الحمد لله، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطولِ، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، حياكم الله في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (فادعوهبها(.
في هذه الحلقة نقف قليلاً مع اسمِ الله ـ تعالى ـ: (التواب)، عرفنا ونعرف أنَّ التوابَ هو كثير التوبة ـ جلَّ في علاه ـ وكثير التوبة على عباده بتوفيقهم إلى سلوك الصراط المستقيم؛ لكثرةِ خطائهم، ثم إنه توابٌ يقبل توبة التائبين، ويغفرُ للمخطئين، ويَفسح المجال لكلِّ مَن زلَّة قَدَمه أن يعودَ إلى الصراط المستقيم.
نعم، تواب ـ جلَّ في علاه ـ وهو ـ سبحانه وبحمده ـ رحيم وحكيم؛ ولذلكَ كان من مقتضايات هذه الأسماء أن يتوب على عباده؛ لما جبلوا عليه من ظلمٍ وجهلٍ، من قصور وتقصير، قال الله ـ تعالى ـ: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب: 72].
نعم، هذا هو الوصف الأساس الذي جُبِلَ عليه الإنسان: ظلمٌ وجهل، وإنما ينجو من هذينِ الوصفين برحمةِ الله ـ تعالى ـ بالعلم، {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق: 5]، والعدل بأن يقيم العدل في نفسه، وفيما يتعلَّق بمعاملاته، وبهما تستقيمُ حاله.
التواب إذا تدبر المؤمنُ معناه علِمَ أنَّ ربه رحيم، فألقى ذلك في قلبه محبةً لربه ـ جلَّ في علاه ـ يحبه لأنه تواب يوفِّق العبادَ للتوبة، يحبه لأنه تواب يقبلُ التوبةَ عن التائبين، يحبه لأنه يفرحُ بتوبةِ العبد.
توبة العبد لها منزلة عظيمة عند الرب، فإنَّ الله ـ تعالى ـ إذا تابَ إليه العبد كان كمن عادَ بعد شرودٍ إلى محبوبه، وإلى من يرحمه، وإلى من يُحسن إليه، فيكونُ ذلك موجباً لانجذاب القلوب إليه ـ سبحانه وبحمده ـ والأُنس به ـ جلَّ في علاه ـ ولهذا يستحضر المؤمن أنه إذا عادَ إلى الله فإنه سيعود إلى ربٍّ كريم يفرحُ بعودته.
من آثارِ الإيمان بأنَّ الله تواب أن يُكثر العبد من التوبة، فما دام الله تواباً فأكثر من التوبة، ولكَ في رسول الله ﷺ أسوةٌ حسنة، فكان يتوبُ في المجلس الواحد، يُحسبُ له في المجلس الواحد استغفارات كثيرة، فكان يستغفر أكثر من مائة مرة، أو أكثر من سبعين مرة، يقول: «ربِّ اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التوابُ الرحيم»سنن أبي داود (1516)، وسنن الترمذي (3434).
إنَّ استحضار المؤمن لوصف التواب يُحفِّزُه على الإقبال على ربه؛ لأنه يعلم أنَّ الله يقبلُ توبته، {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}[آل عمران: 135] من يقبلُ التائبين إلا الله.
وقد ذكر ذلك في كتابه، وتمجد به، وامتدح نفسه به؛ لعظيم منته، ولترغيب عباده بالإقبال عليه، يقول ـ تعالى جلَّ في علاه ـ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ}[الشورى: 25]، ويقول ـ تعالى ـ: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ}[آل عمران: 135].
نعم، ليس أحدٌ يغفر الذنوب كما يغفرُها الله، وليس أحدٌ يقبلُ التوبة كما يقبلُها الله ـ تعالى ـ فينبغي للمؤمن أن يُقبل على الله ـ تعالى ـ وأن يستحضرَ هذه المعاني في إقباله؛ لينجذبَ إليه سبحانه وبحمده.
