الحمد لله المجيد الحميد، له الحمدُ كُله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، له الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شاءَ من شيءٍ بعد، أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، أهل الثناء والمجد، أحقُّ ما ذكر العبد، وكُلُّنا له عبد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، وحده لا شريكَ له، إله الأولين والآخرين، ربُّ العالمين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، شهادةً أرجو بها النجاةَ من النار، وأرجو بها إدراكَ شفاعةِ خيرِ الأنام، اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميد مجيد، أمَّا بعد:
فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (فادعوه بها).
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف: 180]، ومن أسمائه: (القريب)، وقد عرفنا أنَّ القريب ضدُّ البعيد، فالله قريبٌ ـ جلَّ وعلا ـ من داعيه، وقريبٌ من عابده، وقريبٌ من الذاكرِ له، وقريبٌ من أوليائه وأصفيائه، وهذا القرب ثابتٌ له ـ جلَّ وعلا ـ في كتابِ ربنا، وسنةِ رسوله، يقولُ ﷺ: «إنَّ الذي تدعون أقربُ إلى أحدكم من عنقِ راحلته»صحيح مسلم (2704)، ويقول: «أقرب ما يكونُ العبدُ من ربه وهو ساجد»صحيح مسلم (482).
وكذلك جاءَ في الصحيح قوله ـ صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم ـ: «إنَّ الله ينزلُ إلى السماء الدنيا كلَّ ليله، فيقول: هل من سائلٍ فأعطيه؟ هلمن مستغفرٍ فاغفرَ له؟ هل من داعٍ فأجيبه؟»،صحيح مسلم (758) وهذا من قربه لهؤلاء السائلين الداعين المستغفرين، اللهم اجعلنا منهم.
وقد قال الله ـ تعالى ـ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}[البقرة: 186]، وإنما قدمتُ الأحاديث؛ لأن دلالتها معنوية، ليست بلفظ الاسم، أمَّا الاسم لفظاً فقد جاءَ في القرآن، في قوله ـ تعالى ـ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}.
نعم، هو قريب ـ جلَّ في علاه ـ وقد قال بعضُ أهلُ العلم: «إنَّ القُرْبَ الذي أضافه الله ـ تعالى ـ لنفسه ووصفَ به نفسه نوعان: قربٌ عام، وقربٌ خاص، وقال ذلك جماعات من أهل العلم.
القرب العام: القرب الذي يشترك فيه الخلقُ كُلُّهم، وهو إحاطةُ الله ـ عزَّ وجل ـ وعلمُه بعباده، وأنه لا يفوتوه شيءٌ من شؤونهم، كما قال ـ تعالى ـ: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا}[المجادلة: 7].
ففسروا المعيةَ العامة بالقربِ، فقالوا: هذا قربٌ عام، ومثلُهُ قوله ـ تعالى ـ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}[الحديد: 4]، فقالوا: المعية العامة نوعٌ من القربِ، وهو قربٌ عام.
وأمَّا القربُ الثاني: فهو قربه من الداعين والعابدين، وهذا قربٌ خاص، وقد قالَ بعضُ أهل العلم: إنه ليس ثمةَ إلا قربٌ خاص؛ فإنَّ الله لم يُضف القربَ إلالأوليائه وأصفيائه، وخُلَّصِ عباده، وقد أمرَ الله ـ تعالى ـ عباده بالاقتراب منه، فقال: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
وأخبرَ عن قربه من الداعي، فقال: {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[هود: 61]،وفي قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي}[البقرة: 186].
الذين قالوا: إنَّ هناكَ قُرباً عاماً استدلوا بنحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}[ق: 16]، قالوا: إنَّ ذلكَ قربٌه والقربُ العام، وبهذا قال جماعات من أهل العلم كما تقدَّمَ.
لكنَّ من قال: إنَّ القربَ لا يكونُ إلا خاصاً قال: إنَّ هذا القرب هو قربُ الملائكة، وليسَ قربَهُ ـ جلَّ في علاه ـ ولذلك قال في بيان هذا القرب: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 16]، فجعلَ ذلك القرب مُبيِّناً واضحاً.
ومن أدلة القرب العام قوله ـ تعالى ـ: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ}[الواقعة: 83-85].
وهذا قربٌ عام؛ لكنَّه على الصحيح هو قربُ الملائكة، أمَّا الربُ فإنه لا يقربُ من عباده إلا الذين أطاعوه، فلا يقربُ من الفجار، ولا من الكفار، هو معهم بعلمه، لا يخفى عليه شيءٌ من شأنهم، لكنَّ القربَ شيءٌ عالٍ، ومنزلة سامية، ورِفْعَة كبيرة لا ينالُها إلا الأولياء، لا ينالُها إلا الداعون، إلا الصادقون في ذكره، وعبادته جلَّ وعلا.
