الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده له الحمد كله أوله وآخره ظاهرة وباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله خيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد استمعنا في هذه الصلاة لسورة القمر التي افتتحها الله تعالى بالقسم فقال، التي افتتحها الله تعالى بالخبر عن آية عظيمة من آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾[القمر: 1]فأخبر الله -جل وعلا- في هذه السورة، وهي سورة مكية نزلت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أول صدعه بالدعوة، عندما كذبه من كذبه من قومه وعارضوه، وطلبوا منه الآيات جاءهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخبر الحق المبين، وأيده الله ـ تعالى ـ بأعظم آية جاء بها رسول، أيده بالقرآن الحكيم وكان ذاك أعظم ما أتاه الله ـ تعالى ـ الأنبياء من الآيات والبيانات الدالات على صدقهم، جاء في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من نبي بعثه الله إلا وأتاه من الآيات» أي أعطاه من البراهين على صدقه، والدلائل على صحة ما جاء به «ما يؤمن على مثله البشر» فموسى أيده الله ـ تعالى ـ بتسع آيات بينات، وعيسى جاء بآيات عظيمات، وسائر النبيين جاءوا بالبراهين والآيات الدالة على صدقهم إلا أن ما جاء به النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان أعظم ذلك كله، فهو أعظم الأنبياء آيات.
فما من نبي آتاه الله آية من الآيات إلا وقد أعطى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثله أو أعظم منه، وكان من أعظم آياته ودلائل صدقه، ومعجزاته، وبراهينه هذا الكتاب الحكيم، هذا القرآن العظيم؛ ولذلك قال: «وكان الذي أوتيته» أي وكان الذي خصني الله تعالى به من الآيات والبراهين الدالة على صدقي «وحيًا أوحاه الله إلي» وهو هذا القرآن الحكيم، فهذا القرآن هو أعظم آيات النبيين، ما جاء نبي بمثله؛ ولذلك كان آية باقية، وآية مؤثرة أشار إلى هذا المعنى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا» صحيح البخاري (7274)، ومسلم (152) لأن الآيات هي التي تلف الأنظار، وتدل على صدق المرسلين فما من نبي إلا وآتاه الله آية يصدقه بها قومه، ويقيم الحجة عليهم، رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آتاه الله آيات كثيرات، آيات في نفسه، ومسلكه، وسيرته، وعناية الله به، وآيات في الآفاق، وفي الأنفس تدل على صدق ما جاء به كما قال ـ تعالى ـ: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾[فصلت: 53]وكان من الآيات ما لا يحد بزمان، ولا يقتصر على مكان، فكل آيات الأنبياء كانت محدودة زمانًا ومحدودة مكانًا إلا آيات النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد أعطاه الله آيةً باقيةً على مر العصور، آية باقية على تعاقب الدهور، آية لا تختص بمكان يراها ويشهدها من كان في زمانه، ومن كان بعد زمانه، ولذلك قال: «وكان الذي أوتيته» أي الآية التي ميزني الله بها عن سائر النبيين، «وكان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي».
ثم قال في بيات تأثير هذا على كثيرة أتباعه -صلى الله عليه وسلم- «فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا»، «أرجو» أي أطمع لما خصني الله بهذه الخصية، وأعطاني هذه الآية أرجو أن أكون أكثرهم تابعا أي أكثر المرسلين والنبيين أتباعًا، وها هو الواقع فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر الأمم، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثر المرسلين أمة، فأمة أكثر الأمم، وذاك أن الله ـ تعالى ـ تفضل على رسوله بأن جعل رسالته عامة للناس كلهم إلى أن يرث الله ـ تعالى ـ الأرض ومن عليها.
