الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضا، أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، أمَّا بعد:
فحياكم الله أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
وفي هذه الحلقة نتناولُ اسماً من أسماء الله تعالى هو: (التواب)، كثير التوبة جلَّ في علاه، يتوبُ على عباده، يوفِّقهم إلى التوبة، ويقبلَها منهم، وقد ذكر الله تعالى هذا الاسم في مواضع عديدة من كتابه، منها قوله ـ تعالى ـ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}البقرة: 37 .
نعم، الله ـ تعالى ـ تواب رحيم، وهو توابٌ حكيم، وهو توابٌ على عباده جميعاً، طائعهم وعاصيهم، فالجميعُ محتاجون إلى أن يتوبوا إلى الله ـ عزَّ وجل ـ {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ}التوبة: 117 ، وهم صفوة خلقِ الله، فغيرهم أحوجُ إلى التوبة؛ لذلك التوبة ليس فوقها كبير؛ بل جميعُ الخلقِ مفتقرون إلى التوبة.
أتعلمون أيها الأخوة والأخوات، أنَّ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كان يُحسَبُ له في المجلس الواحد مائةَ استغفار، يحسبُ له في المجلس الواحد أكثر من مائة مرة يقول: «ربِّ اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم»سنن أبي داود (1516)، وسنن الترمذي (3434).
هكذا جاء في السنن عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ: أنه كانَ يَعدُّ له في المجلس الواحد مائة استغفارٍ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ مائة مرة يقول: «ربِّ اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم».
وكم من مرة سأل الله ـ تعالى ـ أن يغفرَ له، وأن يتوبَ عليه، فكان يقول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ في دعائه: «اللهم اغفر لي ذنبي كُلَّه، دقَّه وجلَّه، صغيره وكبيره، علانيته وسرَّه»صحيح مسلم (483).
والأدعية النبوية في سؤال الله ـ عزَّ وجل ـ المغفرة كثيرة، والمُلاحظ فيها الإطناب والتفصيل والاستيعاب للذنبِّ في كلِّ صوره، ذاكَ كُله من التعبد لله ـ عزَّ وجل ـ ودعائه باسمه التواب ـ جلَّ في علاه ـ سواءً بالاسمِ على وجه التعيين، كقول: «ربِّ اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم»، أو من حيثُ المعنى، فإنَّ كلَّ من سألَ التوبة تعبَّد الله ـ تعالى ـ باسمه التواب، ودعا الله ـ تعالى ـ باسمه التواب.
التواب من أسمائه العظيمة ـ جلَّ في علاه ـ التي يحتاجُها الخلق، ليس في مرحلة، ولا في لحظة، ولا في زمان؛ بل في كلِّ أحوالهم، ومع ترددِ أنفاسهم، ومع لحظ عيونهم، ونبض عروقهم؛ هم محتاجون إلى التوبة؛ ولذلك هم مطلوب منهم أن يَتعبدُ الله ـ تعالى ـ بالتوبة في كلِّ أحوالهم.
دعاءُ الله ـ تعالى ـ باسمِ التواب دعاء عباده، يستوجب أن يستحضر الإنسان أنه فقيرٌ إلى توبة الله ـ عزَّ وجل ـ وأنَّ توبته ـ جلَّ في علاه ـ على عبده هي من أعظم أسباب سعادته؛ فإنه من تاب الله ـ تعالى ـ عليه قَبِلَه، ومن قَبِلَه نجاه، ومن نجاه فاز في الدنيا والآخرة.
إنه ما من عبد إلا وله ذنبٌ أو خطيئة، يقول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ما في الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره من حديث قتادة عن أنس: «كلُّ ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطائين التوابون»سنن الترمذي (2499).
نعم خيرُ من يخطئ هو من يتوب، وكلنا نخطئ، فينبغي لنا أن نتعبَّدَ الله ـ تعالى ـ باسمه التواب، فنسأله ـ جلَّ وعلا ـ التوبة؛ لذلك يقول النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»صحيح البخاري (6307)، وجاء عنه أيضاً: «أنه يتوب ويستغفر مائةَ مرة في اليوم»صحيح مسلم (2702).
ومما يُشرع أن يبتدئ الإنسان به يومه أن يقول: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بكَ من شرِّ ما صنعت، أبوءُ إليك بنعمتك، وأبوءُ بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت»صحيح البخاري (6306)، وهذا ما يعرف بـ«سيد الاستغفار»، الذي جمعَ أكمل الصيغ في تحقيق التعبُّد لله تعالى باسمه التواب.
إنَّ المؤمن إذا علَمَ أنَّ الله ـ تعالى ـ تواب طمِعَ في فضله وإحسانه، وأن يوفِّقهُ إلى التوبة، ولعظيمِ مقامِ التوبة، وأنه يحتاجُها كلَّ أحد أمر الله بها رسولَه في خاتم أمره، وفي نهاية سعيه، قال ـ تعالى ـ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}سورة النصر .
