{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة: 2-4]، أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، له الحمدُ كُلُّه، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، شهادة أرجو النجاةَ بها من النار، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم(فادعوه بها).
في هذه الحلقة نتناولُ اسماً من أسماء الله ـ عزَّ وجل ـ لا يوجد أحدٌ من الناس إلا وقد وجدَ لهُ أثراً في حياته، إنه اسمُ الله ـ تعالى ـ: (الشافي).
هذا الاسم العظيم لم يذكُرُه الله ـ تعالى ـ في كتابه؛ إنما ذكرَه فعلاً، فقال ـ جلَّ وعلا ـ فيما قصَّهُ عن خليل الرحمن إبراهيم ـ عليه السلام ـ في امتداح ربه، وبيان مَن يعبُد، قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء: 80] سبحانه وبحمده.
ومن ذلك ما امتنَّ به على المؤمنين، حيثُ قال ـ جلَّ وعلا ـ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}[التوبة: 14].
فقد ذكرَ الله ـ تعالى ـ الشفاء في القرآنِ فعلاً، وأضافهُ إليه، سواءً شفاء الأبدان مما يُصيبُها من الأمراض، أو شفاء القلوب مما يُصيبُها من الآفات، كالآية التي قال فيها ـ جلَّ وعلا ـ: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}، أي: يُذهب غيظ قلوبهم، ويُطهِّرُها مما وجدت من الضيق؛ بسبب تسلطِ أعداء الله عزَّ وجل وأذيَّتهم.
أمَّا السنة المطهرةُ على صاحبها أفضلُ الصلاة وأتمُ التسليم فقد جاءَ في الصحيحين من حديث عائشةَ ـ رضي الله عنها ـ: أنَّ النبي ﷺ كان إذا أتى مريضاً –أي: عاده- أو أوتيَ به إليه قال ﷺ: «اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادرُ سقمًا»صحيح البخاري (5675).
والشاهد في قوله: «اشفِ أنت الشافي»، فإنه سأل الله ـ تعالى ـ لهذا المريض الشفاء متوسلاً إليه بأنه الشفاء، فالشافي من أسمائه جلَّ في علاه سبحانه وبحمده.
والشافي مأخوذ من الشفاء من حيثُ المعنى، شفى يشفي، والشفاءُ هو البرئُ من المرض، هو الخروج عن السقم، هو الصحة والسلامة، فشفاءُ الله ـ تعالى ـ لعباده هو إبراؤهم من الأمراض، إصحاحُ أبدانهم، سلامةُ أعضائهم؛ ولذلك الشافي يشمل هذه المعاني كُلَّها، فالشافي هو الذي يشفي الأبدانَ من الأمراض والأسقام، ويُصِّحُها من الآفاتِ والعوارض، كما أنه يشفي القلوب.
وهنا ملحظ مهم يخفى على كثيرٍ من الناس، حيثُ إنه يحصرُ الشفاء في صحة البدن، ويخفى عليه شفاءٌ أهم من صحة الأبدان، إنه شفاءُ القلوب.
شفاءُ القلوبِ بأن يُزيلَ ما فيها من شكوك، من رِيب، من شرك، من تعلق بغيرِ الله، من نفاق، من حقد، من غل، من عُجب، من كِبر، وسائر الآفاتِ التي تُصابُ بها القلوب، فمن الذي يشفي قلبكَ من هذا كُله؟ إنه الله الشافي جلَّ في علاه.
فقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء: 80] يشمل الأمراض الحسية البدنية، كما يشمل الأمراض القلبية والنفسية، فإنَّ الله يشفي من ذلكَ كُله، لكن يجب على المؤمن أن يعرف أنَّ ذلكَ لا يكونُ إلا بالإقبالِ عليه، والنهلِ من كتابه، والاستشفاء بهذا القرآن الذي أنزله الله تعالى شفاء لما في الصدور.
إنَّ الشفاءَ نعمةٌ من الله ـ عزَّ وجل ـ يمنُّ بها على من يشاءُ من عباده؛ لكنَّ أعظمَ شفاء أنزله على عباده هو هذا الكتابُ الحكيم، يقول ـ تعالى ـ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}[الإسراء: 82].
القرآن شفاء، شفاء للقلوب، فمن وردَ القرآن صدرَ عنه على أحسنِ حال، من طلبَ علاج قلبه، وشفاء أسقامه من القرآن وجدَ خيراً كثيراً، وبراً عظيماً؛ ولذلك النبي ﷺ عندما أصابه ما أصابه من العوارض كان يقرأ بالإخلاص والمعوذتين، وينفثُ على بدنه ﷺ، ينفثُ في يده ويمسحُ بها بدنه؛ طلَباً للشفاء بالقرآن.
وهذا لا يُعطِّل بقية أنواع الأشفية والعلاجات والأدوية، فما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له دواءً؛ لكن الشفاء الأساس الذي جاءَ به القرآن هو شفاءُ القلوب، هو إصلاح هذه المضغة التي إذا صلحت صلح الجسدُ كُله، وإذا فسدت فسدَ الجسدُ كُله.
فمن رامَ شفاء قلبه، وصلاحَ نفسه، واستقامةَ أحواله فليُقبل على القرآن؛ فإنه يهدي للتي هي أقوم، ويدلُّ للأحسن، ويخرجُ من الظلمات إلى النور، ويهدي إلى الصراط المستقيم، ويُعين على سلوكِ كلِّ رشدٍ، ومجانبةِ كلِّ ضلالٍ ورداء.
