الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، له الحمد كله أوله وأخره، ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرةٌ من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرً ونذيرا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا مُنيرا، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاد بالعلم والبيان والسيف والسناد حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، -فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه- ومن اتبع سنته، وأقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد ..
فهذا هو المجلس الأول في هذه الدروس التي نسأل الله -تعالى- أن يجعلها في موازين الأعمال، وأن يزيدنا بها بصيرًا وهدى، وأن يجعلها عونًا لنا على تحقيق العبادة له جل في علاه.
أيها الإخوة الله -تعالى- خلق الخلق لغايةٍ عظمى، ومقصدٍ أسمى، إذا أدركه الإنسان تبين له سِر الحياة، وسبب الوجود، والغاية من هذا الخلق، وإذا غفِل عنه ولم ينتبه له فاته خيرٌ كثير، إنّ عدم معرفة الهدف والغاية من الخلق والوجود يجعل الإنسان في الدنيا لا يختلف عن سائر المخلوقات التي لم يمنحها الله -تعالى عقلًا- تدرك بها مقاصد الأشياء وغاياتها، قال الله -جل وعلا-: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[الملك:1-2]..
فبين الله في هذه الآية الغاية من خلق السماوات والأرض، الهدف من إيجاد هذا الخلق؛ وهو تحقيق العبودية له -جل وعلا- بسعي الناس في أحسن الأعمال وليس في الأعمال فقط، بل الذي ندب الله -تعالى- إليه، وجعله غاية الوجود، ومقصود الخلق؛ هو أن يشتغل الناس بأحسن ما يستطيعون من عمل ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾.
فالموت والحياة التي محلها هذه الدنيا إنما غايتها هو الاختبار والامتحان للخلق في أعمالهم، فمن جد واجتهد، وصدق في إحسان العمل والعمل بالأحسن يكون قد حقق الغاية من الوجود، الله -جل في علاه- يقول: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذاريات:56].
فالله –تعالى- خلق الناس ذكورهم وإناثهم، عربهم وعجمهم، الأولين والآخرين لهذه الغاية؛ وهي تحقيق العبودية له -جل في علاه- ولهذا كل من غفل عن هذا المقصد فإنه يعيش عيشة لا معنى لها، ولا سعادة فيها، ولا هناء لها، ولا منقلب حسنٍ يؤول إليه، لماذا؟ لأنه لم يشتغل بما خلق له، لأن هذا الجهاز، هذه اللاقطة خلقت، وصنعت لأجل أن تلتقط الصوت، وتنقله إلى جهازٍ يكبر الصوت، فإذا استعملها الإنسان في غير ذلك؛ هل ينتفع منها؟ إذا استعملها مثلًا للكتابة، هل يصلح أن تُستعمل للكتابة؟ هل يصلح أن تُستعمل لغير ما صنعت له؟ الجواب: لا، قيمتها في أن تُستغل، وتُستثمر، ويُنتفع بها في ما خُلقت له، فيما صُنعت له، كذلك أنا وأنت خلقنا الله -تعالى- لعبادته، فإذا غفلنا عن ذلك، ولم نعمر حياتنا بتحقيق العبودية له؛ فاتنا خيرٌ كثير، وفضلٌ كبير، بسبب عدم اشتغالنا بما خلقنا من أجله، إنما خلقنا الله -تعالى- لعبادته، فتش عن عبادة الله في قلبك، ابحث عن عبادة الله في قولك، تفقد عبادة الله في حركاتك، وسكناتك، فإنك إنما خُلقت لعبادته، لا يعني هذا ألا يكون للإنسان اشتغالٌ بأمرٍ من أمور الدنيا التي فطر الله -تعالى- النفوس والناس عليها، الله -تعالى- يقول: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾[القصص:77].
فالدنيا للإنسان منها نصيب يشتغل به، لكن هذا النصيب، وهذا الاشتغال بهذا النصيب من أمر الدنيا إنما هو لأجل تحقيق صلاح الآخرة، وتحقيق إقامة العبودية لله -عز وجل- فكل اشتغالٍ بزائدٍ من أمر الدنيا عن ما يحقق العبودية لله فإنه من الإصراف المذموم الذي يخرج الإنسان عن الصراط المستقيم، ويورطه في ألوانٍ من الضلال، والغي، والانحراف.
