الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، له الحمد كله أوله وآخره ظاهره وباطنه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:
فأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعل مجلسنا هذا نافعًا مباركًا، وأن يثقل به الموازين، ويعلي به الدرجات، ويزيد به الإيمان، ويصلح به الأعمال.
هذه الليلة هي أول ليالي العشر المباركة، التي أثنى الله تعالى عليها، وأقسم بها في كتابه؛ حيث قال -جل في علاه-: ﴿وَالْفَجْرِ﴾ [الفجر:1] ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر:2]، والليالي العشر أولها هذه الليلة، التي نحن في بدايتها، فبغروب شمس اليوم الماضي دخلت العشر، التي أقسم الله ـ تعالى ـ بلياليها، والتي قال فيها -جل وعلا-: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾[الحج:28].
فالأيام المعلومات التي شرع الله ـ تعالى ـ فيها ذكره وتعظيمه وتمجيده هي هذه الأيام، وهذه الليالي التي نحن في أولها، فالليلة هي ليلة الأول من شهر ذي الحجة، وهي أول ليالي الأيام المعلومات، التي ندبنا الله ـ تعالى ـ فيها إلى ذكره وشكره، وتمجيده وتقديسه، وإلى سائر العمل الصالح، فقد جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما العمل في أيامٍ أحب إلى الله من هذه الأيام»، يعني العشر الأول من ذي الحجة. قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيء» سنن الترمذي (757)، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
فنبينا -صلوات الله وسلامه عليه- بين منزلة العمل الصالح في هذه الأيام، وهو عند الله بمنزلة عظيمة إذ أنه أحب الأيام يتقرب فيها الناس إلى الله ـ تعالى ـ هذه الأيام العشر، وليعلم أن العمل الذي يحبه الله ـ تعالى ـ يعطي عليه عطاءً جزيلًا يقبله، ويرضى عن صاحبه، ويجزي أجره ومثوبته.
ولذلك حريٌ بكل مؤمن يرجو ما عند الله -عز وجل- من الخير والبر، ويؤمل ما عند الله -عز وجل- من الفضل والعطاء ألا يحرم نفسه كل عملٍ صالح في هذه الأيام، فإن النبي -صلوات الله وسلامه عليه- لم يقيد ذلك بعملٍ دون عمل بل قال: «ما من أيامٍ العمل الصالح»، وهذا يشمل كل عمل يعمله الإنسان مما جاء به القرءان، أو جاء به سيد الأنام صلوات الله وسلامه عليه.
فكل عملٍ جاءت به الشريعة الاشتغال به في هذه الأيام تقربًا إلى الله -عز وجل- هو من أحب ما ينبغي أن يجتهد به الإنسان، ويتقرب فيه إلى الله -عز وجل- سواءٌ كان ذلك في الصلاة، أو كان ذلك في الصدقة والإحسان، أو كان ذلك في الصوم، أو كان ذلك في سائر الأعمال الصالحة، ومن أشرف ذلك الحج.
فإن هذه الأيام هي أيام الحج، وهي شهوره التي يقصد الناس فيها هذه البنية المباركة، وهذا المكان الطاهر تعظيمًا لله -عز وجل- واستجابةً لما فرضه على الناس في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾[آل عمران:97].
فحريٌ بنا أيها المؤمنون أن نجتهد في كل عملٍ صالح، وليعلم المؤمن أن العمل الصالح الذي ندب الله تعالى إليه في هذه الأيام نوعان:
- النوع الأول:هو ما فرضه الله ـ تعالى ـ عليك، وهذا من أحب ما تقربت به إلى الله -عز وجل- ما فرض الله عليك من الواجبات في الصلاة، في الزكاة والصدقة والنفقة، في الصوم، في الحج الواجب، في بر الوالدين، في صلة الأرحام، في إصلاح ذات البين، في الوصية بالجار، والإحسان إليه، وإكرامه، في الوفاء بالعهود والعقود، في أداء الأمانات، في كل شأنٍ من الشئون من الواجبات هو أفضل ما تتقرب به إلى الله في هذه الأيام.
جاء في صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: «من عاد لي وليًا، فقد آذنته بالحرب»، من آذى لي وليًا، وفي رواية: «من عاد لي وليًا، فقد آذنته بالحرب»، ثم قال -جل وعلا- هذا الحديث حديثٌ إلهيٌ قدسي: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضته عليه» صحيح البخاري (6502).
فأحب ما تتقرب به إلى الله -عز وجل- في هذه الأيام المباركة، هو ما فرضه الله ـ تعالى ـ عليك، فإنه أجل وأعلى ما تتقرب به إلى الله عز وجل.
فقد قال -صلوات الله وسلامه عليه- فيما يخبر عن الله، يقول الله ـ تعالى ـ: «وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ مما افترضته عليه»، ثم قال: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل»، هذه المرتبة الثانية.