ولذلك بعدَ أن ذكرَ هذا القرب العام، الذي هو كما ذكر بعض أهل العلم: قرب عام، وهو حقيقةً قرب الملائكة وليس قرب الله ـ عزَّ وجل ـ قال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ}[الواقعة: 88-89]، {المقربين} هنا المقصودبه: المقرَّبون منه، الذين دعَوه وعبدوه، وصدقوا في الإقبال عليه، وأخلصوا له ـ جلَّ في علاه ـ في السر والعلن، وكان الله ـ تعالى ـ حاضراً في قلوبهم، يعبدونه كأنهم يرونه.
الله أكبر، اقتربُوا منهُ فاقترب منهم، حققوا مرتبة الإحسان التي هي أعلى مراتب الدين: أن تعبد الله كأنك تراه، و لا ترى إلا القريبَ منك، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
إذاً المؤمن إذا سما قدرُه حقق هذه المنزلة، سما قدره بالعبودية والدعاء، وصدق الإخلاص، والإقبال على الله ـ عزَّ وجل ـ قرُبَ منه ربه ـ جلَّ في علاه ـ لأنه اقتربَ منه.
ودليل هذا ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن النبيﷺقال: «مَن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبتُ إليه ذراعاً، ومن تقرَّبَ إليَّ ذراعاً تقربتُ إليه باعاً، ومن أتاني يمشي -الله أكبر- أتيته هرولة»صحيح البخاري (7405)، وصحيح مسلم (2675).
ذاكَ فضلُ الله وعطاؤه، فهل نصدق في الإقبال على الله لننالَ فضلَهُ وإحسانه؟ نحنُ بحاجة إلى قربِ ربنا، مَن كانَ الله منه قريب بَعُدَ عنه كلُّ شرٍ وضر، ومن بَعُدَ عنه ربه ـ جلَّ في علاه ـ فإنه هالكٌ، خلَّ الله بينه وبين الآفاتِ والمهالك؛ لذلكَ نِعمة عُظمى للعبد أن يقترَب من ربه، كيف تقترب من الله؟
تقترب منه بمعرفته، وتعرَّف على الله، تعرَّف على الله بأسمائه وبصفاته، تعرَّف على الله بامتثالِ أمره، تعرَّف على الله بطاعته فيما نهى، تعرَّف على الله بكثرة التوبة إليه، والاستغفار من الخلل والقصور والتقصير، فكلنا ذو ذنب، كلُّ ابنُ آدم خطاء، وكلُّ ذنبٍ يُبعدُكَ عن ربك، فعاود المسار.
ولذلكَ سُميت المعاودة توبة؛ لأنَّها رجوعٌ إلى الله ـ عزَّ وجل ـ فكن تائباً تواباً لتكون فائزاً بقربِ ربك، وتنال منه العطاء والفضل، والإحسان والبر والجود، فإنه ما خابَ من عاملَ الربَّ بصدقٍ، ما خاب من أحبَّهُ وأقبلَ عليه جلَّ في علاه، كلُّنا نخطئ ليلاً ونهاراً، كلُّ ابنُ آدم خطاء.
فلنقول: «ربنا تُبنا إليك، فاغفرلنا، ربنا أقبلنا» لنصدق في الإقبال على الله، ولنُؤمِّل منه خيراً، فإنَّ الله يكفيه من عباده أن يصدقوا في التوجه إليه، حتى لو عجزوا عن العمل أو حالَ دونهم ودون العمل وبينه وبين العمل حاجز ومانع فإنَّ صدقكَ مع الله يبلِّغك مرضاته، صدقك مع الله يبلِّغك إحسانَه، صدقك مع الله يبلِّغك جنته، قد قال الله ـ تعالى ـ: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}[النساء: 100]، {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى}[آل عمران195].
فلنصدق مع الله، نتعبَّد له بهذه المعاني، وهذا كلُّه من التعبُّد لله ـ تعالى ـ باسمه القريب، وأمَّا الدعاء فأنت كلما دعوت وقلت: يارب فاستحضر معنى قُرب ربك منك، وأنَّكَ تدعو قريباً مُجيباً يسمع قولكَ، ويرى مكانك، ويعلمُ حالك، ولا يفوتُه شيءٌ من شأنك.
فكن صادقاً في الإقبال عليه، ظاهراً وباطناَ؛ فإنه من صدَقَ الله صدَقَهُ ربه جلَّ في علاه.
لاحظ أنَّ هذا الاسم الكريم اقترن بالسميع، واقترن بالمجيب، تبشيراً لكلِّ من سأل ربه ـ جلَّ في علاه ـ أنه سيُدرِكُ مطلوبه، ويفوزُ برغبته، ولن يخيبَ عبدٌ ربه سميعٌ قريب، لن يخيبَ عبدٌ سألَ القريب المجيب، لن يخيبَ عبدٌ سأل رباً هو أقربُ إليه من عنقِ راحلته.
اللهم ارزقنا استحضار عَظمتك، والقيام بحقك، وأسلُك بنا سبيلَ أوليائك، وأجعلنا من حزبك، أفض على قلوبنا من محبتك وتعظيمك ما يسوقنا إلى عبادتك ومعرفتك، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (فادعوه بها) أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.