الله -تعالى- بين لنا ما الذي أمرنا به، في أول نداءٍ في القرآن الكريم يقول -جل في علاه-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ هذا أول نداء في كتاب الله العظيم، خاطب فيه الناس جميعًا، ليس الخطاب للعرب، ولا لقريش، ولا لفئةٍ من الناس، بل الناس جميعًا في كل زمان، وفي كل مكان، كل من بلغهم هذا الخطاب: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:21].
فنادى الله -تعالى- الناس وأمرهم بما من أجله خُلقوا؛ : عبادة الله وحده لا شريك له، ولذلك يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
ولهذا يجب على المؤمن أن يعرف أن أول ما أمر به؛ وأول ما يطلب منه؛ هو أن يحقق العبودية لله -جل وعلا- فيعبده وحده لا شريك له، لا يشرك معه أحدًا، لأن العبادة حقيقتها؛ ألا يكون في القلب محبوبٌ إلا الله، وألا يكون في القلب مُعظمٌ إلا الله، وألا يكون في القلب من يُخاف، ويُرجى، ويُحب إلا الله -جل في علاه- فإذا حقق العبد هذه المعاني لله وحده لا شريك له فإنه يكون قد أصلح قلبه الذي به يتبع صلاح الجوارح كما قال النبي -صلى الله وعليه وسلم-: «ألا وإن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» صحيح البخاري (52)، ومسلم (1599).
لهذا من المهم يا إخواني أن نتفقد هذا المعنى، لا صلاح لنا إلا بتحقيق "لا اله إلا الله"، فلا اله إلا الله أول مطلوب من كل مخلوق، وهي أخر مطلوب من كل إنسان، فمن كان أخر كلامه من الدنيا "لا اله إلا الله" دخل الجنة، وليس المقصود أن يقولها بلسانه، ويخالفها بقلبه، أو بعمله، أو بسلوكه، لا، المقصود أن يقولها بقلبه، ولسانه، وأن يترجمها في عمله، بأن يكون لا معبود له حقٌ إلا الله في قوله، وفي قلبه، وفي عمله، هذا معنى "لا اله إلا الله".
"لا اله إلا الله" أي: لا معبود حقٌ إلا الله، لا أحد يستحق العبادة إلا هو -جل وعلا-: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ﴾[يونس:32].
ليس بعد عبادة الله إلا ضلال، لهذا من المهم أيها المؤمنون أيها الإخوة من المهم أن نعتني بهذا الأصل الذي هو القاعدة التي يبنى عليها كل عمل، فكل عملٍ خالٍ من التوحيد لا ينتفع به صاحبه.
جاء في الصحيح من حديث أبو هريرة أن النبي -صلى الله وعليه وسلم- قال: يقول الله -تعالى- في الحديث الإلهي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معي غيري تركته وشركه» صحيح مسلم (2985)، فكل عملٍ يخلو من التوحيد فهو مردود على صاحبه، الله لا يرفعه، ولا ينظر إليه، ولا يحبه، وليس له مقام عند رب العالمين، لذلك من المهم أن تحقق في كل قولك، وفي كل عملك، وفي كل عباداتك الإخلاص لله، العمل إذا فقد منه الإخلاص فإنه لا ينتفع منه الإنسان، قال الله -جل وعلا-: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[البينة:5]..
هذا الدين الذي أصله توحيد الله وإفراده بالعبادة هو الدين القيم الذي به تقوم العبادة لله، الذي به يسلك الصراط المستقيم، وينال رضى رب العالمين ﴿قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾ [الزمر:14].
