الحلقة الحادية والعشرون
((رسول الله: شعيبعليه السلام ))
الحمد لله ربِّ العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بين يدي الساعة بالحقِّ بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيرًا، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعَ سُنته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
في هذه الحلقة نتحدَّثُ إن شاءَ اللهُ تعالى عن نبيٍّ كريم، ورسولٍ من المرسلين، قال اللهُ تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}[الأعراف: 85].
شعيبٌ عليه السلام ذكرهُ اللهُ تعالى في مواضع عديدة من كتابه، وهو من الأنبياءِ العرب، وهو من ذريةِ إبراهيم عليه السلام،قال عطاء في نسبه: «إنه شعيب بنُ تَوْبة بن مدين بن إبراهيم عليه السلام».
هنا يتبيَّن من خلالِ السياق لنسبه أنَّ لإبراهيم عليه السلام ابناً غيرَ إسماعيل وإسحاق.
وعلى كُلِّ حال إن صحَّ هذا النسب فذاك، وإن لم يصح فإنَّشُعيباًمن ذرية إبراهيم عليه السلام، قال اللهُ تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}[العنكبوت: 27].
وقد جاءَ فيما رواهُ ابن حبان في صحيحه، من حديث أبي ذر في سياق الأنبياء، قالصلى الله عليه وسلم : «أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيكَ يا أبا ذر»أخرجه ابن حبان 2/77 (361)، قال الأرنؤوط: إسناده ضعيف جداًَ..
فعلى هذا يكونُ شعيبٌ عليه السلام من الرسلِ الذين أرسلواإلىالعرب،أُرسِلَ إلى مدين، ومدين اسمٌ لمكان ٍ كانَيقيمبههؤلاءِ القوم، وقد أخذَ هؤلاء القوم اسمَ المكان، فكانوا أهل مدين، ويسمَّونَ بقومِ مدين، وتُسمىقبيلة مدين.
وفي كل الأحوال هذا الاسم اشتهرَبهمكان، وأُطلق على أهله اسمُذلك المكان.
وقد اختلفأهل العلم: هل كان شعيبٌ هو نبيُّ أصحابُ الأيكة، الذين قال اللهُ تعالى فيهم: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ}[الشعراء: 176-177]، أم أنه نبيٌّ آخر؟
للعلماء في ذلك قولان، والجمهور على أنَّ أصحاب الأيكة هم أهلُ مدين، وإنما أثبتَ الأخوَّةَ في قوله: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا}[الأعراف: 85]بالنظَرِ إلى النسبِ والأصول.
وأمَّا قوله: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ}، ولم يقل: أخوهم، ذاكَ أنه وصَفهُم بما يقتضي مُباينتهم من عبادةِ غيرِ الله عزَّ وجل، حيثُ أضافهم إلى الأيكة، وهي نوعٌ من الشجر كانوا يعبُدونهُ من دون الله عزَّ وجل.
أيها الأخوة والأخوات، أهلُ مدين كانوا على التوحيد، على ملةِ إبراهيم عليه السلام، إلا أنه دبَّ إليهمُ الشرك، وعبدوا غيرَ اللهِ عزَّ وجل، وأضافوا إلى تلك السيئة سيئةً أُخرى تتعلقُ بحقوق الخلق، وهي أنهم كانوا يُنقصون المكيال والميزان.
قال اللهُ تعالى في ذكرِ دعوةِ شعيبٍ لقومه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، وهذا حقُّ اللهِ تعالى الذي يجبُ على الخلقِ جميعاً، وهي أن يعبدوه وحدهُ لا شريك له.
{وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}، وهذا ما تستقيمُ به حياةُ الناس ومعاشهم، وهو العدلُ الذي تصلحُ به الأحوال، فنهاهم عن نُقصانِ المكايل والموازين، الذي يستعمِلونها في إيفاءِ الحقوق واستفائها.
{إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْر}، ذكَّرَهم بنعمةِ اللهِ تعالى عليهم، وهو أنهُ قد أفاضَ عليهم بأنواعٍ من النعم، تُوجبُ عبادةَ اللهِ وحدهُ، وشكرَهُ دونَ ما سواه، وتُوجبُ وفاءَ الحقوقِ لأهلها بعدمِ إنقاصِ المكيال والميزان، {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84].
{عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}، أي: يحيطُ بكم، لا تستطيعونَ منهُ فِكاكَ، ولا تستطيعونَ منهُ هربًا، ولا تستطيعونَ منهُ خلاصًا.
{وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}: أوفوهُ بالعدل، أوفوهُ بما لا نقصَ فيه، ولا إجحاف، لا وكسَ، ولا شطط.
{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}: لا تُنقصوا {النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، وهذا عامٌّ في كُلِّ الأشياء، في جميع أنواعِ المعاملات، وفي جميع أنواعِ ما يكونُ بين الإنسانِ وغيره من الصِلات، سواءً كانَ ذلك في الحقوق المالية، أو كانَ ذلك في الحقوق المعنوية، أو كانَ ذلك فيما يكونُ بين الناسِ من الحقوق.
{وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}[هود: 85]؛ فإنَّ مساركم على هذا الطريق بعبادةِ غيرِ اللهِ عزِّ وجل، وبنُقصانِ المكيالِ والميزان؛ تستوجِبونَ به عقوبةَ اللهِ عزَّ وجل.