وهذا النوع الثاني من العمل: وهو التقرب إلى الله بالنوافل والمستحبات والتطوعات، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يحرص ويتفقد نفسه أولًا في هذه الأيام بالواجبات، أنت ما حالك في توحيد الله؟ ما حالك في محبته؟ ما حالك في تعظيمه، وإجلاله؟
فإن ذلك أصل العبادة، أصل العبادة قائمٌ على محبة الله وتعظيمه، فعبادة الرحمن غاية حبه، مع ذل عابده هما قطبان، لا تقوم العبادة إلا بغاية الذل لله، والانكسار له، والافتقار إليه، والتعظيم له، وغاية المحبة له -جل في علاه- فتش قلبك، فإن ذاك أمرٌ مهم؛ لأن صلاح القلب يتبعه صلاح الأعمال والبدن «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، قال ذلك سيد ولد آدم -صلوات الله وسلامه عليه- فيما رواه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير صحيح البخاري (52)، ومسلم (1599).
فينبغي لك أن تفتش قلبك، فإن إصلاح قلبك أهم ما اعتنيت به في هذه الأيام، وفي كل الزمان، لكن هذه الأيام أداء الواجبات، ومنه إصلاح القلب وإفراد الله بالعبادة أعظم ما تتقرب به إلى الله -عز وجل- ففتش قلبك، واحرص على أن يكون لله خالصًا في محبته، وفي تعظيمه حقق لا إله إلا الله، فإن لا إله إلا الله معناها (لا معبود حقٌ إلا الله).
فلا يتوجه قلبك إلى سواه، لا تعلق قلبك بأحدٍ من الخلق مهما علا جاهه، وارتفعت منزلته، وعظمت قوته، فالكل لله عبد، والجميع ذليلٌ خاضعٌ له -جل في علاه- ومن توجه إلى غيره لم يصب خيرًا، بل إنما يضرب في ضلال، ومن قصد غير الله بتعظيمٍ ومحبة، فإنما يوقع نفسه في شرك العذاب في الدنيا والآخرة، فإن أشقى القلوب هي القلوب التي عظمت غير الله، وأشقى القلوب هي القلوب التي تعلقت بغير الله محبةً، ولذلك أول من أوائل صور الشرك التي ذكرها الله تعالى في كتابه محبة غيره، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾[البقرة:165]، هذا حالهم.
ما حال المؤمنين؟ يقول الله ـ تعالى ـ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾[البقرة:165]، فالمؤمنون أعظم محبةً لله؛ لأنهم أخلصوا قلوبهم له، فليس في قلوبهم محبوبٌ سواه -جل في علاه- وكل حبٍ لغيره حبٍ عبادي لغيره، فإنه شقاءٌ على صاحبه، ويدخل الإنسان في متاهات وعناء في الدنيا والآخرة.
لذلك فتش قلبك في هذه الأيام، وخلصه لله وحده لا شريك له، ثم أيضًا انظر في عملك فيما فرض الله ـ تعالى ـ عليك من الواجبات، من صلاةٍ وزكاةٍ وحج، وغير ذلك وصومٍ وغير ذلك.
فالصلاة، كيف أنت فيها؟ هذه الخمس الصلوات التي كتبها الله ـ تعالى ـ عليك، كيف أنت فيها؟ هل أنت محافظٌ عليها؟ هل امتثلت ما أمر الله تعالى في قوله: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾[البقرة:238]، هل نحن محافظون على الصلاة؟ سل نفسك هذا السؤال، واجعل هذه الأيام مبدأ للإصلاح، إن كنت مقصرًا فيما مضى بإضاعة الصلاة، وعدم إقامتها، فليكن من الليلة من اليوم توبة صادقة، أن تقيم الصلاة على نحو ما أمرك الله تعالى به، محافظة عليها في أركانها في شروطها، في واجباتها، في سائر حقوقها.
فإن التوبة إلى الله في هذه الأيام محل قبولٍ وإعانة وتسديد، ولذلك أمر الله تعالى بها، في هذه المواقف؛ حيث قال: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾[البقرة:198]﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾[البقرة:199]، اطلبوا من الله المغفرة، اطلبوا من الله التوبة، والمغفرة إنما تنال، وأعظم ما تنال به المغفرة من الذنوب التوبة.
فالتوبة، تهدم ما كان قبلها، التوبة تزيل كل الخطأ والعصيان والذلل، والذنب، لذلك احرص يا عبد الله أيها المؤمن، يا من تريد نجاتك، يا من تريد السعادة في الدنيا والآخرة، احرص على إقامة سيرك، واجعل هذه الأيام مبدأ إصلاح في صلاتك، محافظتك عليها في الفروض والواجبات، كيف أنت فيها؟ واعلم أنه بقدر ما تضيع من صلاتك يضيع من دينك.
