×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

صوتيات المصلح / برامج / رسلا مبشرين / الحلقة (18) إسماعيل عليه السلام.

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
الحلقة (18) إسماعيل عليه السلام.
00:00:01

الحلقة الثامنة عشر (( إسماعيل عليه السلام  )) الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، أحمده لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين،  لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلا وسهلا ومرحبا بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (رسلا مبشرين). إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، وهو باني بيته الحرام، الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وآمنا، هذه البقعة المباركة عظمها الله تعالى منذ أن خلق البشرية، {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا} +++[آل عمران: 96-97]---. هذه البقعة عظمها الله عز وجل، ورفع شأنها، وجعلها محلا للعبادة، والهداية، والدلالة عليه سبحانه وبحمده. إن إبراهيم عليه السلام أمره الله تعالى أن ينزل زوجه هاجر وابنه إسماعيل عند البيت الحرام، فامتثل أمر الله عز وجل، وكان قفرا خاليا من الأنس، لا شجر فيه، ولا حياة، كما قال إبراهيم عليه السلام في وصفه عندما أنزل ولده في تلك البقعة: {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم} +++[إبراهيم: 37]---. إن إبراهيم عليه السلام يعرف أن البيت المحرم في هذه البقعة، وقد جاءت البشارة لأم إسماعيل عليها السلام عندما جاءها الملك بعد أن عطشت، ونضب ما عندها من ماء، وذهبت تسعى بين الصفا والمروة، تطلب الماء، جاءها الفرج من الله عز وجل، فنبع الماء عند إسماعيل عليه السلام، وقد جاءت البشارة لهاجر عليها السلام عندما قال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن ها هنا بيت الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يضيع أهله.  وكان البيت مرتفعا من الأرض، كالرابية تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله، ثم إن إبراهيم عليه السلام تكرر مجيئه إلى مكة متعهدا حال ابنه، وكان من مجيئه ما قص الله تعالى من خبر الرؤيا، التي رأى فيها إبراهيم أنه يذبح ابنه، ثم فداه بذبح عظيم، وكان ذلك رفعة لهما. وقد امتن الله تعالى على إسماعيل بأن جعله رسولا، كما قال تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا}+++ [مريم: 54]---. ومن صدقه لوعده أنه قال لأبيه عندما أخبره بالرؤيا: {قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين} +++[الصافات: 102-103]---، فانقاد لأبيه، وامتثل أمر ربه جل في علاه، وكان بذلك صادق الوعد. إن إسماعيل عليه السلام ذكره الله تعالى مبينا ما اختصه من الرسالة، وما ميزه به من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والسعي في مراضيه، قال جل وعلا: {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا} +++[مريم: 55]---. إن مما اختص به إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن الله تعالى أمرهما ببناء بيته، قال جل وعلا: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود * وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}+++ [الحج: 26-27]---. جاء إبراهيم عليه السلام ممتثلا أمر ربه، وقد طال عهده بابنه إسماعيل، فوجده يصلح نبلا وراء زمزم، فقال له: يا إسماعيل، فأقبل إسماعيل على أبيه لما فطن له، وكان بينهما ما يكون بين الوالد وولده من السلام والشفقة والتحية. ثم إن إبراهيم عليه السلام ابتدر إسماعيل، فقال له: يا إسماعيل، إن الله قد أمرني أن ابني بيتا، قال له إسماعيل: فأطع ربك، وهكذا كان ممتثلا لأمر ربه جل في علاه، لم يناقش، ولم يبحث معه كيف يكون ذلك؛ إنما حثه على المبادرة لطاعة الله عز وجل، فقال: أطع ربك، فقال له إبراهيم: قد أمرك أن تعينني على بنائه، قال: إذا أفعل. وهذا من انقياده وتمام تسليمه لربه جل وعلا، فقام إبراهيم إلى مكان البيت، فجعل يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وكلما أنهيا بناء صف منها ارتفع مقام إبراهيم به حتى يبني الذي فوقه، وهكذا حتى تمت عمارته. ومقام إبراهيم هو حجر كان يقف عليه إبراهيم عليه السلام لبناء الكعبة، وضعه له ابنه إسماعيل ليرتفع عليه حتى علا البناء. قال الله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}+++ [البقرة: 127-129]---. إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل بنيا البيت، جداده بعد أن اندرس، ولم يبق منه إلا الآثار، وهذا عمل جليل في الذروة من تعظيم رب العالمين،حيث عظم ما أمر بتعظيمه، وحيث امتثل أمره في بناء بيته. ولما فرغ لم يكن منهما إلا تمام الذل والخضوع والانقياد لله عز وجل، وتمام