الحمد لله حمدا كثيرا، طيبا، مباركا فيه، كما يحبه ربنا ويرضاه، أحمده حق حمده، له الحمد كله، أوله وآخره، ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صفيه، وخليله، خيرته من خلقه صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،
فقد استمعنا في قراءة الإمام في صلاة التراويح لهذا اليوم، قوله ـ جل وعلا ـ في سورة الأحقاف: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13، 14] وهذه الآية الكريمة ذكر الله ـ تعالى ـ فيها عملا وثوابا، عملا: وهو عملا في الظاهر والباطن، وثوابا عاجلا وآجلا، ، قال الله ـ تعالى ـ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فقالوا ربنا الله بقلوبهم، وقالوا ربنا الله بألسنتهم، فأقروا لله عز وجل بالربوبية المقتضية، والمستلزمة لكونه لا إله غيره، فالربوبية التي ذكرها الله تعالى في هذا المقام، هي الربوبية المستلزمة لإثبات إلهيته وحده لا شريك له، فليست الربوبية هنا بمعنى الإقرار بأنه الخالق الرزاق المدبر المالك فقط، فالذاكر وما يستلزم من أنه لا إله غيره، وهذا نظير قول الله ـ عز وجل ـ فيما قصه عن يوسف ـ عليه السلام ـ أعندما دعا السجينين الذين سألاه عن الرؤية، قال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]، أرباب أي معبدون من دون الله، ليس المقصود أنهم أرباب يخلقون ويرزقون، ويملكون، ويدبرون فحسب، بل المقصود الربوبية بمعناها الأصلي، وما تستلزمه من إثبات إلهية الله ـ عز وجل ـ وقد ذكر الله ـ تعالى ـ عن النصارى، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة:31] فالربوبية هنا في قوله {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي أمنوا به ربا، لا خالق سواه، ولا مدبر غيره، ولا مالك إلا هو، ولا خالق إلا هو ـ جل في علاه ـ ومع هذا أضافوا إلى هذا ما يستلزمه من أنه لا إله سواه، ولا يستحق العبادة غيره ـ جل في علاه ـ هذا معنى قوله ـ جل وعلا ـ:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} قالوها بقلوبهم اعتقادا وجزما، وقالوها بألسنتهم إقرارا وإظهارا.
وقوله ـ جل في علاه ـ:{ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي بعد هذا القول في القلب واللسان، لم يلتفتوا إلى سواه، فيعبدوا غيره، بل داموا على الإخلاص له وحده لا شريك له، هكذا قال جماعة من أهل التفسير، ثم استقاموا أي أنهم داموا على هذا القول في أعمالهم وأحوالهم، وسائر شأنهم فيما بقي من دنياهم، وقال آخرون: بل معنى قوله{ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي أداموا طاعته بعد الإقرار له بالإلهية، فجمعوا إلى الاعتقاد السليم عملا صالحا، وهو دوام العمل بالطاعة، فيكون قوله ثم استقاموا أي ثم داموا على طاعته، قائمين بأمره، يلتمسون إلى ما أمرهم به، ويمتنعون عن ما نهاهم عنه جل في علاه، وبيتين أن هؤلاء قد كملوا صلاح البواطن، صلاح القلوب، وأضافوا إلى ذلك الثمرة، وهي صلاح الأعمال، والمقصود من هذه الآية أنها ذكرت عملين، عملا يتعلق بالقلب، وهو الإيمان بالله جل في علاه، وعملا يتعلق بالجوارح والبدن، وهو الدوام على طاعة الله ـ عز وجل ـ والاستمرار على تحقيق العبودية له ـ جل في علاه ـ ومن حقق هذين قد جمع خيرا عظيما، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث سفيان بن عبد الله الثقفي أنه قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يا رسول الله، استمع إلى هذا السؤال والجواب، سؤال وجه إلى النبي بماذا أجاب، قال: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، أي في شأنه، وما يجمع خصاله، وما يتحقق به الإسلام في الظاهر والباطن، "قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك": يعني لا أبحث، لا أتلقى الإجابة من غيرك، جواب شافي كافي، لا أحتاج إلى أن أبحث عن جوابه عند غيرك، فبماذا أجابه النبي صلى الله عليه وسلم الذي آتاه الله جوامع الكلم؟ أجابه بإجابة في غاية الاختصار، وقد جمعت له الإسلام عقدا وقولا وعملا، فقال له: «قل آمنت بالله ثم استقم»صحيح مسلم (38)، بهذا تجمع الإسلام في الظاهر والباطن، وتحقق الغاية التي من أجلها خلقت، وتنال بذلك خير الدنيا والآخرة، أن تؤمن بقلبك، فتقر بالله ـ جل وعلا ـ وأنه الرب الإله الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلا، وتؤمن بملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وبهذا يتحقق لك أصول الإيمان، التي بها يطيب القلب، ويصلح، فإنه لا صلاح للقلوب إلا بالإيمان برب الأرباب، علام الغيوب ـ جل في علاه ـ ثم إذا تحقق لك ذلك، لابد ومن مستلزمات الأمر، أن ينعكس هذا على جوارحك، وعلى قولك، من ذكر قلبه، لابد أن يذكر قوله وعمله، معادلة لا تختل، ولا تتخلف عند الاختيار، جاء في الصحيحين، الحديث النعمان بن بشير ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه» ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»صحيح البخاري (52)، ومسلم (1599) ما هي المضغة؟ المضغة بينها رسول الله، وبين تأثيرها، ألا وهي القلب، وهي القلب إذا صلحت صلح سائر الجسد، وإذا فسدت فسد سائر الجسد، وكيف يصلح القلب، لا يمكن أن يصلح القلب، ولا أن يستقيم، ولا أن يهتم، ولا أن ينعم، ولا أن يهتدي إلا بالإيمان بالله ـ عز وجل ـ لهذا مفتاح صلاح القلوب هو الإيمان بالله ـ عز وجل ـ والإيمان بالله يا أخواني ليس أمرا، يدعى ويقال باللسان، ليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، الإيمان ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال، الإيمان أمر يقر في القلب، يخالط القلب، حتى يسكنه، ويملأه، وقوامه تمام المحبة لله، وتمام التعظيم له، وهذا يأتي على بقية أصول الإيمان، لأن أصل الإيمان بالله، فإذا تحقق لك الإيمان بالله على الكمال، أمنت بكتبه، إذا تحقق لك الإيمان بالله على الكمال، آمنت برسله، إذا تحقق لك الإيمان بالله على الكمال، آمنت بملائكته، إذا تحقق لك الإيمان على الكمال آمنت بقضائه وقدره، لأنه فعله ـ جل في علاه ـ إذا تحقق لك الإيمان بالله، آمنت باليوم الآخر، لأنه اليوم الذي يفصل فيه ـ جل وعلا ـ القضاء بين الخلق، وينقسم الناس فيه إلى فريقين، كما قال الحق ـ جل في علاه ـ: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}[الشورى:7] إذا هذا القول الذي بينه رسول الله، وجاء ذكره في الآية، الإيمان بالله، والاستقامة على دينه، وعلى شرعه، وعلى مقتضى الإيمان، هو الجامع لكل ما يندرج تحته الإسلام، ولكل خصاله، وأعماله، ولذلك هو مشروع الحياة أن يحقق هذين الإيمان بالله، والاستقامة على شرعه، وإذا حقق الإنسان ذلك فاز بالأجور المرتبة، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف:13، 14] فذكر الله ـ تعالى ـ تأمينهم من كل ما يخافون، فلا خوف عليهم فيما مضى، وفيما يستقبلون، وفيما يقدمون عليه، ولا يحزنون من حوادث وقعت، لأن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بما حدث ووقع، فلا ينالهم شيئا يعكر على قلوبهم صفو إيمانهم، لا فيما مضى من الزمان، ولا فيما يستقبلون، فهم سالمون من الحزن، وسالمون من الخوف، سالمون من الحزن فيما مضى فلا يحزنون، وسالمون من المخاوف في المستقبل، فلا يخافون، فقد آمنهم رب العالمين كما قال ـ جل وعلا ـ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون} [الأنعام:82] لهم الأمن على وجه الكمال فينقطع عنهم كل حزن، ويزول عنهم كل خوف، فلا حزن ولا خوف، ثم أولئك في الآخرة هم أصحاب الجنة، كما قال ـ تعالى ـ: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أصحاب الجنة أي سكان الجنة أي عمائرها، أي أهلها الذين يوفدون إليها مكرمين، منعمين، على نحو من الإجلال والتقدير، جزاء من رب العالمين، عطاء على ما كان من صالح عملهم، {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من ماذا؟