إنَّ الشفاء بمعناه الواسع يشمل هذا وذاك، لكنَّ الذي يتبادر إلى أذهان كثيرٍ من الناس شفاء الأبدان، ذلكَ لأنَّ كثيراً من الناس متعلِّقون بأمرِ الدنيا، فهمُّهُم أن تَصحَّ أبدانهم ليعيشُ عيشةً هنيئة مستقيمة، وهذا لا حرجَ فيه؛ لكن ينبغي ألا يَقِلَّ اهتمامُنا بشفاء قلوبنا، وألا يغلبَ طلب شفاءُ الأبدان شفاء القلوب؛ فإنها أهمُ وأخطر، غاية ما يحصل بشفاءِ الأبدان قوتها وصلاحُها، لكنَّ شفاء القلوب به تحصلُ السعادة، به يُدركُ الإنسان الغايات والمقاصد، به يسعد في دنياه وفي أُخراه؛ لذلك اطلبُ الشفاء من الله عزَّ وجل تسعدوا؛ فإنَّ الله هو الشافي.
المؤمن يتعبَّدُ لله ـ عزَّ وجل ـ بهذا الاسم كما كان النبي ﷺ، فإذا أصابه ما أصابه من المرض دعا الله ـ تعالى ـ بقوله: «اللهم رب الناس، أذهب البأس»، أي: أذهب المرض، «اشفِ أنت الشافي»: أبرئ من الأسقام والأمراض، «لا شفاء إلا شفاؤك»، وانتبه هنا انقطاع كُلِّ الأسباب إلا من قِبَله، «لا شفاء إلا شفاؤك».
فمهما أخذت من العِلاجات، ومهما أخذت من الأدوية، ومهما تطببت من أنواع الطب؛ فإنه إذا لم يأذنِ الله بالشفاء فلا شفاء، إنما الشفاء من الله، فسأله بقصد وإخلاص، وحسنِ ظنٍ بالله، وثقة بأنه لا شفاء إلا شفاؤك.
ثم سأل شفاءً واسعاً، قال: «شفاءً لا يغادرُ سقمَا»، أي: شفاءً يشملُ كلَّ الأسقام، فلا يُبقي علةً في البدن، ولا يُبقي آفةً في الأجساد؛ بل يغادرُ بهذا الشفاء كلُّ سقم، ويزولُ كلُّ ألم، هذا مما شُرِعَ في دعاء الله ـ تعالى ـ بهذا الاسم دعاءَ مسألة.
فإذا مرضتَ فتذكر هذا المعنى، وتذكر هذا الحديث الذي تضمَّنَ هذه الرقية النبوية، التي تزول بها الأسقام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء: 80]، «اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادرُ سقمَا»صحيح البخاري (5675).
إذا مرِضَ ابنك، إذا مرِضت بنتك، إذا مرِضَ والدك، إذا مرِضت والدتك، إذا مرِضت زوجتك، إذا مرِضَ حبيبك؛ فقل: «اللهم رب الناس»، توسل إليه بربوبيته التي تُوصلُ كلَّ خير، وتدفعُ كلَ شر، «اللهم رب الناس أذهب البأس»: أزل السقم، أرفع المرض، أكشف الضر، «أذهب البأس، اشفِ أنت الشافي»، توسل إليه بأنه الشافي باسمه، «لا شفاء إلا شفاؤك»: لا عافية إلا من قِبَلك، ولا بُرئَ إلا منك، ولا سلامةَ إلا بإنجاحِكَ للدواءِ، وإيصالكَ النفع إلى البدن ، «لا شفاءَ إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادرُ سقمًا».
إنَّ النبيَ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ علَّمَ أمته هذا، وكانَ يتلَقَّ أصحابه عنه ذلك، حتى إنَّ عائشة ـ رضي الله عنها ـ لمَّا مرِضَ النبي ﷺ كانت ترقيه بهذه الكلمات: «اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادرُ سقمًا».
أمَّا التعبُّدُ لله ـ تعالى ـ بهذا الاسم: أن تقطع التعلُّق بكلِّ أحد سوى الله؛ فإنَّ الله هو الشافي، لا طبيب، ولا خبير، ولا مستشفى كبير، ولا مستشفى داخل بلادك أو خارجها، كلُّ ذلكَ لا يحصلُ به الشفاء إن لم يشاء الله.
فعلِّق قلبكَ بالله، لا يعني أن لا تذهبَ إلى الطبيب، ولا يعني أن لا تأخذَ دواءً، الله عزَّ وجل أمرنا بأخذ الأسباب، فما من شيء في الدنيا ولا في الآخرة إلا له سبب؛ لكن الشاهد هو في هذه المضغة، هو في هذا القلب، لا تعلِّقهُ بغيرِ الله، خُذِ الدواء، وأعلم أنه إذا لم يشاءِ الله لم يؤتك نتيجة، ولا ثمرة، ولا فائدة، «فلا شفاءَ إلا شفاؤك»: لا عافيةَ إلا من قِبَلك، لا سلامةَ إلا بك.
وهنا يصدُقُ توكلُكَ على الله، واعتمادُكَ عليه، ولجاؤك إليه في إدراك مطلوباتك، وتحصيل رغباتك؛ لذلكَ علِّق قلبكَ به، وأحسن الصلةَ به، وتوكل عليه، فمن يتوكل على الله فهو كافيه، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق: 3].
«اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادرُ سقمًا»، اللهم صلِّ على محمد، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.