إِنَّ الحَمْدَ للهِ, نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا وَسَيِّئاتِ أَعْمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِلَهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ؛ فاللهِ تَعالَى أَمَرَكُمْ بِتَقْواهُ، وَوَعَدَكُمْ عَلَى التَّقْوَى أَجْرًا عَظِيمًا، وَفَضْلًا كَبِيرًا، وَثَوابًا جَزِيلًا {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} الزمر: 61 .
أَيُّها المؤْمِنُونَ، عِبادَ اللهِ، خَطَبَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحابُهُ يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ، فَقالَ: «يَا أيُّها النَّاسُ، إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا»مُسْلِمٌ(1337). فَأَخْبِرْهُمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهذا النِّداءِ عَنْ فَرْضٍ مِنَ الفَرائِضِ العَظِيمَةِ، وَرُكْنٍ مِنْ أَرْكانِ الإِسْلامِ الوَطِيدَةِ، وَدِعامَةٍ مِنْ دَعائِمِهِ الَّتي لا يَقُومُ إِلَّا بِها.
وَفي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ تَعالَى عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُنِيَ الإِسْلامُ على خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ»البخاري(8), ومسلم(16).
هَذِهِ أُصُولٌ لا يَصِحُّ إِسْلامُ أَحَدٍ إِلَّا بِها، وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِمَّنْ جَرَى عَلَيْهِ قَلَمُ التَّكْليِفِ أَنْ يُفَتِّشَ في نَفْسِهِ عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ، في التَّوْحِيدِ الَّذي هُوَ أَصْلُ الأُصُولِ {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} البينة: 5 ، لِئَلَّا يَكُونَ في قَلْبِكَ مُعَظَّمٌ إِلَّا اللهُ، وَلا مَحْبُوبٌ إِلَّا هُوَ جَلَّ في عُلاهُ، تَعْظِيمًا عِبادِيًّا، وَمَحَبَّةً عِبادِيَّةً لَهُ، لا يُشْرِكُهُ فِيها غَيْرُهُ.
فَهَذا أَصْلُ إِقامَةِ تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ في القُلُوبِ، فَلا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مَعْناها: لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، لا مَعْبُودَ يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ إِلَّا اللهُ، فَكُلُّ ما عُبِدَ مِنْ دُونِهِ وَمِنْ سِواهُ باطِلٌ؛ كَما قالَ جَلَّ وَعَلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} الأحقاف: 5-6 .
فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُحَقِّقَ هَذا الأَصْلِ، ثُمَّ يُتْبِعُ ذَلِكَ بِما يَتَحَقَّقُ بِهِ تَوْحِيدِهِ، وَيَتَأَكَّدُ بِهِ إِفْرادُهُ بِالعِبادَةِ؛ بِأَنْ يُقِيمَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتِي الزَّكاةِ، وَيَصُومَ رَمَضانَ، وَيحُجَّ البَيْتَ.
لَيْسَ في هَذِهِ تَرَفٌ، فَهِيَ مُتَفاوِتَةٌ في المنازِلِ لَكِنَّها مَطْلُوبَةٌ في الإيجادِ، فَلَيْسَ فيها شيءٌ يُغْني عَنِ شَيْءٍ. فالصَّلاةُ لا تُغْنِي عَمَّا سِواها، وَهِيَ رَأْسُ الأَعْمالِ وَعَمُودُ الإِسْلامِ، وَالزَّكاةُ لا يُغْنِي عَنْها غَيْرُها؛ كَما الصَّوْمُ لا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقامَهُ، وَالحَجُّ كَذلِكَ.
وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَغْفُلُ عَنْ وَاجِبٍ فَرَضَهُ اللهُ تَعالَى عَلَى النَّاسِ مَرَّةً في العُمُرِ وَهُوَ الحَجُّ؛ وَلِذَلِكَ جاءَ فِيهِ مِنَ التَّأْكِيدِ عَلَى وُجُوبِهِ وَالقِيامِ بِهِ ما يَنْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يُبادِرَ إِلَيْهِ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ في أَدائِهِ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يَرْضَى اللهُ تَعالَى بِهِ عَنْهُ، وَأَلَّا يَتَأَخَّرَ في ذَلِكَ ما دامَتْ قَدْ تَوافَرَتْ فِيهِ شُرُوطُ الوُجُوبِ.
