المقدم: أخونا أبو سعيد من السعودية نكأ الجرح -إن صح أن يقال- تحدث عن القدس وقدسية المكان، وأنه يعد كقدسية مكة والمدينة، وما يواجهه إخواننا. إن كان لكم من توجيه حفظكم الله يا شيخ؟
الشيخ: السؤال مركَّب من عدة أمور:
أولًا: هل للقدس حرمة؟
الجواب: نعم، بلا ريب.
القدس مكان معظم محترم، يقول الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ الإسراء: 1، وهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو موضع معراجه، فقد عُرج به من القدس صلى الله عليه وسلم واجتمع بالأنبياء، فهذا مكان له خاصية وميزة لا يرتاب فيها إنسان.
هل هو حَرَم؟
الجواب: لا، ليس حرمًا.
المقدم: وإن كان شائعًا دائمًا في وسائل الإعلام: الحرم القدسي.
الشيخ: يقولون: ثالث الحرمين الشريفين، بعضهم يقول: ثالث، ولا يلزم أن يكون حرمًا، وبعضهم قد يفهم أنه حرم كمكة.
لما نقول: حرم، معنى الحرم أنه تلزمهم فيه أحكام معينة، من عدم قتل الصيد، ومن عدم اختلاء الشجر، أحكام تفصيلية تخص الحرم، القدس لم يرد فيها مثل هذا، فليست حرمًا بهذا المعنى، لكن كونه ليس حرمًا لا يعني أنه ليس له حرمة، أو أنه كسائر البقاع، لا، هو مبارك، وقد بارك الله تعالى حوله، فضلًا عن أن يبارك فيه، فالبركة فيه أعظم من البركة فيما هو حوله.
هل له ميزة؟
نعم، له ميزة، في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثةِ مَسَاجِدَ؛ المسْجِد الحَرَام، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالمسجِد الأَقْصَى» البخاري (1189)، ومسلم (1397) .
هل هو في الفضل كمكة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: لا، فضيلته متأخرة، دون فضيلة هذين المكانين، وذلك فيما جاء من الأحاديث المبيِّنة لفضيلة الصلاة في مكة، وفي الحرم المكي، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاةٌ في مَسجِدي هَذَا» ويشير إلى مسجد المدينة «خيرٌ مِن ألفِ صلاةٍ فيما سِوَاهُ إلَّا المسجِد الحَرَام» البخاري (1190)، ومسلم (1394) .
ومعنى هذا أنه من حيث مضاعفة أجر الصلاة: أولًا مكة، ثم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم المسجد الأقصى لورود بعض الأحاديث بأن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة، وإن كان بعض العلماء يرى أن في أسانيد مضاعفة الصلاة في المسجد الأقصى ضعفًا.
ولو لم يكن فيه إلا أنه من المساجد التي تُقصَد، حتى ولو لم يرد فيه مضاعفة، لكان هذا دالًّا على فضيلته وخصوصيته.
من حيث الجوانب التاريخية، لا شك أن المسجد الأقصى حافل بتاريخ عريق يضرب في أطناب وعمق الزمان، بالرسالات، والنبوات، وحوادث عظيمة، ففي أرض الشام كانت نبوة إبراهيم عليه السلام، وذريته، وكان موسى، وكان عيسى، وكانت رُسُل توالت وتعاقبت في تلك الديار وتلك البلاد.
هذا ما يتصل بقدسية المكان وحرمته، ولا بد أن توضع الأمور في نصابها، هذه أرض إسلامية مقدسة، لها منزلة ومكانة، وهي أرض المحشر، وهذا مما خص الله تعالى به هذه البقعة أنها أرض المحشر. وفيها يُقتل الدجال، وهو أعظم فتنة تجري على البشرية، شرُّ غائبٍ يُنتظَر، تُقتل وتباد فتنته في تلك الأرض المباركة.
ما يتصل بواقع المسلمين اليوم، وما يتصل بتقصيرهم، فلا أحد يقول: أنا غير مقصر، حكامًا ومحكومين، الجميع يقر بالتقصير تجاه هذه القضية. وأنا عندي أن ننطلق من أرضية التقصير، يعني أننا نقر بأننا لم نقم بكل ما يجب، الناس يتفاوتون في القيام بما يجب عليهم، لكن الجميع يشترك أننا لم نقم بكل ما يجب علينا تجاه هذا المسجد الأقصى.
اليهود والصهاينة منهم على وجه الخصوص يعملون عملًا دائبًا ليل نهار، من غير كلل ولا ملل، لتحقيق مآربهم، وانتهاك حرمة هذا الموقع. ومن آخر ما جرى ما سمعناه من ضم بعض المساجد الإسلامية من مسجد بلال، والمواقع التي في الخليل، وهذا المسلسل لن ينتهي، ولن يقف، وهم شديدو العناية بقياس ردات الفعل التي تصدر عن المسلمين عند مثل هذه الانتهاكات.
ولهذا يجب وجوبًا على كل من يستطيع من حاكم أو محكوم، من كاتب أو متكلم، أو سياسي، أو صاحب مال، أو مهما كانت منزلته، أن يبذل ما يستطيع في سبيل إفشال هذا المشروع.
وقد يقول قائل: هم ماضون، نقول: هم ماضون ويجب أن نمضي ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ يوسف: 21، والعاقبة للمتقين، وهي أرض الله تعالى يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، فبالتالي يجب أن نبذل كل جهد ممكن، وأن نصبر.
لكن ليس من الحكيم، ولا من الراشد، أن يوجه بعض المسلمين سهامهم إلى بعض، بالتلاوم، والشتائم، والتخوين، ونترك عدونا يحقق ما يريد. ولهذا الذي يحصل في بلاد فلسطين من الانقسام والانفصال هو من أكبر منى اليهود الذين فعَّلوا كل الفوائد التي يمكن أن تُستثمر وتُستفاد من هذا الانقسام، مهما كانت مبرراته، ومهما كانت دواعيه، ومهما كانت مسوغاته، يبقى أن المستفيد الأكبر من هذا الانقسام، المغذي له، الساعي إلى إبعاد الفريقين، وتعميق الشقة بين أبناء المسلمين في كل البلاد، وفي فلسطين خاصة، هم اليهود، فلذلك يجب أن نعي مسئولياتنا.
المسلم العادي قد تَضيق به السبل، ويحترق قلبه في أنه يرى ما لا يمكن أن يدفعه، وما لا يمكن أن يقدم معه شيئًا مُثمِرًا، لكن أقول: يبقى باب لا يُغلَق، وطريق لا يُصد، وهو مأمون المخاطر، هو أن يلجأ المؤمن إلى ربه جل في علاه بكل طاقته وإخلاص قلبه أن يحفظ الله تعالى للمسلمين مقدساتهم، وأن يرد كيد هؤلاء إلى نحورهم، وأن يُعِز الإسلام وأهله، وأن يقيض لأهل الإسلام من يرفع عنهم ما نزل بهم من ضيم وذل.
المقدم: اللهم آمين.