الحلقة الثانية والعشرون
(( هلاك أهل مدين: قوم شعيب عليه السلام ))
الحمد لله ربِّ العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بين يدي الساعة بالحقِّ بشيراً ونذيرًا، وداعياً إليه بإذنه، وسراجاً منيرًا، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سُنته بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
أيها الأخوة والأخوات، دافعَ شعيبٌ عن أتباعه الذين آمنوا به، لما قال لهُ الملأ: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف: 88]: أتكرِهوننا على عبادةِ الله عزَّ وجل، وعلى الظلم والانحراف، وعدم العدلِ في معاملة الخلق؟ {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا} يستحيلُ شرعاً {أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ}، أي: احكم بيننا وبينَ هؤلاء المكذبين، احكم بيننا وبين هؤلاء المُعاندين، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89].
أيها الأخوة والأخوات، دعا شعيبٌ عليه السلام بأن يفتح اللهُ تعالى بينهُ وبين قومه، وتوسلَ إليه بأنه خيرُ الفاتحين جلَّ في علاهز
والفتحُ هنا المرادُ به: بيان الحجة على وجهٍ لا يلتبس، كما يدخل فيهِ أيضاً فتحُ اللهِ تعالى بمجازاةِ المعاندين، وبإيقاع العقوبةِ على الظالمين، وبإنجاء أولياءه الصالحين، فسأل الله تعالى أن يفتحَ بينهُ وبين قومه بالحق والعدل، وأن يُرِيَهم من آياته وعبَرِه ما يكونُ فاصلاً بينهُ وبين قومه.
ثم إنَّ قوم شعيب اتَّهموه بأنهُ مسحور: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 185-186].
كلُّ ذلك تقديمة لما استعجلوهُ من العقوبةِ، حيثُ قالوا: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187]: أسقط علينا عذاباً، أسقط علينا قطَعاً من العذابِ، تأتينا من السماء، إن كنتَ صادقاً فيما تقول.
وقد قال اللهُ تعالى في بيان صدِّهم عن سبيل الله عزَّ وجل، واستِطالتهم على شعيب: {وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90]، فجاءتهم العقوبة، قال اللهُ تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 91]: رجفت بهم أرضهم، وزُلزِلت من تحتِ أقدامهم زلزالاً شديداً، أزهقتهم، وأذهبت سُلطانهم، ومحت معالم مُلكهم الذي غرَّهم بالله عزَّ وجل.
{فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189]: أصابَهم حرٌّ شديد، أهلكهم، وأهلكَ أموالهم، فصدقَ فيهم قولُ البارئ جلَّ في علاه: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].
فكانت عقوبتهم مركَّبَة من رجفةٍ، وظُلة، وصيحةٍ، أهلكتهم، قال اللهُ تعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 94-95] .
قال ابنُ كثير رحمهُ الله: وقد اجتمعَ عليهم ذلك كلُّه، أصابهم عذابُ يوم الظلة، وهي سحابة أظلَّتهم، فيها شررٌ من نارٍ ولهبٍ ووهجٍ عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفةٌ من الأرضِ شديدةٌ من أسفلَ منهم، فزهِقت أرواحهم، وفاضت نفوسهم، وخمدت أجسادهم.
ثم كانوا كما قال اللهُ تعالى: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92]: زالَ ذلك النعيمُ كله، وتحوَّل ذلك الملكُ كله، كأنهم ما أقاموا في ديارهم، كأنهم ما تمتعوا في عراصاتهم، كأنهم لم يتفيؤا في ظلال بلادهم، ولا غنوا في مصارحِ أنهارها، ولا أكلوا من ثمارِ أشجارها حينَ فجأهم العذاب، فنقلَهم من اللهوِ واللعبِ واللذات إلى مستقر الحُزنِ والشقاءِ، والعقاب والدراكات؛ لذلكَ قال: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 92]: حاصرَهم الخسارُ من كُلِّ جانب، خسروا دنياهم، وخسروا دينهم، وخسروا آخرتهم.
ثم إنَّ شُعيباً عليه السلام تولى عنهم بعدَ أن عاينَ ما أنزلهُ اللهُ تعالى عليهم من العقوبات، وقال مُعاتباً وموبِّخاً، ومخاطِباً قومهُ بعد موتهم، وبعد هلاكهم: {يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [الأعراف: 93]: كيف أحزنُ ويُصيبُني أسى وألم على قومٍ امتلأت قلوبُهم كُفراً وشقاءً ومعاندة لله ورسوله؟
أيها الأخوة والأخوات، أهلكَ اللهُ تعالى قومَ شُعيب، ونجَّى شعيباً والذين آمنوا معه، كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا}: إنَّ الله أنجاهم برحمته، إنَّ الله أنجاهم بإحسانه، إنَّ الله أنجاهم بفضله، إنَّ الله أنجاهم بجوده ورعايته لأوليائه، {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [هود: 94]: أصبحوا في ديارهم هالكين.
وهكذا يتبيِّنُ مآلُ ومصيرُ الفريقين: فريق الإيمان وحزبه، وفريق الكُفر وحزبه؛ إن مآل المؤمنين نجاةٌ لهم في الدنيا والآخرة، وأمَّا الكافرون فهم هالكون مقمحون بكفرِهم وظُلمهم وعنادِهم واستكبارهم، قال اللهُ تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59].
وقالَ سبحانه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس: 13].
فاللهُ تعالى يقيمُ الحُجَّة على الخلق ببعثةِ الرسل، وهدايتهم، ودلالتهم على الطريقِ القويم، فمن آمن بهم نجا، ومن أعرض عما جاؤوا به من الهدى ودين الحقِّ هلك، كما قالَ جلَّ في علاه: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7].
وإنَّ الرُّسُلَ صلوات الله وسلامه عليهم جاؤوا بإصلاح الدنيا والآخرة؛ لذلك كانت دعوتهم لإقامة الصلاح في أمرِ الدين، وفي أمرِ الدنيا، فهذا شعيبٌ عليه السلام الذي سمعنا شيئاً من قصصه وخبره يقولُ لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85].
وقال في الآية الأُخرى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 36].
فجاءت الرسل بإصلاح الدنيا والدين، جاءت الرسل بإصلاح المعاش والمعاد، فمن أخذ بطريقهم وسلكَ سبيلهم فازَ بسعادة الدارين، ومن أعرض عنهم كانَ كما قالَ اللهُ تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
وقد نوَّعَ اللهُ تعالى الهلاكَ للأمم على حسب جرائمهم، وأنواعِ ما وقعُ فيه من استكبارٍ وكفرٍ وإلحاد، كما قال سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت: 40].
ثم كلُّ ذلك الذي وقع للأمم السابقةِ من الهلاك إنما هو حصائدُ أعمالهم، وإنما هو بكفرهم، قال اللهُ تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت: 40].
اللهم ألهمنا رُشدنا، وقنا شرَّ أنفسنا، اكفنا شرَّ كل ذي شرٍّ أنتَ آخذٌ بناصيته، اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.