فاللهُ تَعالَى قَدْ قالَ في مُقَدِّمَةِ فَرْضِ الحَجِّ، قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَهُ بَيَّنَ فَوائِدَهُ وَثِمارَهُ وَأَسْبابَهُ وَما يَدْعُو إِلَيْهِ {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} آل عمران: 96، 97 ، كُلُّ هَذِهِ المقَدِّمَةِ تَمْهِيدًا لِلأَمْرِ الَّذي جاءَ بَعْدَها؛ فَقَدْ قالَ الله تَعالَى بَعْدَ ذَلِكَ: {ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ} آل عمران: 97 .وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الغَفْلَةِ عَنْ هَذا الحَقِّ فَقالَ: {ومَنْ كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} آل عمران: 97 .
فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُبادِرَ إِلَى أَداءِ هَذا النُّسُكِ مَتَى ما اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، مَتَى ما تَوَفَّرَّتْ فِيهِ شُروطُ الوُجُوبِ مِنْ: الإِسْلامِ، وَالبُلُوغِ، وَالحُرِّيَّةِ، والاستطاعة؛ عَلَيْهِ أَنْ يُبادِرَ إِلَى أَداءِ هَذا الفَرْضِ، وَليَحْتَسِبِ الأَجْرَ عِنْدَ اللهِ؛ فَإِنَّهُ زادٌ عَظِيمٌ يَفْرَحُ بِهِ عِنْدَ لِقاءِ رَبِّهِ؛ وَلِذَلِكَ لما ذَكَرَ اللهُ فَرْضَ الحَجَّ فَقالَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} البقرة: 197 ، قال: {وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} البَقَرَةُ: 197 ، فَهَذِهِ رِحْلَةُ تَزَوُّدٍ، وَاسْتِعْدادٍ، وَاسْتِكْثارٍ مِنَ الخَيْرِ، وَتَأَهُّبٍ لِلِقاءِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
فالزَّادُ الَّذي تَنالُهُ بِالحَجِّ لا تَنالُهُ بِسواهُ؛ جاءَ في الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». وجاء أيضًا في الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ»البُخارِيُّ(1773), وَمُسْلِمٌ(1349).رِحْلَةٌ في أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ، وَأَعْمالٍ مَحْدُوداتٍ، وَتَكْلِفَةٍ مُيَسَّرَةٍ يَنالُ بِها الإِنْسانُ هَذا الفَضْلَ العَظِيمَ وَالأَجْرَ الكَبيرَ، يَحُطُّ اللهُ بِها الخَطايا، وَيَبَلِّغُكَ اللهُ بِها المنازِلَ العُلْيا؛ الجَنَّةَ -نَسْأَلُ اللهَ أَنْ نَكُونَ مِنْ أَهْلِها-.
فـ«مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجِعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»، و«الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةَ«البخاري(1521), ومسلم(1350).
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى طاعَتِكَ، وَاسْلُكْ بِنا سَبِيلَ الرَّشادِ يا رَبَّ العالمينَ، أَقُولُ هَذا القَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبارَكًا فِيهِ كَما يُحِبُّ رَبنُّا وَيَرْضَى، أَحْمَدُهُ حَقَّ حَمْدِهِ، لا أُحْصِي ثَناءً عَلَيْهِ هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنِ اتَّبَعَ سُنَّتَهُ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ بِإِحْسانٍ إِلَىَ يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ أَيُّها المؤْمِنُونَ، اتَّقُوا اللهَ تَعالَى حَقَّ التَّقْوَى، بَادِرُوا بِقضاءِ ما فَرَضَهُ اللهُ تعالَى عَلَيْكُمْ مِنَ الواجِباتِ؛ فَإِنَّ أَحَبَّ ما تَقَرَّبْتُمْ بِهِ إِلَى اللهِ أَنْ تَقُومُوا بِما أَوْجَبَ عَلَيْكُمْ.