الافتقار إليه، حيث قال: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} +++[البقرة: 127]---. فعجبا لهما يمتثلان أمر ربهما، ويبادران طاعته جل في علاه، ثم لا يكون منهما إلا الضراعة إلى الله عز وجل أن يقبل ما كان من عمل، وأن يرفع الدرجة، وأن يصلح العاقبة، وأن يكون ذلك محلا لرضاه سبحانه وبحمده. {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم}+++ [البقرة: 128]---، في ضراعة تامة، وسؤال كامل أن يجعلهما على الإسلام، وأن يجعل الإسلام في ذريتهما، وأن يهديهما طريق العبادة إليه، وأن يتوب عليهما، وأن يرحمهما، وكل ذلك يبدي ما كان عليه من تمام العبودية لله عز وجل. ثم إنه لعظيم شفقة إبراهيم على ذريته سأل الله عز وجل أن لا يخلي هذه البقعة من رسول يكون هداية للناس: {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم} +++[البقرة: 129]---. إن في بناء الكعبة من الآيات والعبر ما يدل على عظمة هذا البيت، ما يصدق عليه قول الله عز وجل: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا} +++[آل عمران: 96-97]---. الكعبة المشرفة التي شرفها الله تعالى مازالت منذ بناء إبراهيم إلى يومنا على تعظيم وإجلال وصيانة، وذاك من أعظم آيات الله عز وجل الدالة على عنايته بهذه البقعة، وعلى صيانته لها رغم تعاقب الأقوام، واختلاف الأديان، وتوالي الناس على هذه البقعة، وتطاول العهد، وتعاقب الليالي والأيام، إلا أن الجميع كان يحفظ لهذه البقعة حرمتها، ويعظم شأنها، وما كان من إخلال فإنما كان عارضا لا يدوم، وأما الدائم هو ما حفظ الله تعالى به هذه البقعة من التعظيم والإجلال. وبعد أن فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء الكعبة على الوجه الذي أمر به  أمره الله تعالى أن ينادي وأن يعلم الناس بفرض قصد هذه البقعة المباركة، والمجيء إليها، فقال تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} +++[الحج: 27-28]---. فبقي هذا النداء مترددا في الآفاق، سمعه الناس حتى قال ابن عباس: «إن إبراهيم قام على الحجر، فقال: يا أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج، فأسمع من كان في أصلاب الآباء وأرحام النساء ممن آمن، وكتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة، فأجاب: لبيك اللهم لبيك»، وقد حسن الحافظ ابن حجر هذا الأثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. إن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فجدد دعوة إبراهيم إلى هذه البقعة المباركة، قال الله تعالى: {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا}+++ [آل عمران: 96-97]---، ثم قال: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين}+++ [آل عمران: 97]---. وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج، فحجوا»، قال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، ثم عادها، ثم قال في الأخيرة صلى الله عليه وسلم: «لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم»+++ أخرجه مسلم (1337).---. والشاهد: أن هذه الدعوة التي أمر الله تعالى إبراهيم أن يؤذن بها: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا} لا زالت باقية، وقد جددها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا يزال هذا النداء باقيا إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. اللهم أرزقنا تعظيم شعائرك، والقيام بحقك، وأعنا على طاعتك، واحفظنا بحفظك، وسددنا بهدايتك، إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم (رسلا مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المشاهدات:3559
الحلقة الثامنة عشر
(( إسماعيل عليه السلام  ))
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، أحمده لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين،  لا إله إلا هو الرحمنُ الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميد مجيد، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
إبراهيمُ عليه السلام خليلُ الرحمن، وهو باني بيتهِ الحرام، الذي جعلهُ اللهُ تعالى مثابةً للناسِ وآمناً، هذه البقعةُ المباركة عظَّمها اللهُ تعالى منذ أن خلقَ البشرِّية، {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96-97].
هذه البقعة عظَّمها اللهُ عزَّ وجل، ورفعَ شأنها، وجعلها محلاً للعبادةِ، والهدايةِ، والدلالةِ عليه سبحانه وبحمده.
إنَّ إبراهيمَ عليه السلام أمرهُ اللهُ تعالى أن يُنزِلَ زوجهُ هاجر وابنهُ إسماعيل عندَ البيتِ الحرام، فامتثلَ أمرَ اللهِ عزَّ وجل، وكانَ قَفْراً خالياً من الأنسِ، لا شجرَ فيه، ولا حياة، كما قالَ إبراهيم عليه السلام في وصفه عندما أنزلَ ولَدَهُ في تلك البقعة: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37].
