسمائه ـ جلَّ وعلا ـ ومن اقترانه اقترانه بالرحيم، أبونا آدم أسكنه الله الجنة، ومنعه من أكل شجرة فيها، وأحلَّ له كلَّ ما فيها إلا هذه الشجرة، فخالف وأكل من هذه الشجرة؛ فشقيَ، وتلَقى بعد إنزاله إلى الأرض من ربه كلمات، يتجاوز بها عنه، ويصفح بها عنه، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}البقرة: 37 .
قرَن الله ـ تعالى ـ في مواضع عديدة توبته برحمته، لماذا؟ لأنَّ هناك تناسباً بين التوبة والرحمة، فقبولُ الله ـ جلَّ وعلا ـ توبة العبد، توفيق الله ـ تعالى ـ لعباده أن يتوبوا؛ هو من مقتضيات رحمته ـ جلَّ في علاه ـ ولذلك يتوبُ عليهم، ويقبلُ منهم التوبة، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا}النساء: 27 ؛ لذلك هو يوفقنا من رحمته للتوبة، وهو من رحمتهِ يقبلُها منَّا؛ بل يفرحُ بها، ويثيبُنا عليها أعظم الثواب.
ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أنس، أنَّ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال: «لله أفرح بتوبةِ أحدِكم من صاحبي راحلةٍ، كانَ عليها زاده ومتاعه، أضلها في صحراء، طلَبها فلم يجدها، أيس من أن يجدها، فأوى إلى شجرةٍ، وضع رأسه تحتها، ينتظرُ الموت -أو ينتظر ما ينتظر مما يُصيبه بعد فقدِه زاده وراحلته- فإذا براحلته فوق رأسه، وقد بلغ به الجهد ما بلغ، والحاجة ما بلغت، فمن شدة الفرح قالَ: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح»صحيح مسلم (2747).
فرح الله بتوبة العبد، قرَّبها لنا النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بهذا المثال؛ ليُبيِّن عظيم فرِح الله ـ تعالى ـ بتوبةِ عبده، وهذا بالتأكيد من رحمته.
قرَنَ الله ـ تعالى ـ توبته، وهذا الوصف التواب قرَنه بالحكيم، فقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}النور: 10 ، ما المقارنة؟ ما المناسبة بين التواب والحكيم؟
المناسبة أنَّ التواب يُثبتُ صفة التوبة، والعباد مجبولون على القصور والتقصير، فمن حكمته أن فسحَ لهم المجال ليعودوا إليه، ولم يوصد دونهم الأبواب، ولم يحل بينه وبين مراجعة الصواب؛ بل مكنهم من ذلك بأن منحهم فرصة التوبة.
فهم يتوبون إليه ـ جلَّ في علاه ـ وذلك من مقتضى حكمته أنه يوفقهم للتوبة، وأنهم إذا تابوا قَبِلَ منهم عملَهم، وردهم إلى الجادَّة، وأسبغَ عليهم نعَمَه، وسترهم بكنفه ـ جلَّ وعلا ـ وأثابهم على عودتهم؛ بل من رحمته أنه يُبدِّلُ سيئاتهم حسنات، ذاكَ فضله وعطاؤه.
هذا من حكمته ـ جلَّ وعلا ـ فالخلق ضعفاء، وهو يعلمُ ضعفهم، هو الذي خلَقهم، فقد خُلِقَ الإنسان ضعيفا، وكانَ على حالٍ من تسلطِ أعدائه عليه ما يوجبُ أن يُفسح له المجال بأن يعود إلى الله ـ عزَّ وجل ـ وأن يتوبَ إليه؛ إذاً يا إخواني، ويا أخواتي، الله تواب سبحانه وبحمده.
ومن معنى أنه تواب: أنه يوفقُنا للتوبة، وأنه برحمته وفضله وإحسانه يتقبَّلُ ذلكَ منَّا، وأنَّ هذه التوبة من مقتضايات رحمته، ومن لوازم حكمته، فله الحمد على ذلكَ كثيراً.
اللهم إنَّ نسألك أن تغفرَ ذنوبنا، وأن تتقبَّلَ توبتنا، وأن تجعلنا من حزبكَ المتقين، وأوليائك الصالحين، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}الأعراف: 23 ، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) استودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.