الله يأمر رسوله أن يبلغنا أنه إنما أُمر بأن يعبد الله مخلصًا له دينه، أي: مخلصًا له عمله، لا يشرك في عمله أحدًا، فلا يدعو سوى الله، ولا يستغيث غيره، ولا يذبح لسواه، ولا ينظر لغير الله -عز وجل- ولا يُحب إلا الله، ولا يعظم إلا الله، هذه المعاني القلبية والعملية يجب أن تكون لله وحده لا شريك له، ثم أن هذا الشرع الحكيم، والدين القويم الذي جاء به سيد المرسلين، نبينا محمد -صلى الله وعليه وسلم- يقوم على قاعدة وأركان، قاعدته التوحيد، ألا نعبد إلا الله، وألا نعبده إلا بما شرع، فليست العبادة شيء يقترحه الناس، ويأتوا به من قِبل عقولهم، وأذهانهم، وإنما العبادة دينٌ يدينون الله -تعالى- به، لا يخرجون فيه عن حدود الشريعة، بل هم سائرون على ما كان عليه سيد ولد أدم، وهذا معنى "أشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله"، هذه هي القاعدة التي تبنى عليها الديانة، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾.
«بني الإسلام على خمس» صحيح البخاري (8)، ومسلم (16)، كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله وعليه وسلم-: «بني الإسلام على خمس» أي: أن الإسلام أُقيم على خمسة قواعد، على خمسة أصول، على خمس دعائم، لا يقوم إلا بها، «شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»، وهذا هو الأصل الأول الذي تقوم عليه كل العبادات، الديانة لا تقوم إلا بتحقيق هذا الأصل، وهذه الشهادة التي يرددها المسلمون ويعرفونها، وتتكرر على أسماعهم في اليوم مرات، هذه الشهادة "أشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله" حقيقتها: أنك لا تعبد إلا الله، ولا تعبد الله إلا بما شرعه، وبينه على لسان رسوله -صلوات الله وسلامه عليه-، ولذلك هذه الشهادة تحقق شرط قبول العمل، فالعمل مهما كان لا يقبل إلا بشرطين: أن يكون لله خالصا، وأن يكون على وفق هدي النبي صلوات الله وسلامه عليه.
فبهذين الوصفين يتحقق لك قبول العمل، لا يمكن أن يقبل لك عمل من عامل يخل بواحدٍ من هذين، أن يكون عمله لله خالصًا، فلا يقصد بهذا العمل سواه، وأن يكون هذا العمل على نحو ما كان عليه عمل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فإن هذا يحقق لك أشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله. فشهادة أن لا اله إلا الله: أن لا تعبد إلا الله.
وشهادة أن محمدًا رسول الله: إلا تعبد الله إلا بما كان عليه عمله -صلى الله وعليه وسلم- ألا تعبد الله إلا بما جرى، وبين في كتابه، وعلى وفق سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
بعد هذا تأتي الأركان التي يقوم عليها هذا البناء، بناء الدين، هذا البناء لم يقم إلا على أصول، وعلى أركان، وعلى دعائم، إذا اختل شيءٌ منها اختل البناء، أرأيت بيتًا قائمًا في مكانٍ من الأرض هل يمكن أن يقوم هذا البناء وينتفع به أصحابه إذا لم يكن له قواعد، وأركان، ودعائم يعتمد عليها ليشيد ويرتفع؟ الجواب: لا، ولا فرق في ذلك إلى أن يكون بيتًا من طين، بيتًا من خشب، بيتًا من تسليح، بيتًا من وبر أو شعر، لابد لكل بيتٍ يقام من أركان، الإسلام مثله رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- بالبناء، وبيّن الأركان والأصول التي يقوم عليها هذا البناء، فقال -صلوات الله وسلامه عليه-: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا اله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»، وإنما عد هذا دعامة واحدة، وركنًا واحدًا، لأنه لا يمكن أن يتحقق جزءٌ من هذين من هاتين الجملتين إلا بالإقرار بالأخر، فشهادة أن لا اله إلا الله تستلزم شهادة أن محمدًا رسول الله، ومن شهد أن محمدًا رسول الله فلابد له أن يشهد بأنه لا اله إلا الله، فهما شيءٌ واحد، يتحقق بهنا صلاح كل عمل، وقبول كل سعي، ويتحقق بهما مقصود الحياة بأن يكون عملك على أحسن ما تستطيع، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾[الملك:2] ؛ وإنما حسن العمل يتحقق لكونه لله خالصا وللنبي -صلى الله وعليه وسلم- متبعا، ثم ذكر النبي -صلى الله وعليه وسلم- جملة من أصول الديانة، ودعائم الإسلام التي إذا نظرت وجدت أنها لا تخلو من المعنيين الأولين: عبادة الله وحده، واتباع النبي صلى الله وعليه وسلم.