جاءَ في الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبُّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ» - وَهَذِهِ المرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ - «حَتَّى أُحِبَّهُ» - التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ بِالمسْتَحَبَّاتِ وَالتَّطَوُّعاتِ - «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهِا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنِ اسْتَنْصَرَنِي لَأَنْصُرَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنَيِ لَأُعِيذَنَّهُ«البخاري(6502).
أَيُّها المؤْمِنُونَ, إِنَّ مِنَ الملاحَظِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ التَّسْوِيفِ وَالتَّأْجِيلِ وَالتَّأْخِيرِ في فَرْضِ الحَجِّ حَتَّى يَبْلُغَ بَعْضُ النَّاسِ مَبْلَغًا مُتَقَدَّمًا مِنَ العُمْرِ وَهُوَ في صِحَّةٍ وَعافِيَةٍ وَسَعَةٍ مِنَ المالِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَحُجُّ؛ تَجِدُهُ طافَ بِلادَ الدُّنْيا، بَلْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْتَدِينُ لَيَتفَسَّحَ وَيَتَنَزَّهَ يَمْنَةً ويَسْرَةً، فَإِذا جاءَ الحَجُّ قالَ: عَليَّ دَيْنٌ، ما أَسْتَطِيعُ، أَصْبِرُ. أَشُوفُ، وَما إِلَى ذَلِكَ مِنَ الأَعْذارِ، الَّتي قَدْ تَكُونُ حَقِيقَةً فَيَعْذُرَهُ اللهُ تَعالَى بِها، وَقَدْ تَكُونُ تَبْرِيرًا لِتَأْخِيرِهِ وَتَسْوِيفِهِ عِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ اللهُ جَلَّ وَعَلا: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} المدثر:38 ، وَيَقُولُ: {ومَن كَفَرَ فَإنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} آل عمران:97 .
اللهُ لَيْسَ بِحاجَةٍ إِلَى كَدِّنا وَتَعَبِنا، فاللهُ غَنِيٌّ عَنَّا وَعَنْ عِبادَتِنا، إِنَّما ذَاكَ لِنَفْعِنا؛ كُلُّ عِبادَةٍ، وَكُلُّ طاعَةٍ، وَكُلُّ قُرْبَةٍ تَتَقَرَّبُ بِها إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْتَ المنْتَفِعُ، وَأَنْتَ المسْتَفِيدُ، وَالفائِدَةُ تَعُودُ إِلَيْكَ. أَمَّا اللهُ فَهُوَ الغَنِيُّ عَنَّا وَعَنْ عِبادَتِنا؛ «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي» قَرَّبَ اللهُ هَذا المعْنَى بِتَصْوِيرٍ في حَدِيثِ أَبا ذَرٍّ فَقالَ: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ» كُلُّ المكَلَّفِينَ مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ «كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» يَعْنِي الجَمِيعَ كانُوا في التَّقْوَى وَالإيمانِ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَتَقْى الخَلْقِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَتْقَى الثَّقَلَيْنِ، لَوْ كانَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ في الطَّاعَةِ وَالِإخْباتِ وَالِإقْبالِ عَلَى اللهِ «مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، وَلَوْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ» عَلَى قَلْبِ فَرْعَوْنَ، أَوْ مِنْ أَشْقَى مِنْهُ في الكُفْرِ، وَالجُحُودِ، وَالإِعْراضِ وَالاسْتِكْبارِ، ما كانَ ذَلِكَ نَقْصًا في مُلْكِه وَحَقِّهِ جَلَّ في عُلاهُ «مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا«مسلم(2577).