من الإقرار بربوبية الله، والاستقامة على شرعه، وبهذا يتحقق للإنسان هذا الفضل العظيم، وخيرات الإيمان، وبركاته، ونفحاته، ليست فقط في الأجر المؤجلة، لأن كثيرا من الناس يتصور أن أجر الطاعة لا يكون إلا في الآخرة، لا ثمة في الدنيا أجور معجلة، «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا» صحيح مسلم (34)، «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان» صحيح البخاري (16)، ومسلم (43)، أين وجد حلاوة الإيمان؟ في الدنيا قبل الآخرة، يجد حلاوة الإيمان فيتلذذ بها، ويهنأ، ويكون بذلك أعظم من كل لذة، وفوق كل نعيم، فنعيم الطاعة، والاستقامة على شرع الله ـ عزو جل ـ شيئا لا تدركه العقول، وبه يفسر قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه» بعض الناس يتصور من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه، أنه لابد أن يأتي عوض وبديل لنفس ما ترك من المحرمات، أو لنفس ما زهد فيه من الممنوعات، وهذا غلط، بل قد يعوضك الله من النعيم في قلبك، والانشراح في فؤادك، والبهجة، والسكون، والطمأنينة، ما لا يمكن أن تدركه بنوع من نعيم الدنيا، مهما كان لذيذا، ومحبوبا للنفوس، فلذلك ينبغي أن توسع الدائرة، ولا تقصر فقط على نوع من المعاوضة، فإذا ترك الزنا، النظر المحرم، أنه يعوضه الله بزوجة جميلة مثلا، قد تكون الزوجة دون ذلك، لكن لما يغض بصره عن المحرمات، سيعقبه الله في قلبه، من ذكاء النفس، وطمأنينة الفؤاد، وانشراح الصدر ما لا يدركه بغيره، ولا يمكن أن يقارن بذاك النعيم واللذة التي يدركها بالنظر المحرم، لهذا يقول الله ـ تعالى ـ: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} ثم ماذا قال؟ {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}[النور:30] أطيب لهم، وأحسن لقلوبهم، وأنعم لأفئدتهم، وألذ لهم مما يدركونه من إطلاق البصر، هذه المعادلة لا يفهمها كثير من الناس، ويظن أن التعويض عن ترك المحرم، هو أن يسهل الله له من الحلال مثل ما ترك، هذا قد يكون، لكن ليس هذا هو العوض الوحيد، أعلى من هذا التعويض، هو ما يرزقك الله تعالى من النعيم في قلبك، والاستقامة في عمله، والانشراح في فؤادك، هذا يا أخوة لو بذل الإنسان كل ما يملك، ليدرك نعيكم القلب، فإنه لا يمكن أن يكافئ هذه النعمة بمكافأة، نعيم القلب به تنقلب نظرة الإنسان، وتتحول رؤياه، ولبذلك تجد الإنسان الفقير، الذي عنده من المشاكل ما الله به عليم، وعنده من الظلوم ما الله به عليم منشرح الصدر بالإيمان بالله، فتتحول كل تلك الضغوط، وتلك العقبات ملذات بالنسبة له، يتنعم بها لأنها بقدر الله ـ عز وجل ـ وما يعقبه الله عليها من الأجر، والنعيم في الدنيا، في الصبر على قضاء الله وقدره، ما لا يرد له على خاطر، لا يدركه ذاك الذي أعطي من أعطى، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث صهيب، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «عجبا لأمر المؤمن أن أمره كله له خير إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته بغضاء صبر فكان خيرا له»، فهو في خير في كل أحواله، ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «ولا يكون ذلك إلا للمؤمن»صحيح مسلم (2999) واعلم يا أخي أنه يقدر ما تحقق من خصال الإيمان تفوز بذا الوصف الذي قالب فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يكون ذلك إلا المؤمن، وليس شأنا أن تأتي بأدنى مراتب الإيمان، الإيمان مراتب ودرجات وخصال، ثم تقول أين ما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: «عجبا لأمر المؤمن أن أمره كله له خير»؟ إنما يكون خيرا عندما تحقق الإيمان بالله ـ عز وجل ـ عندما تملأ قلبك بشكره، والصبر على قضاءه وقدره، عند ذلك أبشر فإنه لن تجد ممغصا، ولذلك أعظم المصائب تهون على المؤمن لعلمه بأنها من قضا الله قدره، وإنه إن صبر عليه أثيب، وكانت حطا لسيئاته، أو رفعة في درجاته، أو يبلغه الله ـ تعالى ـ بها منزلة قصر عنه عمله، قصر عنها عمله.