ولذلك قال الإمام أحمد -رحمه الله- كلمةً عظيمة، فقال: "إذا أردت أن تعرف قدر الإسلام في قلبك، فانظر إلى قدر الصلاة في قلبك"، إذا أردت أن تعرف ما نصيبك من الإسلام وتعظيمه، والفرحة به، فانظر إلى قدر الصلاة في قلبك، فإن الإسلام في قلبك بقدر الصلاة في قلبك تعظيمًا، وعنايةً ومحافظةً وإقامة.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على طاعته، وإن يسلك بنا وإياكم سبيلًا، وأن يعيننا على أداء الحقوق التي فرض علينا من حقه وحق عباده، أيضًا تفقد نفسك، فيما يتعلق بسائر الواجبات الشرعية في الزكاة في الصوم في غير ذلك من الأعمال الصالحة الواجبة التي هي حقٌ لله، والتي هي حقٌ للخلق، فإن ذلك مما تصلح به الأحوال، وتستقيم به الأعمال، وهو من القربات التي تدخل بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه العشرة».
كما أنه ينبغي أن يستزيد بعد ذلك الإنسان بكل عملٍ صالح يقربه إلى الله -عز وجل- من الإحسان إلى الخلق، والتقرب إلى الله بالنوافل، في الصيام والصدقة والصلاة، وسائر أوجه الإحسان، فإن ذلك مما يعظم به الأجر، ويقع موقعًا عظيمًا عند الله -عز وجل- في هذه الأيام.
ولهذا ينبغي أن يحرص الإنسان على الاستكثار من ذكر الله، فهو أشرف العمل المستحب، أشرف الأعمال المستحبة، في هذه الأيام كثرة الذكر، ولذلك قال تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾[الحج:28].
وجاء في مسند الإمام أحمد، بإسنادٍ جيد من حديث مجاهد عن عبد الله بن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما من أيامٍ العمل الصالح فيهن أحب إلى الله وأفضل من هذه الأيام»، وهذا نظير ما تقدم في حديث عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه.
الزيادة في هذا الحديث هو قوله -صلوات الله وسلامه عليه-: «فأكثروا فيهن من التكبير، والتحميد والتهليل»مسند أحمد (5446) وقال محققو المسند: حديث صحيح، أي أكثروا فيهن من الذكر، تكبيرًا، بقول (الله أكبر الله أكبر) (الله أكبر كبيرًا)، والتهليل بقول: (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد). هذا تكبيرٌ وتحميد.
فالهج بهذا في كل أحوالك قائمًا وقاعدًا، وعلى جنب في المسجد وخارجه، وفي سكنك وبين أهلك، وبين أصحابك، وفي كل حين، وفي كل حال، فإن هذه الأيام أيام ذكر، كان الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- يخرجون إلى الأسواق، يكبرون في الأسواق، ويظهرون التكبير ليكبر الناس، فإذا خرجت وجئت وذهبت وجلست بين أولادك، فاحرص على قول الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرا، أو الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
فإن هذا مما يجري به عليك خيرٌ عظيم، فإن ذكر الله من أعظم الأعمال التي يجري الله ـ تعالى ـ بها على الإنسان أجرًا عظيمًا، وفضلًا كبيرًا، يكفي في ذلك أن ذكر الله أعظم أسباب طمأنينة القلب، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28].
ومن اطمأن قلبه صلح عمله، وسكن فؤاده وسعد في محياه ومماته، لذلك احرصوا على ذكر الله وكثرة الذكر، في هذه الأيام المباركة، لعل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم فيها من الفائزين، وأن يوفقنا فيها إلى أن نكون من عباده المقبولين، فهي من خير مواسم الزمان، هذا الموسم، واتقي النار، ولو بشق تمرة.
لا تبخل على نفسك اتق النار ولو بشق تمرة، شق تمرة يعني (جزء تمرة)، إذا استطعت أن تقدمه وأن تحسن به إلى الناس، فافعل فإن عجزت، فبكلمةٍ طيبة، فإن عجزت؛ حتى الذي لا تخاطبه، فتبسمك في وجه أخيك صدقة، كل هذه المعاني من أبواب الخير التي يجري بها عليك أجرٌ عظيم.
ثم إن عجزت عن كل هذه الأبواب من أبواب البر والخير، فاذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لرجلٍ سأله عن الأعمال الصالحة، أرأيت يا رسول الله! إن ضعفت عن بعض العمل؟ يعني لم استطع أن أفعل الأعمال الصالحة التي ندبتني إليها، قال له: «كف شرك عن الناس، فإن ذلك صدقةٌ منك على نفسك» صحيح مسلم (84).
يعني عندما تحتسب الأجر في أنك لا تؤذي الناس، وأن تكف شرك عنهم هذا من العمل الصالح الذي تؤجر عليه، وهو صدقة منك على نفسك، يثيبك الله ـ تعالى ـ عليها، لنحرص على هذه المعاني، ونسأل الله من فضله، ومن صدق الله صدقه الله، ومن طلب ما عند الله، وفقه الله ـ تعالى ـ إلى فضلٍ عظيمٍ، وأجرٍ جزيلٍ وخيرٍ كبير.
نسأل الله ـ تعالى ـ أن يبلغنا وإياكم فضيلة هذه الأيام.