إِذا كانَ ذَلِكَ فاعْلَمْ أَنَّ عِبادَتَكَ؛ صَلاتَكَ، وَصَوْمَكَ، وَحَجَّكَ، وَزكاتَكَ، وَسائِرَ ما تَتَقَرَّبث بِهِ أَنْتَ المنْتَفِعُ بِهِ {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} الإِسْراءُ:15 ، لَيْسَ فَقَطْ في الآخِرَةِ، وَما يَكُونُ فِيها مِنَ الأُجُورِ وَالثَّوابِ، بَلْ حَتىَّ في الدُّنْيا، فَلَنْ تَنالَ سَعادَةً وَلا انْشَراحًا، وَلا طُمَأْنِيَنَةً، وَلا سَكَنًا، وَلا بَهْجَةً، وَلا سُرُورًا إِلَّا بِتَحْقِيقِ الطَّاعَةِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَحْقِيقُ العُبُودِيِّةِ لَهُ جَلَّ في عُلاهُ {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} الرعد:28 .
هَذِهِ الطُّمَأْنِينَةُ، هَذِهِ السَّكِينَةُ لا يُمْكِنُ أَنْ تُشْتَرَى بِمالٍ، وَلا يُمْكِنُ أَنْ تُدْرِكَ بِجاهٍ، هَذِهِ الطُّمْأَنْيِنَةُ الَّتي تَغْشَى القُلُوبَ لا يُحَصِّلُها الإِنْسانُ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَلا يُدْرِكُها إِلاَّ بِأَنْ يَكُونَ ذاكِرًا للهِ، وَلَيْسَ الذِّكْرُ تَمْتَمةً وَهَمْهَمَةً باِللِّسانِ يَخْلُو مِنْها القَلْبُ وَيَتَجَرَّدُ مِنْها الفُؤادُ، بَلِ الذِّكْرُ ابْتِداءً يَكُونُ في قَلْبٍ يَذْكُرُ اللهُ وَيُعَظِّمِهُ، وَيَنْطَلِقُ اللِّسانُ مُعَبِّرًا عَنْ هَذا التَّعْظِيمِ، وَالجَوارِحُ مُمْتَثِلَةٌ لِذَاكَ القَلْبِ المُعظِّمِ للهِ «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّه، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ«البُخارِيُّ(52), وَمُسْلِمٌ(1599).
إِذا عَرَفْنا هَذا، وَتَيَقَّنا أَنَّ كُلَّ طاعَةٍ هِيَ مِنْ مَصْلَحَتِنا في الدُّنْيا وَالآخِرَةِ، وَكُلُّ مَعْصِيَةٍ هِيَ نَقْصٌ عَلَيْنا في دُنْيانا وَأُخْرانا، سَنَجِدُ عَوْنًا في الإِقْبالِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَفي الإنْزِجارِ عَنِ السَّيِّئاتِ لأَنَّ كُلَّ طاعَةٍ تُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ، وَتُقَرِّبُكَ إِلَى السَّعادَةِ، وَكُلُّ مَعْصَيَةٍ تُبْعِدُكَ عَنِ اللهِ، وَتُوقِعُكَ في الشَّقاءِ {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} طه: 124-126 ، تَرَكْتَها؛ النِّسْيانُ هُنا التَّرْكُ، وَلَيْسَ النِّسْيانُ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ الإِنْسانُ {فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} طه: 126 أَيْ: كَذَلِكَ اليَوْمِ تُتْرَكُ في النَّارِ كَما تَرَكْتَ الطاعاتِ في الدُّنْيا.
الَّلهُمَّ أَلْهِمْنا رُشْدَنا، وقِنَا شَرَّ أَنْفُسِنا، وَأَعِنَّا عَلَى طاعَتِكَ، وَاصْرِفْ عَنَّا مَعْصِيَتِكَ. اسْلُكْ بِنا سَبِيلَ الرَّشادِ، اهْدِنا سُبَلَ السَّلامِ، أَعِنَّا عَلَى الطَّاعَةِ وَالِإحْسانِ، اجْعَلْنا مِنْ حِزْبِكَ وَأَوْلِيائِكَ يا رَحْمَنُ.