ولهذا ينبغي للمؤمن أن يتذكر هذه المعاني عندما يفوته ما يفوته من أمر الدنيا، ليدرك بذلك الخير، إن طمأنينة القلب يا أخوة بالإيمان والطاعة، هي ما أشارت إليها الآية من سورة فصلت: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ }[فصلت:30] هذا تفصيل للوعد الذي استمعناه في قراءة الليلة في سورة الأحقاف: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف:13، 14] فصل الله هذا في سورة فصلت، وأخبر بأن الملائكة تتنزل، والملائكة تتنزل بالبر، والإحسان، والخير، والمثوبة، والعطاء، والتثبيت، والانشراح، والبهجة، فتنزل الملائكة هنا بكل ما تسعد به القلوب، وتتنعم به الأفئدة، وتهون به المصائب، متى تتنزل الملائكة؟
قال بعض العلماء: تتنزل عليهم عند موتهم، والمقصود بالملائكة هنا ملائكة الرحمة، وقيل بل تتنزل الملائكة في القبر، فتثبته، وتبشره بما تبشره به كمن نعيم الله، وعطائه، وحسن جزائه، وقيل بل ذاك يوم يبعثون، في أهوال عظيمة، وكربات عظيمة، تأتي الملائكة تتنزل عليهم فتثبتهم، وتسكن أفئدتهم، والذي يظهر والله أعلم أن التنزيل المذكور في الآية، تتنزل عليهم الملائكة في كل هذه الأحوال، بل وحتى في مصائب الدنيا، ينزل الله ملائكته على عباده المؤمنين، ليثبت الذين آمنوا، كما جرى ذلك للصحابة الكرام مع النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث أنزل الله الملائكة، وأمرهم بتثبيت المؤمنين، فالمصائب الذين أحسنوا العمل في الرخاء، يدركهم الله بفضله في الشدة، كما جاء في ما رواه أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن عباس، في وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشهيرة، قال: «تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة»مسند أحمد (2803) وقال محققو المسند: حديث صحيح تعرف على الله كيف؟ أي بمحبته، وتعظيمه، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهي عنه وزجر، تحقيق لمن قالوا ربنا الله ثم استقاموا، إذا تحقق المسلم هذا أدرك معرفة الله في الشدة، ومعرفة الله في الشدة هي أن يكون الله لك كما تحب، عندما تحيط بك البلايا، عما تنزل بك الكروب، عندما تنزل بك الخطوط، يكون الله مثبتا لقلبك، مؤمنا لك يوجد لك من المخارج ما لا يرد لك على بال، ويحدث لك من الصنائع ما يخفف عنك البلاء، ويزيل عنك الكربة، هذا بعض ما في هذه الآية الذي استمعنا إليها في قوله ـ تعالى ـ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف:13، 14]
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا من الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، اللهم اجعلنا من عبادك المتقين، وحزبك المفلحين يا رب العالمين.