العبادُ كلُّهم محتاجونَ إلى برِّه ورحمته ورأفته، واستحضارهم؛ لأنه تواب، وأنَّ من أوصافه التواب، يلقي في نفوسهم حياءً، فيستحيونَ منه، فيكفُّهم ذلك عن الخطأ والتقصير، والمضي فيما يُغضبُه ـ جلَّ وعلا ـ لأنه عفا عنهم وتجاوز.
وأنت تذكَّر أنه لو أنَّ شخصاً أخطأتَ في حقه، فطلبتَ منه عفواً، فعفى عنك، ثم كررتَ الخطأ، فعفى عنك، ثم كررته ثالثاً، فعفى عنك؛ ألا تجدُ في نفسك حياءً من كثرةِ تجاوزه وصفحه وعفوه ومغفرتهِ لك؟
بلى، وهذه في أخطاء معدودة، فكيفَ فيمن لا يكفُّ الناسُ عن الخطأ في حقه؟ إنهم يكثِرون في الخطأ، ويمضون فيه، ثم إنهم تَقْصرُ طاقتهم وقدرتهم عن إيفاء حقه، أفلا يُلْقِي ذلكَ حياءً في قلوب الخلق؟ بلى.
إنَّ اسمه التواب، يحمل العبد على الاستحياءِ من ربه الذي يتوب عليه، وكلما أساءَ وعاد وجدَ من ربه عطاءً وإحساناً.
جاء في الصحيح من حيث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ النبي ﷺ أخبرَ عن رجل أذنبَ ذنباً، فقال: «ربِّ إني أذنبتُ ذنباً، فاغفرهُ لي، فقال الله تعالى: علِمَ عبدي أنَّ له رباً يأخذ بالذنبِ -يعني: يعاقب عليه- ويعفو عن الذنب، اغفروا لعبدي»صحيح البخاري (7507).
ثمَّ وقعَ هذا العبد في خطأ آخر، فقال: «ربِّ إني أذنبت ذنباً، فاغفره لي، فقال الرب: علِمَ عبدي أنَّ له رَباً يغفرُ الذنب، ويأخذُ بالذنب، اغفروا لعبدي»، هذه المرة الثانية.
ثم وقعَ في خطأ، إمَّا أن يكون الأول أو أن يكون ذنباً آخر في حقِّ الله عزَّ وجل، فلم يمل من العودةِ إلى ربه؛ بل بادر إلى طلب المغفرة، فقال: «ربِّ إني أذنبتُ ذنباً، فاغفره لي، فقال الله جلَّ وعلا: عَلِمَ عبدي أنَّ له رباً يأخذ بالذنب -أي: يعاقبُ عليه- «ويغفرُ الذنب، اغفروا لعبدي»، وانتبه هذه المرة ماذا قال ربنا، قال: «ولعبدي ما فعل».
يعني: له المغفرة ما دامَ على هذه الحال، وعلى هذا المنوال، من أنه إذا أخطأ استغفر، إذا أذنبَ راجع، إذا عثرت به قَدَمُه لم يستمرَ في الكبوةِ؛ بل تاب إلى الله ـ تعالى ـ واستعتبه، وطلبَ منه المغفرة.
نعم، إنَّ العبدَ إذا استحضر أنَّ الله تواب كفَّ عن المعصية؛ لأنه يعلم أنه ـ جلَّ وعلا ـ يتوبُ على التائبين إذا صدقوا في توبتهم، فيكفوا ذلك عن العزمِ على معاودة السيئات؟ لأنَّ الذي يعزم على معاودة السيئة لم يتب حقيقةً.
إنَّ استحضار بأنَّ الله ـ تعالى ـ تواب يفتح لك باب الرجاء والمغفرة، ويفتح لك باب الأمل في أن ترجعَ إلى ربك، وتُصلح مسارك؛ ولهذا يقولُ الله ـ تعالى ـ لعبادة في آيات عديدة ما يُطمِّعُهم في أن يعودوا إليه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء: 48].
ويقول ـ تعالى ـ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر: 53].