نعم، نحنُ نحتاج إلى هذا المعنى؛ لنحقق العبودية لله ـ تعالى ـ باسمه التواب، إنَّ المؤمن إذا تعبَّدَ لله ـ تعالى ـ باسمِ الله التواب قامَ في قلبه الشعور بالافتقار، الافتقار إلى الله ـ تعالى ـ أن يوفِّقه إلى التوبة، وأن يُسدده بسلوكِ الصراطِ التائبين، فالله يحب التوابين ويحب المتطهرين
وسأله أيضاً أن يعينه على أن يحققَ هذه التوبة في ظاهره وباطنه بالندم على سيء العمل، بالعزم على أن لا يعودَ إلى السيئة، بالإخلاص لله ـ تعالى ـ في توبته وأوبته بأن يُتبع السيئة الحسنة ليمحُها، كما قال النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: «واتبع السيئةَ الحسنة تمحُها»سنن الترمذي (1987).
وإذا كانت السيئة في حق من حقوق الخلق فإنه يسعى لتحلل من أصحاب الحقوق، سواء كانَ ذلك اعتداءً في عرضٍ، أو كان ذلك اعتداءً في مال، أو كان ذلك اعتداءً في دم.
فمن كانَ عليه مظلمة عندَ أحدٍ من الخلق فليتحلله اليوم قبلَ أن لا يَكون درهمٌ ولا دينار، يطلب العفو والصفح والإباحة والتحلل من صاحب الحقِّ قبل أن يَفِد يوم القيامة، وليس ثمة يوم القيامة درهم ولا دنيار، لا ينفعك مال، ولا ولد، ولا بنون، إنما هي الأعمال، يؤخذ من حسناتك لمَن ظلمته، ويؤخذ من سيئاتهم إذا فنيت حسناتك، فتوضع عليك.
الله ـ تعالى ـ تواب، يحبُ التوابين، فلنتب إليه ـ جلَّ وعلا ـ ولنستحضر هذا المعنى؛ حتى نحقق هذه المنزلة العالية الرفيعة، التي لا يستغني عنها أحد في أول طريقه وسيره إلى الله ـ تعالى ـ وفي أوسطه، وفي آخره؛ ولذلكَ يخبرُنا الله في مواضع كثيرة بأنه يتوب على عباده، وأنه تواب، ويأمُرُنا بالتوبة، ويقول: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}النور: 31 ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}التحريم: 8 ، كلُ هذا لأننا محتاجون إلى رحمته، إلى التعبُّد له بمعنى هذا الاسم.
إنَّ الله ـ تعالى ـ يُخبرنا أنَّ من لم يتب فإنه ظالم، يقول: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}الحجرات: 11 ، ترك التوبة ظلم، وإتيانُها رشدٌ وصلاح وعدل؛ لأنَّ الّذي لا يتوب مغتر، يظن أنه قد كمَّل حق الله، كُلُّنا ذو قصورٍ أو تقصير، فنحتاج إلى التوبة في الحالين.
وهذا جواب سؤال: لماذا يتوب النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وهو الذي غفرَ الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر؟ لماذا يقولُ له ـ جلَّ في علاه ـ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}سورة النصر ؟ لماذا يطلبُه بطلب المغفرة؟ لأنه لا أحدَ غنيٌ عن أن يتوب الله ـ تعالى ـ عليه.
جاءَ في الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث عائشة أنَّ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قالَ لأصحابه: «واعلموا أن أحداً منكم لن يدخل الجنة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته»صحيح البخاري (5673)، وصحيح مسلم (2816).
إذاً نحن جميعاً محتاجون إلى أن نتعبَّدَ الله ـ تعالى ـ بهذا الاسم؛ حتى نفوزَ بعطائه، حتى ننجو من غوائري أعمالنا وسيئاتها، حتى يقبلَنا الله ـ تعالى ـ ويدخلنا في عباده الصالحين، حتى نفوزَ بحبه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين}البقرة: 222 ، حتى يُعطينا فضله وإحسانه، فإنَّ الله يفرح بتوبة العبد، كما أخبرَ النبي ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فيما رواه أنس: «لله أفرحُ بتوبة العبد من صاحبي راحلةٍ عليها زاده ومتاعه، أضلها في الصحراء، فأيس منها، ثم أوى إلى شجرة، فإذا هي قائمةٌ عند رأسه، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك»صحيح مسلم (2747).
نعم المؤمن إذا تعبَّدَ الله ـ تعالى ـ باسمه التواب تاب إليه، واستحضرَ حاجته إلى التوبة في كلِّ شؤونه؛ ولذلك نحن بعدَ صلواتنا نقول: «أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله».
وكذلك قال ـ تعالى ـ لأولئكَ الذينَ خرجوا من ديارهم يبتغونَ فضله، ويقصدون مواضعَ إحسانه، ويطلبون مواطنَ توفيقه في عرفة التي هي أطيبُ البقاع، يأمرهم بالاستغفار: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}البقرة: 198 .
وقد قالَ قبل ذلك ـ جلَّ في علاه ـ آمِراً عباده بالاستغفار ما يدلُ على أنهم بحاجةٍ إلى المغفرةِ في كلِّ الأحوال، حتى في حالِ طاعته، وحتى في حالِ عبادته، وحتى في حالِ الإقبالِ عليه، لسنا مستغنين عن فضله؛ بل نحنُ فقراءُ إليه، مضطرونَ إلى رحمته، لو لم يرحمنا لهلكنا، لولا لم يتب علينا أوبقتنا سيئاتُنا وخطاينا.
اللهم إنَّ نستغفرك، إنَك كنتَ غفاراً، اللهم تب علينا، ولا تُبقي من سيئاتنا ما نلقاكَ به يا ربَّ العالمين، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}الأعراف: 23 ، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) استودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.