وهي: «إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت»، كل هذه الأعمال التي تمثل أصول دين الإسلام، وتمثل دعائمه، وتمثل أركانه التي يبنى عليها لابد فيها من أن تكون لله خالصة، وللنبي -صلى الله وعليه وسلم- متبعة، فأنت في صلاتك لا تصلي إلا لله، فأنت مأمورٌ بأن تقيم الصلاة لله وحده لا شريك له، فتتوجه إليه بقلبك، وقالبك، ثم بعد ذلك لابد لك في هذه الصلاة أن تمتثل ما أمرك به سيد ولد أدم -صلوات الله وسلامه عليه- حيث قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» صحيح البخاري (631)، فلابد من أن يكون عملك خالصًا، وأن يكون على وفق ما كان عليه عمله -صلوات الله وسلامه عليه-،فتكون صلاتك لله وحده لا شريك له، وتكون صلاتك متحريًا فيها كيف كان يصلي؟ كيف كان يقوم؟ أين كان يضع يده؟ أين كيف كان يسجد؟ كيف كان يقول؟ ما هي أحواله في الظاهر والباطن في صلاته حتى تحقق «صلوا كما رأيتموني أصلي»؟
ثم بعد ذلك لنعلم أن هذه الصلاة تنقسم إلى قسمين وهذا في كل أركان الإسلام الباقية:
- منها ما هو فرض.
- ومنها ما هو نفلٌ وتطوع.
الفرض لا يمكن أن يقوم الدين السليم الصحيح إلا به فالفرض هو ما طلب الله ـ تعالى ـ فرض الله ـ تعالى ـ ما كتب الله تعالى على الناس أن يأتوا به، فلابد من الإتيان به، وفي الصلاة فرض الله ـ تعالى ـ خمس صلوات، هذه الصلوات لماذا فرضها الله خمسًا؟ لماذا لم يفرضها مرةً واحدة؟ الصلاة فرضها الله أول ما فرضها خمسين صلاةً، ثم إنه جرت المراجعة بين نبينا صلوات الله وسلامه عليه، وبين ربه الرحمن الرحيم ـ جل في علاه ـ حتى غدت خمس صلوات، هي في العدد (خمس)، وفي الميزان (خمسون) بفضله وإحسانه، لكن هذا التكرار يا إخواني للصلاة في اليوم لحاجة الناس إليها، أرأيتم طعامكم وشرابكم هل تكتفون من الطعام والشراب الذي يقيم أبدانكم بأكلةٍ واحدة في اليوم، وشربةٍ واحدة في اليوم، أم أن ذلك مقسم على حسب ما تحتاجه الأبدان في مأكلها ومشربها، غدوةً وأصيلا، صباحًا ومساءً، على حسب ما تقتضيه حوائج الناس؟ الطعام يأكله الناس في يومهم مرات، لماذا؟ لأن ابدأنهم تحتاج إلى هذا الطعام حتى تقوى على العمل، حتى تقوى على الإنتاج، على تسير سيرًا سليمًا في حياتها، الصلاة كذلك هي غذاء القلب، هي قوت الروح، ولذلك فرضها الله -تعالى- خمس صلوات على نحوٍ بديع، في أوقات التحولات في اليوم، لأن الناس بحاجة إلى أن يتذكروا، إلى أن يغذوا قلوبهم بطاعة الله -عز وجل- وبذكره، وبالتضرع له -جل وعلا- للوصول إلى غاية هذا الخلق، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فلذلك لا تقول لماذا لم يأتي لماذا لا تكون صلاة واحدة فقط؟ لماذا نقرأ الفاتحة في كل ركعة؟ لأننا محتاجون إلى ذلك، هذا كالغذاء تمامًا، وأنت تعرف أن الغذاء أنواع:
- منه ما هو رئيسي يقوم عليه البدن من الأطعمة.
- ومنه ما هو تكميلي يقوي البدن ويصلحه.
كذلك الصلاة:
- منها ما هو رئيسي (فرض).