ولهذا مما خصه الله ـ تعالى ـ به أن رسالته ليست للعرب، ولا لأهل الجزيرة، ولا لأهل زمانه، بل رسالته إلى العالمين، قال الله -جل وعلا-: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴾[الفرقان: 1]، ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾[الأعراف: 158]، فالآيات الدالة على عموم رسالته للإنس والجن كثيرة؛ وعلى هذا أجمع أهل الإسلام فإن عموم رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- للإنس والجن محل اتفاق لا خلاف بين العلماء فيه؛ ولهذا من رحمة الله بالخلق أن أبقى آية بين أظهرهم على اختلاف زمانهم ومكانهم إنه القرآن الحكيم الذي يتلوه المسلمون صباح مساء، والذي يحفظونه في بيوتهم، وفي مساجدهم، وفي مدارسهم، ويتلونه في صلواتهم، وفي كل شأنهم قيامًا وقعودًا وعلى جنب يتلوه الصغير والكبير، هذا من أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن من رحمة الله أن بين من الآيات الأخرى ما يدل على صدقه، ومن ذلك انشقاق القمر، فقد جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أن قريشًا طلبوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- آية» تدل على صدقه، وتثبت صحة قوله رغم ما جاء به من الدلائل، ورغم ما يعرفونه عنه من الصدق، لكن التعنت والاستكبار حملهم على مراغمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ومحاولة إثبات كذبه ومن ذلك طلبهم للآيات فطلبوا آية فشق الله تعالى القمر لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مكة في هذه البقعة المباركة «حتى كان القمر فلقتين» قسمين «رأى المشركون حراء بينهما» صحيح البخاري (3637)، ومسلم (2802) رأوا الجبل بين القمر، وهذا من آيات الله -عز وجل- الكبرى لكن المشركين قالوا سحرنا محمد، ومعلوم أن سحر الساحرين لا يمكن أن يعم الأرض إنما يؤثر على الحاضرين، ولهذا كذبهم الله وبين صدق رسوله وأنها من آياته التي يسرها تصديقًا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- فلما جاءت قافلة قريش وكانت تذهب إلى الشام في رحلة الشتاء والصيف جاءت فأخبرت أن القمر أنهم رأوا القمر فلقتين في طريقهم إلى مكة فتبين بذلك كذبهم وأن محمدا لم يسحرهم وأنها آية من آيات الله صدق بها رسوله وكذب بها المكذبين المعارضين.
هذه الصورة التي أظهر أخبر الله تعالى فيها عن هذه الآية وهي انشقاق القمر ذكر الله تعالى فيها أعظم الآيات وهو القرآن وهنا يتبين السر في تكرار قوله تعالى في هذه السورة في آية تكررت في هذه السورة من يعرفها؟ سورة القمر تكررت فيها آية بعد كل قصة؟ مستمع: ﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾[القمر: 16]
الشيخ: هذه مما تكرر
مستمع: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾[القمر: 17]
الشيخ: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾[القمر: 17]، الله -جل وعلا- بعد أن أخبر عن الآية الآفاقية التي يشهدها الناس بأبصارهم، والذي تدل على صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر عن الآية الباقية التي لا تزول، ولا تحول، ولا تتغير أنه القرآن ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾[القمر: 17]
وهذا خبر وطلب، هذه الآية تضمنت خبرًا وطلبًا، خبر من الله ـ عز وجل ـ أقسم عليه وأكده باليمين بالقسم وبقد التي تفيد التحقيق، وبمجيئه بصيغة الماضي الذي يفيد انقضاء الأمر وحصوله يقول -جل وعلا- ﴿ وَلَقَدْ ﴾ اللام هنا موطئة للقسم، أو واقعة في جواب القسم، يعني والله قد يسرنا، والله لقد يسرنا القرآن للذكر، فيقسم الله ـ تعالى ـ على أنه يسر القرآن للذكر أي لأجل أن يحصل به الذكر.
والقرآن معروف هو كلام الله -عز وجل- الذي أنزله على محمد وبشر به الأوليين والآخرين في قوله ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس: 57، 58]، هذا هو القرآن الذي يسره الله ـ تعالى ـ للذكر.
