الحلقة التاسعة عشر
(( لوط عليه السلام ))
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحبُّ ربنا ويرضى، أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمنُ الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
إنَّ ممن آمنَ مع إبراهيم عليه السلام لوط، قال اللهُ تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، ولوطٌ عليه السلام رسولٌ من رُسِلِ الله الكرام، أرسلهُ اللهُ تعالى إلى قومٍ كانوا على انحرافٍ في الفطرةِ، من حيثُ حق اللهِ في العبادة، فكانوا يعبدونَ معَ اللهِ غيره، وكانوا على انحرافٍ في السلوكِ والعمل؛ حيثُ كانوا يأتون الذُّكْرانَ من العالمين.
لوطٌ عليه السلام هو ابنُ أخي إبراهيم عليه السلام، وكانَ قد آمنَ به، وتبِعهُ إلى دينه، وهاجرَ معهُ، ثم إنَّ اللهَ تعالى أرسلهُ إلى أهلِ قريةٍ في الشام، كانوا على انحرافٍ وفسادٍ في الاعتقادِ والعمل، قال اللهُ تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 133].
وقالَ تعالى في بيانِ دعوته لقومه: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 54-55].
لوطٌ عليه السلام رسولٌ كريمٌ، ونبيٌّ من أنبياءِ الله الكرام، وقد ذكرَ اللهُ تعالى قصةَ لوطٍ عليه السلام في مواضع عديدةٍ من كتابه، ذكرَها مستقلَّةً، وذكرَها في سياقِ قصةَ إبراهيمَ عليه السلام.
واسمُ لوطٌ عليه السلام اسمٌ أعجميٌّ، وليس اسماً عربياً، وتلكَ الفِعْلةُ الخبيثة التي أنكرَها على قومه لا صلةَ لها باسمه، فليسَ ذلكَ الفعلُ مشتقاً من اسمه؛ لأنَّ اللواطَ لفظٌ عربيٌّ مشتق، وأمَّا لوط فهو اسمٌ لنبيٍّ من أنبياءِ اللهِ عزَّ وجل.
وكانَ أولَ أمرِ لوطٍ عليه السلام أنه هاجرَ مع عمهِ إبراهيمَ عليه السلام، كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [العنكبوت: 26]، فاستوطنَ الشام.
وقد أرسلَ اللهُ تعالى لوطاً عليه السلام إلى قومٍ من أهلِ الشام، كانوا على ضلالٍ كبيرٍ، وفسادٍ عظيم، قال اللهُ تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 133].
أرسلهُ اللهُ تعالى إلى أهلِ سدوم وعَمورة، فدعاهم إلى اللهِ عزَّ وجل، أمرَهم بطاعته وتقواه، وتركِ ما كانوا عليه من سيء العملِ والفاحشةِ البغيضة التي نهاهم اللهُ تعالى عنها، قال اللهُ تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80].
وقال: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 54-55].
بعثَ اللهُ تعالى لوطاً عليه السلام لقومٍ انتكست فِطَرُهم، وانحرفت أخلاقُهم، وكانوا ذوي أخلاقٍ ردِئيةٍ، ونفوسٍ خبيثة، لا يستحيونَ من منكر، ويتعففون عن معصية، كانوا يقطعون السبيل عن المسافرين، ويجاهِرون بالرذائلِ والفواحشِ وسيءِ الأعمال، كما قصَّ اللهُ تعالى في قوله: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 29].
لوطٌ عليه السلام تلطَّفَ لهم، ودعاهم إلى عبادةِ الله وحده، وترَفَّقَ بهم؛ لعل اللهَ أن يشرح صدورَهم، وأن يزيلَ ما علاهم من قسوةٍ، وغلظةٍ، وسوءِ طوية.
ومما يُبيِّنُ عظيمَ ما كانوا عليه من الكُفرِ، والبعدِ عن الحق، وردَاءةِ الحال؛ وصفُ اللهِ لهم في كتابهِ الحكيم، فقد قال اللهُ تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [الأعراف: 80-81].
وقال تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74].
وقال جلَّ وعلا: ({وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 54-55].