- ومنها ما هو تكميلي (نفل)
«ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل بعد الفرائض حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به...» إلى آخر الحديث.
أما الزكاة فكذلك على هذا النحو، الزكاة فرضها الله -تعالى- طُهرةً للمال، وزكاةً للنفوس، وبه تصلح أحوال الناس وأعمالهم، وبه ينزل الله -تعالى- البركة لهم في الحال، والعمل والمال ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ﴾[التوبة:103]..
المنتفع من الصدقة هو باذلها، المنتفع من الزكاة هو صاحب المال الذي يخرجها رغبة لله -عز وجل- وطاعةً له، وسعيًا في إخراج ما يحب فلينال ما يحبه من ربه -جل في علاه- ولهذا لما ذكر الله -تعالى- فرض الزكاة لم يذكر ذلك، لم يذكر في منافعها ابتداءً إطعام الفقير، والمسكين، وسد حاجة المحتاج، لا، ذكر نفعها العائد إلى العامل قبل غيره، ليدرك أن الزكاة والمال الذي تخرجه، والصدقة التي تبذلها أنت المنتفع بها، أنت المدرك لنفعها، يقول الله -جل في علاه-: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾[التوبة:103]..
كل الفوائد المذكورة في الزكاة هي عائدة إلى العامل، ثم بعد الفرائض الواجبة في الأموال شرع الله -تعالى- بزل أنواع الصدقة لتحصيل فضل الله -تعالى-، وعطائه، ونيل إحسانه -جل وعلا- قال الله -تعالى-: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ* أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ* يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ* أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾[البلد:13-16]..
فالصدقات بأنواعها التي يوصل فيها الإحسان إلى الناس مما يجرى الله -تعالى- بها عليه الأجر، والفضل، والعطاء، والمن في الدنيا والآخرة.
بعد هذا ذكر الصوم، والصوم مقصوده، وغايته، وتحقيقه التقوى لله -عز وجل-، وهو فرضٌ، ونفلٌ كالصلاة، والزكاة، وسائر العبادات، المنتفع منها هو أنت، ثم بعد ذلك ذكر الحج فقال -صلى الله وعليه وسلم-: «وحج البيت من استطاع إليه سبيلا»، وحج البيت المقصود به قصد هذه البقعة المباركة، قصد هذه البنية التي عظمها الله -تعالى- وحرمها ولم يحرمها الناس، فإن مكة حرمها الله، وجعلها محلًا لطاعته، وعبادته، فرض الله على الناس المجيء إليها، يقول الله -جل وعلا-: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ*فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾[آل عمران:96-97].
انظر هذه المقدمة التي ذكرها الله -تعالى- قبل فرض الحج، فإن الله ذكر قبل فرض الحج لماذا نأتي إلى مكة؟ لماذا خص الله -تعالى- هذه البقعة بأن اوجب على الناس أن يأتوا إليها فيأتوها من كل حدبٍ وصوت ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا﴾ أي: يمشون.
﴿يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ﴾ أي: على وسائل النقل من المركوبات.
﴿وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾[الحج:27-28]..
هذا الحج غرضه، وغايته هو إدراك عظمة ربنا -جل وعلا- بالقصد إلى هذه البقعة المباركة ليشهد من آيات الله الدالة على عظمته، الدالة على بديع صنعه، الدالة على إتقانه -جل في علاه- ما ينشرح به صدره، أن أول بيتٍ وضع للناس بيت لا للسكنى، إنما أول بيت عُبد فيه الله -عز وجل- هو هذا الذي نحن فيه، وفي رحابه ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ مبارك، مبارك على قاصده، مبارك على من جاء إليه، مبارك على من عظمه، مبارك على من توجه إليه في الدنيا كلها، فأيما أحدٍ صلى وقال الله أكبر وتوجه إلى القبلة؛ فإن الكعبة والبيت مبارك عليه بما يجريه الله -تعالى- له من الأجور والثواب بهذا القصد وهذا الاستقبال ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ هدى للعالمين: فيه الهدايات العامة التي لا تختص في أمن الناس؛ بل للعالمين في كل زمان، ومكان منذ أن خلق الله -تعالى- الأرض، لكن ذلك عظم لبعثة النبي -صلى الله وعليه وسلم- من هذه البقعة المباركة، فكان ما جاء به من الهدى والنور عامًا على كل أحدٍ، ولذلك رسالته عامة لكل أحد، وأين كانت رسالته؟ من أين انبثقت؟ وأين نزل عليه القرآن؟ أنه نزل عليه في هذه البقعة الطيبة، المباركة، في مكة، في الحرم الذي جعله الله -تعالى- هدىً للعالمين، فأشرق النور بهذه الرسالة، أشرقت الأرض بعد ظلماتها، وأضاءت الدنيا بعد هذه الظلمة التي عمت البشرية، فأخرج الله الناس من الظلمات إلى النور بهذه الرسالة؛ ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾[الصف:9]..