وقوله ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ ﴾ أي سهلنا وهونا وجعلناه يسيرا، سهل المنال قريب التحصيل ليس في إدراكه مشقة ولا عسر، السؤال ما المراد بالتيسير في قوله ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ ﴾، هل هو تيسير حفظه؟
نعم، هذا من تيسير الله لكتابه أن يسر حفظه على الناس، ولم يكن في كتاب من كتب الأمم المتقدمة كتاب يحفظه أهله إلا القرآن، وما ذكر في التوراة أنه فقط حفظها أربعة، موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير هم الذين حفظوا التوراة، ولم يحفظ بنو إسرائيل أحد منهم التوراة كاملة عن ظهر قلب، والقرآن من رحمة الله وتيسيره أن الصغير، والكبير يحفظه العربي، والعجمي يحفظه، الرجل والمرأة يحفظونه، ولم يخلي الله -عز وجل- زمانًا من الأزمنة من حفظة لكتاب الله عز وجل وهذا من تيسير لفظه، ولذلك تجدهم في الأدغال وفي الغابات، وفي أصقاع الدنيا ليس عندهم شيء عندهم من التعليم الألواح يكتبون فيها القرآن، ويحفظونه رغم قلة ذات أيديهم، وضعف حالهم إلا أن الله يسوق لهذا الكتاب من يحفظه ومن يحقق ما ذكره في كتابه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر: 9]، فمن حفظه حفظ حفظته الذين يحملونه في صدورهم، وحفظ القرآن منزله عليا، ومرتبة كبرى، يقول ابن عمر: (من حفظ القرآن أدرجت بين جنبيه النبوة) مصنف ابن أبي شيبة (29953)، وشعب الإيمان (2352) لأن الذي جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- هو القرآن الحكيم فمن حفظ فقد حوى صدره كل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، (فأدرجت) أي جمعت النبوة في قلبه، وهذه منزله عليا الله -عز وجل- يقول ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾[العنكبوت: 49]؛ ولذلك ينبغي للمؤمن أن يفرح إذا يسر الله ـ تعالى ـ له حفظ القرآن أو حفظ شيء منه فإنها أنوار وهدايات يحصل له بها الخير في الدنيا والآخرة.
إذًا قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ﴾[القمر: 17]، تيسر حفظه، وتيسير تلاوته، وتيسير أدائه، وكل ذلك يتعلق بالألفاظ، لكن هل التيسير يقتصر على هذا؟
الجواب: لا، التيسير يتجاوز ذلك إلى تيسير فهمه، وتيسير علمه، وتيسير تعلمه، فإنه ما من أحد يقبل على القرآن يريد فهمة إلا فتح الله ـ تعالى ـ له من الفهم ما يعود به بخير حال، وبأحسن منقلب ومآل.
لذلك من المهم أن نعرف أن التيسير الذي ذكره الله تكفل به وأقسم عليه في قوله ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ ﴾ إنه ليس فقط تيسير التلاوة، ولا تيسير اللفظ، ولا تيسير الحفظ بل تيسير الفهم، وهذا أعظم مرتبة وأعلى منزلة، وتيسير العلم وهو أن هذا الكتاب فيه علم عظيم غزير، فيه هداية لكل ما يحتاجه الناس في أمر دينهم ودنياهم، قال الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾[الإسراء: 9] ، فكل من أقبل على القرآن طالبا الهداية منه لا يجد منه إلا خيرا، ولا يعود منه إلا ببر وفضل؛ فلذلك حري بنا أيها الأخوة وجدير بكل مؤمن وهو يسمع كلام الله، ويسمع آياته ويتلوها أن يتعلم ما فيه من البينات والهدى، وهذا من تيسير القرآن، واليوم نشهد التيسير على أكمل ما يكون، فإن من تيسير القرآن سهولة الوصول إلى معانيه، ومن سهولة الوصول إلى معانيه هذه التفاسير المنتشرة في أيدي الناس ما منا أو أكثر الناس عندهم من التفاسير الميسرة، عندهم من الأجهزة التي تحوي شيئًا من كلام الله عز وجل يستطيعون أن يستعملوا الوسائل الموصلة إلى بيان كلام الله -عز وجل- في كل مكان وفي كل زمان وفي كل حال هذا هو غالب حال الناس فهذه الأجهزة التي يحملها الناس تحمل التفاسير، وتحمل بيان آيات القرآن على أيسر ما يكون؛ ولذلك لا أظن أنه حصل من تيسير الوصول إلى معاني القرآن مثل كما حصل في أزمنة الناس.
الآن هذا الجهاز تفتحه على القرآن، وتقرأ فيه ما شئت من آيات الله الحكيم ثم إذا أشكل عليك شيء ضغط وأخرج لك تفاسير، تفسير ابن كثير، تفسير الطبري، تفسير ابن سعدي، التفسير الميسر على أسهل ما يكون دون كلفه، وهذه الأجهزة في أيدي الصغار في كثير من البلدان يلعبون بها ويتسلون وهي قل أن تجد بيتًا ليس فيه من هذه الأجهزة التي يسرت للناس في الوصول إلى معاني القرآن، فمن الجدير بنا أن نحمد الله على هذا التيسير، وأن تستعمله فيما يقربنا إلى الله -عز وجل- من فهم كلامه ومطالعة آياته، والوقوف على كلام الأئمة في بيان محكم تنزيله -جل في علاه- وبهذا ندرك خيرًا كثيرا، إذًا هذا نوع الثاني من أنواع التيسير ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ تيسير لفظ وتلاوة، وحفظ.