وأضافوا إلى تلكَ السيئات سيئةً أُخرى، حيثُ كانوا يصدون عن سبيلِ الله، ويقعدونَ في طُرقاتِ الناس، يؤذُونهم، ويبخسونهم حقوقهم، ويسلِبونهم أموالهم، قال: {وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا}، أي: تريدونها مائلة، تريدونها كما تهوون وتشتهون من الفسوق والفجورِ والفساد.
ثم ذكَّرهم بنعمةٍ من نعمِ الله تعالى عليهم، وهو ما أفاضَ عليهم من التكثير، وهو الوفرَةُ في العددِ والمال: {إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 86].
ذكَّرهم بما أجراهُ اللهُ تعالى من الآيات، وبما أنزلهُ من العقوبات التي يعلمونَ ويعرِفونَ، والتي جرت لأقوامٍ ليسو عنهم ببعيد، كما قال تعالى: {لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} [هود: 89].
القوم أصروا على عنادهم واستكبارِهم، وأضافوا إلى ذلك استهزاءً وسخريةَ بشعيب عليه السلام، قالوا لهُ:
{أَصَلَاتُك}، أي: هذه العبادة التي تتعبَّدُ بها ربَّك {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}: أن نترُكَ ونهجُرَ هذه الأصنام، وهذه المعبودات التي نتوجهُ إليها.
{أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ}: صلاتُك تحمِلُك على أن تُقيِّدنا فيما نتصرَّف فيه من أموالنا.
ثم تهكموا به قائلين: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}[هود: 87]، فكيف يصدرُ منكَ ذلك؟ على وجه الاستهزاء والسخرية.
عادَ إليهم مُجيباً على شُبهتِهم، وراداً لمُحاجتهم بأسلوبٍ في غاية اللطافة: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}:على طريقٍ واضح، على طريقٍ جلي، على طريقٍ لا لبسَ فيه، ولا غبَش، وهو طريقٌ لم اخترع ولم آتِ بهِ من قِبَلِ نفسي؛ بل طريقٌ دلني عليه ربي الذي هو ربُّ كُلِّ شيء جلَّ وعلا.
{وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}:أمدني بأنواعٍ من الرزق، سواءً الرزق المعنوي، أو الرزق المادي، فقد كانَ عليه الصلاة والسلام مُستغنياً بما أمدَّهُ اللهُ تعالى به من الأرزاق، فلم يكن ذلكَ الأمر صادراً عن حاجةٍ إليهم، أو عن حسدٍ لما آتاهمُ اللهُ تعالى من الأموال، إنما كانَ نُصحاً لهم.
ولذلكَ قال: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}: فأنا أمرتُكم بأمر، ودعوتُكم إلى شيء، أنا أولُ المُلتزمينَ به.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}: هذا غرضي، وهذا قصدي، وهذا الذي أسعى إليه، وهو إصلاحُ حالكم في صِلتكم باللهِ عزَّ وجل، بأن تتركوا عبادةَ غيره، ويَصلحُ ما بينكم في استقامة نظامكم الاقتصادي بمنع الغش، ونقص المكايلِ والموازين، الذي يُفضي إلى فسادِ معاشِ الناس.
{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ}: فالله هو الموفِّق لإدراك تلكَ الغايات، وهو المُيسر لحصول تلكَ المطالب.
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فهو مَلْجئِ، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}فهو ملاذي، فلا ملجأ ومنجى منهُ إلا إليهِ جلَّ في علاه.
ثم بعدَ هذا البيانِ الوافي المُمتلئ رحمةً وشفقةً ونصحاً عادَ إليهم مُطمِّعاً لهم في الأوبةِ والرجعة، والاستغفارِ والإصلاح:{وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}[هود: 90].
فهو جلَّ وعلا يحطُّ السيئات، ويغفرُ الزلات، ويتجاوزُ عن الخطيئات، فما كانَ من قومه إلا الإصرار، ما كانَ من قومه إلا الاستكبار، ما كانَ من قومه إلا العناد، {قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ}: ليس لدينا فهمٌ، ولا معرفة في كثير مما تقول، وكأنهُ يُكلِّمُهم بغيرِ لسانهم، وكأنهُ قد آتاهم بألغاز، وقد جاءهم بالدعوةِ البيِّنةِ الواضحة المختصرة، التي هي عبادةُ اللهِ وحده، وعدمُ نقصِ المكيالِ والميزان.
{وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}: عادوا إلى شُبهةٍ ثانية، برَّروا بها عدم اتِّباعه، وهو أنهم رأوه ضعيفاً، فلم يكن ذا منعةٍ، أو ذا قوةٍ، أو ذا جبروتٍ وسلطان.
ثم قالوا: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ}[هود: 91]، أي: فامتناعنا بالإيقاع العقوبةِ بك، وعدم نيلكَ بما تكره ليسَ لأجل امتناعك، وعزتك علينا؛ بل ذلكَ كله باختيارِنا.
ثم عادوا في بيانِ عظيمِ استكبارهم وعنادهم وكُفرهم: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5].
عادَ إليهم مُذَكِّراً بما يجب عليهم أن يُراعوه: {قَالَ يَاقَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود: 92].
وقد دافعَ شعيبٌ عن أتباعهِ الذين آمنوا به لما قالَ لهُ الملأ: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}[الأعراف: 88]: أتكرِهوننا على عبادةِ الله عزَّ وجل، وعلى الظلم والانحراف، وعدم العدلِ في معاملة الخلق؟
{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا} يستحيلُ شرعاً {أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، أي: احكم بيننا وبينَ هؤلاء المكذبين، احكم بيننا وبين هؤلاء المُعاندين، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.