أن هداية هذه البقعة للعالمين هي إخبار وإعلام بأن الرسالة التي انبثقت من هذه الأرض، وخرجت من هذا البلد الأمين ليست رسالة خاصة بعرب، ولا خاصة بزمان، بل هي رسالة خاصة للأنس والجن، قال الله -تعالى-: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾[الفرقان:1]..
فالنبي -صلى الله وعليه وسلم- رسالته رسالة عامة، ليست رسالة خاصة بفئة من الناس، أو بجهة من الجهات، أو بجنس من الأجناس، بل هي عامةٌ لكل أحد، شاملة لكل من بلغته، ما من أحدٌ تبلغه هذه الرسالة إلا وهو مطالبٌ بأن يؤمن بأن محمد بن عبد الله رسول رب العالمين، ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾[الأعراف:158]..
فهو رسول لكل أحد -صلوات الله وسلامه عليه- ممن بلغته هذه الرسالة لابد له أن يؤمن به، وأن يتبعه -صلوات الله وسلامه عليه- وسعادته، ونجاته، وفلاحه في مقدار أخذه بما جاء به من الهدى، ودين الحق صلوات الله وسلامه عليه.
الحج أيها الإخوة لهذه البقعة هذه بعض أسبابه، وهذه بعض المعاني التي ذكرها الله -تعالى- في مصوغات المجيء إلى هذه البقعة، ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ*فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾[آل عمران:96-97].
هذا الحرم فيه آيات واضحات، ظاهرات منها: مقام إبراهيم، هذا المقام الذي قام عليه إبراهيم قبل سنوات مديدة لعمارة هذه البقعة، ورفعها، وتشييدها، علامة من علامات عناية الله بهذه البقعة، وإقامته لها، وحفظه لها، وصيانته لها، ولذلك قال: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾[آل عمران:97].؛أمنًا قدرًا، وشرعًا، من دخل هذا الحرم المبارك فإن له من الله التأمين قدرًا، وله من التامين شرعًا فلا يقتل، لا يؤمن فيه سلاح، ولا يعظم شوكه، ولا ينفر صيده، ولا تلتقط لقطته، كل هذا لتأمين كل ما على هذه الرحاب المباركة في هذا الحرم الذي حرمه الله -تعالى- وعظمه.
ثم بعد ذلك قال -جل وعلا- بعد هذه المقدمة قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾[آل عمران:97]..
استمع إلى هذه الآية الموجزة التي ذكر الله -تعالى- فيها فرض الحج، فذكر الله -تعالى- في فرض الحج أولًا الغرض والمقصود وهو الله -جل في علاه- فنحن نحج، والمسلمون يحجون، والمؤمنون يقصدون هذه البقعة لا لغرضٍ إلا لطلب ما عنده، ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾.
ولذلك ينبغي أن يفتش المؤمن على هذا المعنى في أقواله وأعماله، فإن العمل إذا كان لله خالصًا وقع موقع القبول، وإذا فات فيه الإخلاص، وتخلف عنه حسن القصد، وشابهه ما شابهه من المقاصد والإرادات غير السليمة كان ذلك أما محبطًا لعمله، وأما أن يكون منقصًا لأجره، فلذلك يجب على المؤمن أن يحرص على تحقيق الإخلاص لله بأن يكون مجيئه إلى هذه البقعة إنما هو لله وحده لا شريك له.