وفي هذا دعوة لكلِّ من خرجَ عن الصراط المستقيم، مهما بلغت ذنوبُه كثرةً وعظمة أنه يذكرُ تواباً، تتلاشى في جنبِ مغفرته وتوبته الذنوب، فيُقبِلُ عليه ـ جلَّ في علاه ـ طالباً عفوه ورحمته، فمهما عَظُم في نفسك جُرمُكَ وخطَاؤك فإياك إياك أن يمنعك ذلكَ من أن تقول: «ربِّ اغفر لي، وتب عليَّ، إنك أنت التوابُ الرحيم».
إياكَ أن يمنعكَ ذلك من سؤال الله بصدق أن يحط عنكَ الخطايا، وأن يغفر لكَ الزَّلة، وأن يقبلَكَ في عباده الصالحين، إياك؛ فإنَّ هذا من مداخل الشيطان الذي يريد أن يُبعدكَ عن صراط الله المستقيم، الذي يريد أن يحول بينكَ وبين مراجعةِ الهدى، والاستقامة على السبيل القويم.
احذر فإنَّ الله ـ تعالى ـ يُخبرُك، ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}: اكثروا في الخطأ والسيئة {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}[الزمر: 53].
وإنَّ رجلاً قتلَ مائةَ نفس، فذهبَ يبحثُ عمن يَدلُّه على طريق النجاة، فجاء إلى عابدٍ، فقالَ: «قتلتُ تسعةً وتسعين نفساً، فهل لي من توبة؟ قال: لا، فكمَّل به المائة، ثم ذهب إلى عالمٍ فسأله: هل من توبة؟ قال: ومن يحولُ بينكَ وبينها؟»صحيح البخاري(3470)، وصحيح مسلم (2766)
نعم، ليس بينك وبين التوبة حائل، مهما عَظُمَ الذنب فتذكر رباً تواباً يغفرُ الذنبَ، ويَقبلُ التوبة، ويعفوا عن السيئة، فأقبل، قال: «نعم، ومن يحولُ بينك وبينها»، لا يحولُ بينك وبين التوبةِ إلا نفسٌ أمَّارةٌ بالسوء، إلا شيطانٌ يُزهِّدُكَ فيما عند الله ـ تعالى ـ إلا جهلٌ بالله، فمن علِمَ ما لله من كمال لم يمتنع من التوبة؛ بل يُقبل عليها مستبشراً بها، فالله يحب التوابين، ويحب المتطهرين.
التوبة تَجُبُّ ما كانَ قبلها، وتهدم سَيء العمل، فأقبل على الله؛ فهو التواب ـ جلَّ في علاه ـ إنَّ العبدَ إذا استذكرَ أنَّ الله تواب حملَهُ ذلك على الاستحياء منه، وعلى أن يعامل الناس بما يحبُ أن يُعامله الله به، فيتوب على الناس، بمعنى يقبل إساءتهم، يقبل عذرهم، ويبحث عما يجعلهم يشعرون بالطمأنينة في التعامل، يعفو عن أخطائهم، ويتجاوز عن سيئاتهم؛ فيكونُ ذلكَ ثمرةَ أمله في أن يُعاملَه الله ـ تعالى ـ بما أحسن به إلى خلقه، فالله أكرمُ الأكرمين.
ولذلك لما ذكر النبي ﷺ: "رجل كان يداين الناس، فإذا جاء إلى رجلٍ مُعسر قالَ: ضعوا عنه"صحيح البخاري (2078)، وصحيح مسلم (1562)، فيضعَ الله ـ تعالى ـ عن هذا؛ لأنه وضعَ عن ذاك؛ لأنَّ الله أولى بالإحسان، وأقرب إلى الإكرام جلَّ في علاه.
فإذا أردت أن يتوب الله ـ تعالى ـ عليك فأكثر من الإحسان إلى خلقه، بالصفح عن سيئاتهم، فإنَّ الله يكونُ لك كما تكونُ لعبادة.
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) استودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.