وقال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: 28-29]، {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166].
وقال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 29-30].
تلكَ هي أوصافُهم في كلامِ الله عزَّ وجل، وهذا يُبيِّنُ عظيمَ ما كانوا عليه من الكُفرِ والعناد، ما كانوا عليه من قسوةِ القلوب، وانحراف الفِطَر، ما كانوا عليه من رذائلِ الأعمال، وسيءِ الأخلاق.
اجتهدَ لوطٌ عليه السلام في دعوتهم، فقال لهم كما قال اللهُ تعالى: {أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 161-164].
فدعاهم إلى عبادةِ الله وحده، دعاهم إلى تقواه، دعاهم إلى ترك الرذائل، بيَّن لهم أنه أمينٌ في هدايتهم إلى الطريق القويم، وأنه لا يرجو منهم جزاءً ولا شكوراً، فهو لا يسألهم على هذه الدعوة، وعلى هذه المكابدة في استخراجهم، وإنقاذهم من الظلماتِ إلى النور؛ لا يرجو من ذلك جزاءً ولا شكوراً، لا يرجو من ذلك عطاءً ولا نوالاً، لا يرجو من ذلكَ شيئاً؛ إنما يرجو أن يستجيبوا لهُ، وأن يكونوا على الجادةِ والهدى.
أيها الأخوة والأخوات، قابلَ قومُ لوطٍ دعوتهُ عليه السلام بالتكذيبِ والعناد والاستكبار، فـ{قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} [الشعراء: 167].
وذاكَ وعيدٌ منهم بأنهم سيخرِجوهُ من قريتهم؛ لأنهُ نهاهم عن الرذائل، وأمرَهم بالفضائل، ولم يكن التهديدُ مقصوراً على لوط؛ بل على لوطٍ وكُلِّ من احتفى به ممن آمن بهِ وتَبِعه، {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} ما ذنبُهم؟ ما جُرمُهم؟ ما الموجب لإخراجهم وتنفيرهم عن أرضهم، وعن بيوتهم، وعن وأملاكهم؟ {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56].
وقالَ تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل: 56]، فلمَّا استحكمَ ضلالهم وأصروا على استكبارهم {جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ} [الشعراء: 206].
وكانَ مبدأ ذلك أن بَعثَ اللهُ تعالى رُسلاً إلى إبراهيم يُبشِّرونه بإسحاق، قال اللهُ تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 69-70].
فبماذا أرسلوا إلى قوم لوط؟ أرسلوا بما جاء بيانه في قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31].
فلمَّا أخبروه بما جاؤوا من أجله وهو إهلاكُ هؤلاء الظالمين الطاغين جادلَ عنهم في طلبِ تأخير العقوبةِ، والاستناء بهم، قال اللهُ تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 74-75].
قال الله له: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا}: كُفَّ عن مجادلتك في قوم لوط؛ فإنه قد جاءهم النذير، وقامت عليهم الحجة، وانقطعت كُلُّ حُجاجِهم، ولم يبقَ إلا أن يأتيَ ما استعجلوهُ من العقوبةِ والعذاب، {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} [هود: 74]: عذابٌ لا سبيلَ لهم في ردِّه، ولا طريقَ لهم في دفعه؛ بل هو نازلٌ بهم لا محالة.
فلمَّا علِمَ إبراهيمُ عليه السلام أنَّ العقوبةَ نازلةٌ بهؤلاء، وأنه لا سبيلَ لردِّها، ولا دفعِها؛ {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا}، فأجبتهُ الملائكة: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 32]: كانت على دينِ قومِها، كانت على طريقتهم في الإجرامِ والكُفرِ، وعدم الانقيادِ للوطٍ عليه السلام.
وقد بيَّنَ ذلكَ في موضعٍ آخر، فقال: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} [الحجر: 58-60].
وقد ذكرَها اللهُ تعالى في المثلِ الذي ضربهُ للكافرين: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10].
اللهم ألهمنا رُشدنا، وقنا شر أنفسِنا، اكفنا شرَّ كُلَّ ذي شر أنتَ آخذٌ بناصيته، اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.