إنَّ إبراهيمَ عليه السلام يَعرفُ أنَّ البيتَ المحرَّم في هذه البقعة، وقد جاءت البَشارة لأمِّ إسماعيل عليها السلام عندما جاءها المَلَك بعدَ أن عطِشت، ونضبَ ما عندها من ماء، وذهبت تسعى بين الصفا والمروة، تطلبُ الماء، جاءها الفرجُ من اللهِ عزَّ وجل، فنبعَ الماءُ عندَ إسماعيل عليه السلام، وقد جاءت البشارةُ لهاجرَ عليها السلام عندما قال لها المَلَك: لا تخافي الضيَّعة، فإنَّ ها هُنا بيتُ الله، يبنيهِ هذا الغلامُ وأبوه، وإنَّ الله لا يضيِّعُ أهله.
 وكانَ البيتُ مرتفعاً من الأرضِ، كالرابية تأتيه السيول، فتأخذُ عن يمينه وشماله، ثم إنَّ إبراهيم عليه السلام تكررَ مجيئه إلى مكة مُتعهِداً حالَ ابنه، وكانَ من مجيئه ما قصَّ اللهُ تعالى من خبَرِ الرؤيا، التي رأى فيها إبراهيم أنه يذبحُ ابنه، ثم فداه بذبح عظيم، وكانَ ذلكَ رفعةً لهما.
وقد امتنَّ اللهُ تعالى على إسماعيل بأن جعلَهُ رسولاً، كما قالَ تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54].
ومن صدقهِ لوعده أنه قالَ لأبيه عندما أخبرَهُ بالرؤيا: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 102-103]، فانقادَ لأبيه، وامتثلَ أمرَ ربهِ جلَّ في علاه، وكانَ بذلك صادقَ الوعد.
إنَّ إسماعيل عليه السلام ذكرَهُ اللهُ تعالى مُبيناً ما اختصهُ من الرسالة، وما ميَّزَهُ به من إقامِ الصلاة، وإيتاء الزكاة، والسعي في مَرَاضِيه، قال جلَّ وعلا: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55].
إنَّ مما اختصَ به إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السلام أنَّ اللهَ تعالى أمرهما ببناءِ بيته، قالَ جلَّ وعلا: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 26-27].
جاءَ إبراهيمُ عليه السلام ممتثِلاً أمرَ ربه، وقد طالَ عهدُهُ بابنه إسماعيل، فوجدَهُ يُصلِحُ نبلاً وراءَ زمزم، فقال له: يا إسماعيل، فأقبلَ إسماعيلُ على أبيهِ لمَّا فَطِنَ لهُ، وكان بينهما ما يكونُ بينَ الوالدِ وولَده من السلامِ والشفقةِ والتحية.
ثم إنَّ إبراهيمَ عليه السلام ابتدَرَ إسماعيلَ، فقالَ له: يا إسماعيل، إنَّ اللهَ قد أمرني أن ابنيَ بيتاً، قال لهُ إسماعيل: فأطع ربك، وهكذا كانَ ممتثِلاً لأمرِ ربهِ جلَّ في علاه، لم يناقش، ولم يبحث معهُ كيف يكونُ ذلك؛ إنما حثهُ على المبادرةِ لطاعةِ الله عزَّ وجل، فقالَ: أطع ربك، فقال لهُ إبراهيم: قد أمرك أن تُعينني على بنائه، قال: إذاً أفعل.
وهذا من انقياده وتمامِ تسليمهِ لربه جلَّ وعلا، فقامَ إبراهيمُ إلى مكانِ البيت، فجعلَ يبني وإسماعيلُ يناوِلهُ الحِجارة، وكلما أنهيا بناءَ صفٍ منها ارتفعَ مقامُ إبراهيمَ به حتى يبنيَ الذي فوقه، وهكذا حتى تمت عمارته.
ومقامُ إبراهيم هو حجرٌ كانَ يقفُ عليه إبراهيمُ عليه السلام لبناءِ الكعبة، وضعهُ لهُ ابنهُ إسماعيل ليرتفِعَ عليه حتى علا البناء.
قال اللهُ تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127-129].
إبراهيمُ عليه السلام وابنهُ إسماعيل بَنَيَا البيت، جدَّادَهُ بعدَ أن اندرَسَ، ولم يبقَ منه إلا الآثار، وهذا عملٌ جليلٌ في الذروةِ من تعظيمِ ربِّ العالمين،حيثُ عظَّمَ ما أمرَ بتعظيمه، وحيثُ امتثلَ أمرهُ في بناءِ بيته.