الثاني: تيسير فهم وعلم وتعلم، هل انتهى بذلك التيسير؟
الجواب: لا، ثمة تيسير ثالث وهو تيسير العمل بالقرآن، تيسير العمل بالقرآن، فالله -عز وجل- ييسر على هذه الأمة العمل بالقرآن، وأذكر لكم قصة رواها الأمام مسلم في صحيحة جرت في زمان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنزل الله في محكم كتابه قوله -جل وعلا- ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾[البقرة: 284]نزلت هذه الآية وهي من خواتيم سورة البقرة على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يا إخواني الصحابة كانت الآية إذا نزلت لم يكونوا على غفلة في معانيها أو على بعد عن مدلولها بل كانوا -رضي الله تعالى- عنهم يتلقون الآيات ليعملوا بها وليترجموها واقعًا، فلذلك لما نزلت هذه الآية ماذا تدل عليه؟ يخبر الله أن له ما في السماوات وما في الأرض، وأنه سيحاسب الناس على ما أبدوه، وأظهروه من أعمالهم وأقوالهم، وعلى ما حوته صدورهم ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾ إن أظهرتموه قولا أو عملا ﴿ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ فالله يحاسب الناس على ما ظهر منهم قولا وعملا، وعلى ما دار في خواطرهم ولو لم يعملوا به، ولو يتكلموا به هذا أمر سهل ولا صعب، هذا أمر في غاية الصعوبة.
لذلك لما نزلت هذه الآية يقول أبو هريرة: «جاء أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وجثوا على الركب» تخيل الصحابة يأتون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويجلسون على ركبهم لعظم ما نزل عليهم «قالوا يا رسول الله: كلفنا ما لا نطيق»، «كلفنا» أي أن الله كلفنا من الواجبات والأحكام ما نطيقه شيء نستطيعه نقدر عليه من الصلاة، والصدقة والصوم، ونزلت علينا آية لا نطيقها يعني يصعب علينا ملاحظة ما في نفوسنا، فإن القلوب يغشها من الخواطر، والهواجس ما قد لا تتمكن من التحكم فيه، ونزلت علينا آية لا نطيقها، فماذا قال رسول الله -صلى الله صلى الله عليه وسلم-، قال مؤدبا لأصحابه ومعلما لهم «تريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل لموسى سمعنا وعصينا، قولوا سمعنا وأطعنا» فحذرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- من أن يردوا شيئا من أمر الله -عز وجل- يقول أبو هريرة «فما كان من الصحابة إلا أن قالوا: سمعنا وأطعنا، يقول فلما اقتراءها القوم» اقتراءها أي قراؤها كثيرا وزلت بها ألسنتهم، يعني رددوها وأصبحت تقرأ دون صعوبة عليهم بل امتثلوا أمر الله في مراقبة خواطرهم وحفظ ما يكون في نفوسهم «فلما اقتراءها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى التخفيف» ﴿آمَنَ الرَّسُولُ ﴾ شوف الشهادة، أنظر إلى شهادة الله لهؤلاء ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾[البقرة: 285]وهم الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم ﴿ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾[البقرة: 285]ثم قال ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ [البقرة: 285] سمعنا وأطعنا، هذه شهادة وتزكية من الله للنبي وأصحابه الذين شقت عليهم هذه الآية لكن لم يكن لهم من امتثال أمر الله بد ولا عنه محيص ولا مخرج، بلا لزموا أمر الله وامتثلوا ما أمرهم به ـ جل في علاه ـ فكانوا على نواياهم على نياتهم، ومقاصدهم وما يدور في خواطرهم، كانوا رقباء يرقبون الله ـ تعالى ـ لأنه سيحاسبهم كما أخبر ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾، والمحاسبة أي أنه يجري عليها ميزان الحسنات والسيئات، فحفظوا خواطرهم حفظوا قلوبهم، لكن في الأمر مشقة وعسر، فجاء التخفيف لما آمن الصحابة وصدقوا قالوا سمعنا وأطعنا جاءهم التخفيف بعد الشهادة، والتزكية لهم بالفضل، والإيمان قال الله -جل وعلا-: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ هذه الآية جاءت بعد الشهادة لهم بالإيمان ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾، طلب المغفرة عما يمكن أن يكون من تقصير ﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾ المرجع والحساب ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ ثم قال ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ إلى آخر ما ذكر الله -عز وجل- فجاء التخفيف في قوله ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ فجاء التخفيف فوضع الله محاسبة الناس عن الخواطر، فجاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس، وكذلك من حديث أبي هريرة «إن الله عفى عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» صحيح البخاري (5269)، ومسلم (127) وهذا من تخفيف الله، وهذا قول جمهور المفسرين أن الله وضع عن الأمة المحاسبة على ما دار في خواطرهم طبعًا هذا غير ما يتعلق بأعمال القلوب، أعمال القلوب يحاسب عليها الإنسان إذا تمكنت، وأسترسل معها واستقرت مثل الحسد، مثل العجب، مثل الكبر، فإنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر هذا يحاسب عليه، لكن الكلام على تحديث النفس لو حدث نفسه بسوء أو بشر أو جاءته أفكار رديئة لكنه لم يترجمها قولًا ولا عملًا ولم يأنس بها فإن الله لا يؤاخذه عليها، بل إذا هم بالسيئات فلم يعملها كتبها الله تعالى له حسنة كاملة.
المقصود أن الصحابة الكرام -رضي الله تعالى عنهم- سهل الله لهم العمل بالقرآن لما قالوا سمعنا وأطعنا فاقترؤها ودلت ألسنتهم.
العمل بالقرآن أمر ميسر لكل من صدق في الإقبال على اللهلأن العمل بالقرآن ولو كان فيه مشقة في بعض سورة وأحيانه لكن ما يكون من عاقبة العمل بطاعة الله خير في الحاضر، وفي المستقبل، في الحال وفي المآل، وقد قال الله ـ تعالى ـ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾[البقرة: 216]ثم قال ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
فالله -عز وجل- ذكر أن هذا الذي كرهوه من فرض القتال الذي فيه ما فيه من المشقة على النفوس في بذل المهج والأرواح هو خير للأمة ولو كرهوه ولو لم تأنس نفوسهم به؛ ولذلك في كل أمر ترى عليك به مشقة من شرع الله تذكر هذا المعنى ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾
إذًا قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ﴾[القمر: 17]يشمل كل أوجه التيسير: تيسير التلاوة، والحفظ، والأداء، وتيسير الفهم، والعلم والتعلم، تيسير العمل والامتثال.
لكن هذا لمن صدق لمن قال سمعنا وأطعنا، أما من اتبع هواه وسعى فيما يشتهي فذاك يجد من العراقيل والصعوبات ما يكون القرآن ثقيل عليه.
هذا بعض ما في هذه الآية من معنى في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ﴾ هذا الخبر ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ﴾ الذكر القلبي، والذكر العملي، والذكر باللسان تلاوة وعلما، تلاوة باللسان وعلما بالقلب وامتثالًا بالجوارح كل هذا مما تكفلت به هذه الآية.
ثم جاء الترغيب والطلب ﴿ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ وهذا استفهام للحث ويتضمن الأمر أي فأين الراغبون في الأذكار؟ أين الراغبون في التذكر؟ فقوله مدكر أي متذكر منتفع بالقرآن، منتفع بما فيه من المعاني، عامل بما فيه، والأذكار ليس فقط التذكر الذهني الذي هو ضد النسيان لكنه يشمل الذكر الذي هو ضد النسيان بالحفظ، وكذلك يشمل التذكر الذي هو الاتعاظ والاعتبار والانتفاع، كل هذا مما أشار إليه قوله ـ تعالى ـ: ﴿ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ فحثنا الله على الأذكار، على أذكار القرآن وتذكره، والعمل بما فيه فإن ذلك من ثمرة تيسريه إذا كان الله يسره فلنكثر من قرأته، إذا كان الله يسره فلنجتهد في حفظه، إذا كان الله يسره، فلنجتهد في تعلمه وفهم معانيه، إذا كان الله يسره فلنجتهد في العمل به ﴿ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾[المائدة: 6]، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾[البقرة: 185]
فإذا جمعنا هذه المعاني فهمنا شيئًا من قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾[القمر: 17]
اللهم اجعلنا ممن وفقتهم إلى الأذكار والعمل بالقرآن، اللهم اجعلنا من أهل القرآن اللذين هم أهلك وخاصتك، اللهم ارزقنا تلاوته على الوجه الذي ترضى به عنا، اللهم افتح لنا فيه فتحًا مبينا، وجعلنا ممن يوفق إلى العلم بالقرآن والعمل به والدعوة إليه، واجعلنا ممن يتلوه على وجه تحبه وترضاه آناء الليل وأطراف النهار، وصلى الله وسلم على نبيا محمد.