المقدم: دكتور خالد حديثنا مستمرٌ في أركان الصلاة وتحديدًا في السجود، نقف اليوم مع أذكار السجود، ومع ما يقوله المصلي في سجوده.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالسجود هو من شعائر الصلاة التي لا تصح الصلاة إلا بها، وقد ذكرنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسجد وأمر بالسجود، كما أمر الله ـ تعالى ـ وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «أُمرنا أن نسجد على سبعة أعظم»[صحيح البخاري:ح810] وعمدة السجود وضع الجبهة على الأرض، فلا يصح سجودٌ بلا وضع الجبهة على الأرض، وهذه الهيئة يدرك كل إنسان أنها لا تكون إلا لتعظيم.
حتى غير المسلم إذا رأى شخصًا قد وقع أشرف ما فيه وهو على الأرض لا يتصور أن هذا إلا لتعظيم، ولهذا كان في الأمم السابقة يُفعل على وجه التحية، لكن في هذه الشريعة لا يُسجد إلا لله ـ تعالى ـ ولهذا لما سجد للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذُ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ وهو من فتيان الصحابة وشباباهم ـرضي الله عنهم ـ ذهب إلى الشام فرآهم يسجدون لكبرائهم وعظمائهم فقال لما رجع للمدينة رسول الله أحق بالتعظيم من هؤلاء، فسجد فنهاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له: «لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها»[أخرجه ابن حبان في صحيحه(4171)، والحاكم في مستدركه(7325)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ". ووافقه الذهبي]، ولكن لا يُسجد إلا لله.
فلهذا لا يسجد أحد تعبدًا إلا لله الواحد الديان، ولا يجوز لأحد أن يسجد، ولو سجد لغير الله فإن السجود لغير الله هو في الحقيقة صرف لعبادة جليلة إلى غير الله، ومعلوم باتفاق علماء الإسلام على اختلاف مذاهبهم وتنوع طرائقهم أنه إذا صرفت العبادة التي لا تكون إلا لله، إذا صُرفت لغيره كانت شركًا، ولهذا السجود لغير الله ـ تعالى ـ هو من الشرك، ولهذا ينبغي للمؤمن أن يحرص أن يُبعد نفسه عن أن يسجد لغير الله.
ولهذا أقول لإخواني الذين يقع منهم خطأ فيسجدون توهمًا، تعظيمًا لأحد، أو يسجدون تحيةً، أو يسجد بعضهم كما يفعل بعض الناس فيسجد عند القبر، كل هذا من الجهل الذي ينبغي أن يُعلم أنه يوقِع الإنسان في مهلكة، فإذا كان الساجد عند القبر للقبر أي للمقبور فإنه شركٌ أكبر، صرف العبادة لغير الله فيستعيذ بالله وليجدد إسلامه، وأما إن كان السجود عند القبر لله ـ تعالى ـ فنقول: إن هذا إحداث، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «لا تُصلُّوا إلى القبور»[صحيح مسلم:972/98]، كما في حديث مرثد بن أبي مرثد الغنوي ـ رضي الله عنه ـ في صحيح الإمام مسلم.
إذًا خلاصة هذا الكلام أن السجود عملية تعظيم، فعلٌ يعظم فيه الإنسان الله- جل وعلا- بأعلى ما يكون، وهو أن يضع جبهته لله ـ تعالى ـ في الأرض، هذا الذل وهذا التعظيم يقارنه تعظيمٌ قولي؛ لأن الصلاة مبناها على أقوال وأفعال، فليست أفعالًا مجردة من أقوال، بل هي أقوال وأفعال، وعمدة الأفعال أن تكون تعظيمًا، وكذلك الأقوال أن تكون تعظيمًا حتى يتفق المظهر مع المنطق مع المخبر وهو القلب الذي إذا استشعر هذه المعاني لان وطاب وزكى.
إن المؤمن إذا سجد لله ـ تعالى ـ فيُشرع له أن يُكثر من دعاء الله ـ جل وعلا ـ ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه مسلم من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: «ألا وإني قد نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا»، فأخبر أنه لا يقرئ القرآن في حال الركوع، ولا يقرئ القرآن في حال السجود؛ لأن القرآن كلام رب العالمين فناسب أن يقرأه الإنسان حال القيام لا حال الانخفاض والانحناء في السجود.
ثم قال في بيان ما يقال في هذين الركنين الركوع والسجود، قال: «أما الركوع فعظِّموا فيه الربِّ» بألوان التعظيم المشروعة، «وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فَقَمِنٌ» أي جديرٌ، حقيقٌ، قريبٌ، «أن يستجاب لكم»[صحيح مسلم(479/207)]، فالسجود مداره على الدعاء، وهذا لا يعني أنه لا يكون مع الدعاء تعظيم، بل التعظيم نوع من الدعاء، ولهذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي»[صحيح البخاري:ح794، وصحيح مسلم(ح484/217)]، كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها.
هذا الذكر كان يقوله في ركوعه ويقوله في سجوده، فهو من الأذكار المشتركة في الركوع والسجود، وكذلك «سُبُّوح قُدُّوس ربُّ الملائكة والروح» [صحيح مسلم(487)]كان يقوله -صلى الله عليه وسلم- في ركوعه، ويقوله أيضًا في سجوده كما في الصحيح من حديث عائشة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: «سَجَد وجهي للذي خَلَقه وصوَّره، وشقَّ سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين»[صحيح مسلم(771/201)]، هذا في صحيح الإمام مسلم من حديث علي رضي الله عنه.
وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول في سجوده من التسبيحات «سبحان ربي الأعلى»[صحيح مسلم(772/203)]، جاء ذلك في حديث حذيفة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا سجد قال: «سبحان ربي الأعلى»، وفي حديث عقبة بن عامر: لما نزلت {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]،قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «اجعَلُوها في رُكوعِكم» فلما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]قال: "اجعَلُوها في سُجودِكم" [أخرجه أبو داود في سننه(869)، والحاكم في مستدركه(3783)، وقال:هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ". ووافقه الذهبي]، فكان يقول: سبحان ربي الأعلى في سجوده، وأما في الركوع فكان يقول: «سبحان ربي العظيم»[صحيح مسلم(772/203)]، هذا لا يعني أنه لم يكن يدعو، بل كان يدعو كما ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في سجوده أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك».
هذا الذكر العظيم أخبرت به عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: فقدت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلةً، فطلبته، فوقعت يدي على قدميه منصوبتين في المسجد وهو ساجد وهو يقول: «أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».[صحيح مسلم(486/222)]
إذًا هذا جمع بين السؤال والطلب والدعاء وبين التعظيم، لا أحصي ثناءً عليك مهما بذلت من الجهود، وأتقنت العبارات، وحبَّرت الكلمات فإنني لا أبلغ ما لك من الكمالات جل في علاه سبحانه وبحمده، هذا لا أحصي ثناءً عليك.
مما ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يقوله في سجوده، أنه كان يقول فِي سُجُودِهِ:« اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ، وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ» [صحيح مسلم(483/216)] هذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا أنبِّه أن المغفرة لا يكفي فيها أن يقول الإنسان: رب اغفر لي، بل هو محتاج إلى مزيد بيان وإيضاح حتى يشمل كل ما يكون من جوانب القصور والتقصير في عمله، فيقول: «اللهم اغفر لي ذنبي كله» وهذا عموم يشمل كل الذنوب الظاهرة والباطنة، ثم يأتي التفصيل «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أعلنت وما أسررت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت».[صحيح البخاري(6317)]
كل هذه مما كان يدعو به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صلاته، أيضًا ثبت عنه أنه لما سأله صديق الأمة من هو؟
المقدم: رضي الله عن أبي بكر.
الشيخ: أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ خير الناس بعد النبيين أبو بكر، هذا الذي ينال منه بعض الناس هو خير الناس بعد النبيين، سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول: يا رسول الله علمني دعاءً أدعو به في صلاتي؛ لأنها مواطن إجابة الدعاء، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كبيرًا» وفي بعض الروايات «كثيرًا».[أخرجه البخاري في صحيحه(834)، ومسلم(2705/48)، ولفظ «كبيرا» عند مسلم]
المقدم: أستأذنك يا شيخ حيث نتحول مشاهدي الكرام إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة لنقل آذان صلاة المغرب ثم نعود إليكم.
دكتور خالد كنت قطعت حديثك قبل الأذان، لو تتم الحديث حفظك الله! ثم نريد أن نقف بعده مباشرة يا شيخ مع ما سوى ذلك من الأدعية، للإنسان أن يدعو ويسأل الله سبحانه وتعالى أمور دنيا.
الشيخ: فيما يتصل بتتمة الحديث كنت أقول: إن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ سأل النبي عن ما يدعو به في صلاته، فوجَّهه إلى أن يقول: «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا» وفي رواية «كبيرًا»، «وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت؛ فاغفر لي مغفرةً من عندك، إنك أنت الغفور الرحيم»، فهذا مما يقال أيضًا في السجود، ويقال أيضًا في آخر السجود.
أما ما يتصل بهل يدعو الإنسان بغير هذا؟ هذا نبذة وشيء مما جاءت به السنة، لكن لا يعني أنه يقتصر على هذا، بل هذا ما جاء في السنة يقوله، ثم يدعو بما شاء من أمر دينه وأمر دنياه، ولهذا ما قاله بعض الفقهاء من أنه لا يدعو بأمر الدنيا في صلاته، فهذا ليس بصحيح؛ لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول: «فليدعو بما شاء، ثم ليتخيَّر من الدعاء أعجبه إليه».[صحيح البخاري(835)]
وفي هذا الحديث حديث ابن عباس «وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء» وهذا يشمل كل ما يدعو به الإنسان، «فقمنٌ أن يستجاب لكم»، وهذا مما أحث نفسي وإخواني عليه، كثير من الناس يغفل عن هذا الموطن العظيم الذي يكون فيه العبد قريبًا من ربه، يقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ كما في الصحيح «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»[صحيح مسلم(1017)] فينبغي أن يستغل هذه الفترة وهذه اللحظة التي يكون فيها بين يدي الله الكريم المنان الذي بيده ملكوت كل شيء، فليسأل وليتضرع وليعظمه وليمجِّده، وليسأله من كل ما شاء من الدقيق والجليل، والله لو لم ييسر الله لك شربة ما تيسر، فسله من كل خيرٍ فهو -جل وعلا- قد قال معرفًا به نبيه، «لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ، وَليَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ، إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لاَ مُكْرِهَ لَهُ "»[صحيح البخاري:( 7477)]، والله ـ تعالى ـ إنما إذا أراد شيئًا أمره أن يقول له كن فيكون، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما قال له الصحابة: "إذًا نُكثر يا رسول الله"، قال: «الله أكثر».[من ذلك ما أخرجه الترمذي في سننه(ح2573)، وقال:وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الوَجْهِ]