ولمَّا فرَغَ لم يكن منهما إلا تمامُ الذُلِّ والخضوعِ والانقيادِ للهِ عزَّ وجل، وتمامِ الافتقارِ إليه، حيثُ قالَ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
فعجباً لهما يمتثِلانِ أمرَ ربهما، ويُبادِرانِ طاعتهُ جلَّ في علاه، ثم لا يكونُ منهما إلا الضراعةُ إلى اللهِ عزَّ وجل أن يقبلَ ما كانَ من عمل، وأن يرفعَ الدرجة، وأن يُصلِحَ العاقبة، وأن يكونَ ذلكَ محلاً لرضاهُ سبحانهُ وبحمده.
{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]، في ضراعةٍ تامة، وسؤالٍ كامل أن يجعلَهُما على الإسلام، وأن يجعلَ الإسلامَ في ذريتهما، وأن يهديَهما طريق العبادةِ إليه، وأن يتوبَ عليهما، وأن يرحمَهُما، وكلُّ ذلكَ يُبدي ما كانَ عليه من تمامِ العبوديةِ للهِ عزَّ وجل.
ثم إنه لعظيمِ شفقةِ إبراهيم على ذريته سألَ الله عزَّ وجل أن لا يُخلي هذه البقعة من رسولٍ يكونُ هدايةً للناس: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129].
إنَّ في بناءِ الكعبة من الآياتِ والعبر ما يدلُّ على عَظَمةِ هذا البيت، ما يصدقُ عليه قولُ اللهِ عزَّ وجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96-97].
الكعبةُ المشرَّفة التي شرَّفها اللهُ تعالى مازالت منذ بناءِ إبراهيم إلى يومنا على تعظيمٍ وإجلالٍ وصيانة، وذاكَ من أعظَمِ آياتِ اللهِ عزَّ وجل الدالة على عنايته بهذه البقعة، وعلى صيانتهِ لها رغمَ تعاقُبِ الأقوام، واختلافِ الأديان، وتوالي الناس على هذه البقعة، وتطاولِ العهد، وتعاقُبِ الليالي والأيام، إلا أنَّ الجميعَ كانَ يحفظُ لهذه البقعةِ حُرمتها، ويُعظِّمُ شأنها، وما كانَ من إخلالٍ فإنما كانَ عارِضاً لا يدوم، وأمَّا الدائم هو ما حَفِظَ اللهُ تعالى به هذه البقعة من التعظيم والإجلال.
وبعدَ أن فرغَ إبراهيمُ عليه السلام من بناءِ الكعبة على الوجهِ الذي أُمِرَ به  أمرَهُ اللهُ تعالى أن ينادي وأن يُعلم الناس بفرضِ قصد هذه البقعةِ المباركةِ، والمجيء إليها، فقالَ تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 27-28].
فبقيَ هذا النداءُ متردِداً في الآفاق، سمعهُ الناس حتى قال ابنُ عباس: «إنَّ إبراهيمَ قامَ على الحجر، فقال: يا أيها الناس، إنَّ الله فرضَ عليكم الحج، فأسمعَ من كانَ في أصلابِ الآباءِ وأرحامِ النساء ممن آمنَ، وكتبَ اللهُ أنه يحج إلى يومِ القيامة، فأجاب: لبيكَ اللهمَ لبيك»، وقد حسَّنَ الحافظُ ابنُ حجر هذا الأثر عن ابنِ عباس رضي اللهُ تعالى عنه.
إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاءَ فجدَّدَ دعوة إبراهيم إلى هذه البقعةِ المباركة، قال اللهُ تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96-97]، ثم قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
وقد جاءَ في صحيحِ الإمامِ مسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ تعالى عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «يا أيها الناس، إنَّ اللهَ فرضَ عليكم الحجَ، فحجوا»، قال رجلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسول الله؟ فسكت، ثم عادَها، ثم قال في الأخيرةِ صلى الله عليه وسلم: «لو قلتُ: نعم لوجبت، ولما استطعتم» أخرجه مسلم (1337)..
والشاهد: أنَّ هذه الدعوة التي أمرَ اللهُ تعالى إبراهيم أن يؤذِّنَ بها: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا} لا زالت باقيةً، وقد جدَّدها نبينا مُحمد صلى الله عليه وسلم ، فلا يزالُ هذا النداء باقياً إلى أن يَرِثَ اللهُ تعالى الأرضَ ومن عليها.
اللهم أرزقنا تعظيمَ شعائرك، والقيامَ بحقك، وأعنا على طاعتك، واحفظنا بحفظك، وسددنا بهدايتك، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : فابتغوا عند الله الرزق ( عدد المشاهدات19194 )
4. خطبة: يسألونك عن الخمر ( عدد المشاهدات12366 )
8. خطبة : عجبا لأمر المؤمن ( عدد المشاهدات9957 )
12. الاجتهاد في الطاعة ( عدد المشاهدات8466 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف