الحلقة العشرون
(( هلاك قوم لوط عليه السلام ))
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحبُّ ربنا ويرضى، أحمده حقَّ حمده، لا أُحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمنُ الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
لوطٌ عليه السلام عندما آيس من قومه، وأذنَ اللهُ تعالى بإنزالِ العقوبةِ عليهم، وجاءت إليه رسلُ الله تعالى على صورةِ بشر، وكان ما كان مما قصَّ اللهُ تعالى في كتابه؛ قالت لهُ الرسل: {قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81].
فامَّنُوه على نفسه، ثم أخبروه بإنجاء اللهِ تعالى لأهله، حيثُ قالوا له: {لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 33]، كما قالوا قبل ذلك لإبراهيم عليه السلام عندما سألهم: {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 33] .
وقد أمر اللهُ تعالى لوطاً بأن يخرج بأهله بقطعٍ من الليل، قال جلَّ وعلا: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] .
وسببُ استثناءِ امرأةِ لوطٍ من النجاة أنها لم تكن مؤمنةً به، كما قال جلَّ في علاه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10].
امرأة لوط لم تكن مؤمنة به؛ بل كانت على طريقة قومها في غشيانِ الفجورِ والكُفرِ بالله عزَّ وجل، ولقد حاقَ بها العذاب، ونزلَ بها ما نزلَ بقومها؛ لأنها كانت موافقةً لهم في الباطن، وإن أظهرت خلاف ذلك في الظاهر، فإنَّ أهل العلم قالوا: إنَّ امرأةَ لوطٍ كانت تُظهرُ موافقته؛ لكنَّها تبطِنُ موافقة قومها؛ بل كان لها من الفعلِ أكثرُ من ذلك، حيثُ كانت تخبرُ قومها بأضيافِ لوط عليه السلام؛ لذلك حاقَ بها العذاب.
وفي هذا من الآياتِ والعبر ما ينبغي أن يقفَ عندهُ الإنسان، فإنَّ الله تعالى ليس بينهُ وبين عباده نسب؛ بل الأمرُ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «من بطَّأ به عمله لم يسرع به نسبه» أخرجه مسلم (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
وقد قرر ذلك صلى الله عليه وسلم في غاية الوضوح والجلاء، كما في الصحيحين من حديث أبي سلامة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد مناف، اشتروا أنفسكم من الله؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب، اشتروا أنفسكم من الله؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار؛ فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا صفية عمة رسولِ الله، لا أغني عنكِ من الله شيئاً، يا فاطمةُ بنتَ رسولِ الله، سليني من مالي ما شئتِ؛ لا أغني عنكِ من الله شيئاً» أخرجه البخاري (2753)، ومسلم (204)..
هكذا تنقطع الأنساب، وتزول كلُّ العُلَق، كما قال جلَّ في علاه: {فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، لا ينفع الإنسان نسبُه، ولا قربُهُ من أهل الصلاح والبر، ولا صلَتُهُ بهم إذا كانَ على خلافِ طريقهم، وعلى غيرِ منهاجهم.
وفي قَصصِ الأنبياءِ من العبرةِ في ذلك ما ينبغي أن يُوقفَ عنده، فهذا نوحٌ عليه السلام فرَّقَ بينه وبين ابنه، حيثُ قالَ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46].
كذلك في امرأته، كما قالَ تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم: 10].
وكذلك في إبراهيم عليه السلام، فإنَّ اللهَ فرَّقَ بينهُ وبين والده: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114].
أيها الأخوة والأخوات، إنَّ الرسل الذين بعثَهمُ اللهُ تعالى لعقوبةِ قوم لوط جاؤوا على صورةِ أضيافٍ، نزلوا على لوطٍ عليه السلام، فأهتمَّ لنزولهم؛ ذاكَ لما علِمهُ من حالِ قومه الذين لم يكونوا يتورعونَ عن أذيَّةِ من ينزلُ ضيفاً في قريتهم، قال اللهُ تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77]، لماذا كانَ يوماً عصيبا؟
كان يوماً عصيباً؛ لأنه يعلم ما سينالُهم من أذيَّةِ قومه، وهم أضيافه، وهو الحامي لهم، ويعلم أنه لا طاقة لهُ بمقابلَتِهم؛ ولذلك قال جلَّ وعلا في الآية الأخرى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77].
لقد كانَ يوماً عصيباً لما يعلمُهُ من أذيَّةِ قومه، واستكبارهم وعنادهم، وأنه لن يتركوا لهُ أضيافه، وهذا ما جرى، فقد جاءهُ قومه، قال اللهُ تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}، فواجههم بما يحولُ بينهم وبينَ ما يريدونَ من السوءِ بأضيافه: {قَالَ يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78].
ذكَّرَهم بأنَّ الفطرَةَ أن يميلَ الرجلُ إلى المرأة، لا أن يميلَ الرجلُ إلى الرجل، {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي}، ومرادُه: جنسُ النساء من أهلِ قريته {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} من أن تأتوا أشباهكم من الرجال، {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}، وهذا معنىً آخر، زائد على المعنى السابق، فقد جمعتم سوءتين:
السوءة الأولى: أنكم انحرفت فطَرِكم، فملتم إلى الرجال من جنسكم.
والسوءة الثانية: أنكم لم تحفظوا حق أضيافي، {وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] يَكفُّكم عن هذا السوء، وعن هذا الفجور، وعن هذا الاعتداء، وعن هذه الرذائل؟
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 78] من الاستمتاعِ بأضيافه.
وقد قال اللهُ تعالى في وصفِ مجيئهم إليه في سورة الحجر، قال جلَّ وعلا: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ}، قال لهم لوط: {إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ * وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ * قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ * قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 67-71].
لكنهم استحكمت عليهم غفلتُهم وضلالُهم وغيُّهم، كما قال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]، {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79].
فضاق الأمرُ بلوطٍ عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 79]، أي: إلى من يمنعني منكم، ويصرفوا أذاكم عني وعن أضيافي.
فلمَّا بلَغَ الأمرُ هذا المبلغ {قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} [هود: 81]، وفي الآية الأخرى: {وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 33].
وجاءَ بيانُ عقوبتهم بقوله: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 34-35].
وقد جاءَ تأمينُ الملائكة للوطٍ عليه السلام عندما قال: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81].
ثم بيَّنَ اللهُ تعالى عقوبتهم، فقال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً} أي: مُعلَّمة {عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82-83].
وهذا تهديدٌ لكلِّ من تورَّطَ في هذه السوءة على نحوِ ما كانَ عليه قومُ لوط، أنه سيصيبُهُ ما أصابهم، كما قال تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
وقد ذكرَ اللهُ تعالى وصف تلك الحجارة في سورة الذريات، فقال: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 33-34].
اخرج اللهُ تعالى لوطاً وأهله، وأنجاهم من العذاب، كما قالَ تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35-36].
هذا خبرُ لوطٍ عليه السلام في كتاب الله عزًّ وجل، وما كانَ من تكذيبِ قومه، وما أنزلهُ بهم من العقوبة، وإنَّ هذا لمن عجائب القرآن وأسراره، أن كرر اللهُ تعالى فيه قصة لوط، وبيَّنَ جرمَهم وعقوبتهم، وأنَّ تلكَ العقوبة تتهددُ كُلَّ من تورط فيما عمِلوه {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}.
إذا نظرنا إلى حالِ العربِ زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هذا العملُ معروفاً عندهم؛ بل إنه لمَّا وقعَ ذلكَ في زمنٍ بعد زمنِ النبي صلى الله عليه وسلم احتار الصحابةُ في عقوبة الفاعل؛ لأنه لم يكن معهوداً عندهم أن يأتيَ الرجلُ الرجل.
وقد أُثِرَ عن عبد الملك بن مروان أنه قال: «لولا أنَّ الله تعالى ذكرَ في كتابه أنَّ الرجلَ يأتي الرجل لما كنتُ أصدِّقُ ذلك»؛ لكنَّ القرآن لمَّا كانَ عاماً للبشرية عبر الزمان والمكان جاء التحذيرُ من هذه اللوثة التي بُليَ بها كثيرٌ من الناس في هذه الأزمان.
اللهم ألهمنا رُشدنا، وقنا شر أنفسِنا، اكفنا شرَّ كل ذي شر أنتَ آخذٌ بناصيته، اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.