الحلقة الثالثة والعشرون
(( رؤيا يوسف عليه السلام ))
الحمد لله ربِّ العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، له الحمد كله أوله وآخره، ظاهرهُ وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبعَ سُنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
في هذه الحلقة وما يليها من حلقات إن شاء اللهُ تعالى ستناولُ سيرة نبيٍّ كريم، قصَّ اللهُ تعالى خبرهُ على وجه البسط والتفصيل، وخصَّهُ بسورةٍ من سوَرِ القرآن الحكيم، إنه (يوسف).
إنهُ الكريم بنُ الكريم بنِ الكريم، يوسف بنُ يعقوب بنِ إسحاق بنِ إبراهيم عليه السلام، إنهُ أكرمُ الناس نسباً، إنهُ الكريم بنُ الكريم بنِ الكريم بنِ الكريم، يوسف بنُ يعقوب بنِ إسحاق بنِ إبراهيم عليهم الصلاة والسلام.
يوسف عليه السلام جمعَ اللهُ تعالى قصته وخبره في موضعٍ واحد، فكان سياقُ قصته من أولِ سورة يوسف إلى خاتِمتها كانَ حديثاً عن سيرة هذا النبي من المبدأ إلى المنتهى، من الصغرِ إلى الممات.
يوسف عليه السلام نبيٌّ من أنبياءِ الله الكرام، وهو رسولٌ أرسلهُ اللهُ تعالى إلى أهل مصر، كما قالَ جلَّ في علاه فيما أخبرَ به من قولِ مؤمن آل فرعون، حيثُ قال جلَّ في علاه: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر: 34].
فيوسف عليه السلام رسولٌ كريم من رُسلِ الله عزَّ وجل، وقد بدأ اللهُ تعالى الخبرَ عنهُ بالإشادةِ بقصته، وما كانَ من أخباره وأحداثه، كما قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3].
وقصةُ يوسف من أحسنِ القصص؛ لكنَّها ليست أحسنَ قصص القرآن، فأحسن قصصُ القرآن ما كرره اللهُ تعالى، وفصَّلَ فيه في كثيرٍ من سور القرآن، إنها قصةُ موسى عليه السلام.
ابتدأَ اللهُ تعالى الخبرَ عن يوسف بذكرِ الرؤيا، التي قصَّها على أبيه، لقد رأى يوسف عليه السلام في منامه رؤيا، فقصَّها على أبيه، قال اللهُ تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].
هذا مبدأُ خبرِ الله تعالى عن يوسف عليه السلام، يقصُّ وباختصار قصةَ منامٍ رآه، فأخبر به أباه، كما قال تعالى: {يَاأَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ}، أي: في المنام {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
ولقد علِمَ يعقوب عليه السلام أنهُ سيكونُ لابنه يوسف شأنٌ عظيمٌ، وسينالُ رُتبةً عليَّة، ومنزلةً سامية في الدنيا والآخرة؛ لذلك أوصاهُ بوصية خوفاً عليه، {قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ}: لا تُخبرهم بما رأيت، ولا تُخبرهم بمنامك؛ فإنَّ إخباركَ إياهم بهذا المنام، الذي تَضمَّن البشارة بعظيمِ الفضل وكبير المنزلة التي ستؤولُ إليها سيثيرُ في أنفسهم ضغائن الحسد، وسيبعثُ فيها دوافع الكيد، {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يوسف: 5].
ويعقوب عليه السلام إنما نهاهُ عن هذا لما تبيَّنَ لهُ من سيرة أبنائه، أنَّ صدورهم لم تكن سليمةً على يوسف عليه السلام، وقد أخبرَ اللهُ تعالى أنَّ في هذه القصة وفي هذا الخبر من الآياتِ ما هو نوعٌ من العجب، قال اللهُ جلَّ في علاه: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7] عبرٌ وعظات.
أيها الأخوة والأخوات، إنَّ يعقوب عليه السلام لمَّا أخبرهُ يوسف عليه السلام بهذه الرؤيا التي رأها استبشرَ بها، وسبب استبشاره: أنَّ رؤيا الأنبياء حق، كما نقلَ الترمذي عن ابن عباس، وقد جاءَ عن عبيد بن عُمير، ويُصدِّقُ ذلك ما في الصحيحين من حديث مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا الحسنةُ من الرجلِ الصالح جُزْءٌ من ستةٍ وأربعينَ جُزْءًا من النبوة» أخرجه البخاري (6983).
وقد جاءَ نظيره في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رؤيا المؤمن جزءٌ من ستةِ وأربعين جزءًا من النبوة» أخرجه البخاري (6988)، ومسلم (2263).
وقد كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بُدِءَ بالوحي إليه أولاً بالرؤيا، كما قالت عائشة أم المؤمنين رضي اللهُ تعالى عنها: «أول ما بُدِئَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من الوحي: الرؤيا الصالحة في المنام، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثلَ فلقِ الصبح» أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160).
وإبراهيمُ عليه السلام لمَّا رأى في المنام أنهُ يذبح ابنه ما كانَ عندهُ ترددٌ في امتثال ما رأه، وعدَّ ذلكَ أمراً من اللهِ عزَّ وجل، فأخبرَ به إسماعيل، حيثُ قال: {يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} .
فقال لهُ إسماعيل لعلمهِ بصدق رؤيا الأنبياء، وأنَّ رؤيا الأنبياء حق: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}، فجعل ما رآهُ في المنام أمراً لازماً لهُ ولأبيه: {يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].
وهكذا رؤيا المؤمن، فإنَّ رؤيا المؤمن حقٌّ؛ لأنها من الله، وقد جاءَ في الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا من الله فهيَ حقٌ» أخرجه البخاري (6985).
وهكذا رؤيا المؤمن فقد جاءَ في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أيها الناس، إنه لم يبقَ من مُبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم أو تُرى له» أخرجه مسلم (479)..
وقد جاء في الصحيحين من حديث أبي قتادة أنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا من الله» أخرجه البخاري (5747)، ومسلم (2261).
فالرؤيا لها منزلة عُظمى، ولها مكانة كبيرة، لاسيما إذا كانت من المؤمن، فإنه يُستشرفُ بها ما يكونُ في المستقبل؛ ولذلك أوصى يعقوبُ عليه السلام ابنهُ بأن يكتُمَ ما رأى؛ خشيةَ أن يكونَ ذلكَ سبباً لكيدٍ ينالُ يوسف عليه السلام، ويحصلُ لهُ به ضرر.
أيها الأخوة والأخوات، لمَّا كانت الرؤيا بهذه المنزلة، وأنها نوعٌ من الوحي؛ جاء التغليظ الشديد في الكذب في الرؤيا، ففي الصحيح من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما من أعظم الفِرَى أن يُدعى الرجلُ إلى غير أبيه، أو يُريَ عينهُ ما لم ترَ» أخرجه البخاري (3509).، أي: أن يُخبِرَ أنه رأى في المنام شيئاً ولم يكن قد رآه؛ لهذا ينبغي للمؤمنِ أن يتحرى في شأن الرؤيا لا في الإخبارِ بها، ولا في عَبْرِها، وتفسيرها، فإنها من الله، وهي وحيٌ إن كانت صالحةً صادقة.
أيها الأخوة والأخوات، إنَّ مما يُبرزُ عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالرؤيا، وأنها ذاتُ مكانة ومنزلة أنه كان إذا صلى صلاة الفجر أقبلَ عليهم بوجهه، فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا» أخرجه البخاري (1386)، فإن رأى أحدٌ رؤيا قصَّها، فيقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم في ذلك ما شاء اللهُ أن يقول.
إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الّذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.