أَيُّها المؤْمِنُونَ, مَنْ أَرادَ مِنْكُمْ الحَجَّ فَلْيُبادِرْ بِالاسْتِعْدادِ لَهُ بِما يَسَّرَ اللهُ تَعالَى مِمَّا يَحْتاجُهُ مِنْ تَعَلُّمٍ وَتهيُّؤٍ وَمالٍ، وَتَرْتِيباتٍ، فالوَقْتُ قَرِيبٌ.
نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُيَسِّرَ لَنا الطَّاعَةَ، وَأَنَّ يُعِينَنا عَلَيْها، وَأَنْ يَجْعَلَ حَجَّ هَذا العامَ حَجًّا مُبارَكًا مُيَسَّرًا، وَأَنْ يَحْفَظَ الحُجَّاجَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ وَسُوءٍ، وَأَنْ يُسَهِّلَ ذَهابَهُمْ وَرُجُوعُهُمْ عَلَى أَحْسَنِ حالٍ.
اللَّهُمَّ مَنْ أَرادَنا وَأَرادَ المسْلِمينَ بِسُوءٍ فاشْغَلْهُ بِنَفْسِهِ، اللَّهُمَّ اشْغَلْهُ بِنَفْسِهِ، وَاكْفِنا شَرَّهُ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الَّلهُمَّ آمِنَّا في أَوْطانِنا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنا وَوُلاةَ أُمُورِنا، وَاجْعَلْ وِلايَتَنا فِيمَنْ خافَكَ وَاتَّقاكَ وَاتَّبَعَ رِضاكَ يا رَبَّ العالمينَ.
الَّلهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفافَ وَالرَّشادَ وَالغِنَى، رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ، الَّلهُمَّ مَنْ أَرادَ بِالمسْلِمينَ شَرًّا وَسَعَى في إِفْسادِ بِلادِهِمْ، وَزَعْزَعَةِ أَمْنِهمْ فَعَلَيْكَ بِهِ فَإِنَّهُ لا يُعْجِزُكَ، اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجالَ أَمْنِنا، اللَّهُمَّ سَدِّدْهُمْ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ، اللَّهُمَّ كُنْ لَهُمْ مُعِينًا وَظَهِيرًا، اللَّهُمَّ انْصُرْ جُنُودَكَ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ لِإعْلاءِ كَلِمَتِكَ وَالذَّبِّ عَنْ بِلادِكَ، اللَّهُمَّ يَسِّرْ لَهُمْ نَصْرًا عاجِلًا، وَرُدَّهَمْ سالمينَ غانِمينَ، وَاحْفَظْهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنا الملِكَ سَلْمانَ إِلَى ما تُحِبُّ وَتَرْضَى، خُذْ بِناصِيَتِهِ إِلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ أَعِنْهُ وَسَدِّدْهُ، وَاجْعَلْ لَهُ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانًا نَصِيرًا، وَفِّقْ وُلاةَ أُمُورِ المسْلِمينَ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْهُمْ رَحْمَةً لِعِبادِكَ وَرَعاياهُمْ يا رَبَّ العالمينَ.
الَّلهُمَّ أَنْجِ المسْتَضْعَفِينَ في سُورِيَّا، وَالعِراقِ، وَاليَمَنِ، وَسائِرِ البُلْدانِ، اللَّهُمَّ أَنْجِهِمْ يا رَبُّ، اللَّهٌمَّ أنْجِهِمْ بِرَحْمَتِكَ، وَأَمِدَّهُمْ بِعَوْنِكَ، وَاكْتُبْ لَهُمْ فَرَجًا يا رَبَّ العالمينَ، اللَّهُمَّ اصْنَعْ لَهُمْ ما يُسَرُّونَ بِهِ، وَاخْذُلْ أَعْداءَهُمْ وَمَنْ تَرَبَّصَ بِهِمْ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّك حَميدٌ مَجيدٌ.